وإذا مت مت غير فقيد
فاطلب العز في لظى ودع الذ
ل ولو كان في جنان الخلود
رعونة
غادر المتنبي بغداد والغيظ يمزق فؤاده، والغل تغلي في نفسه مراجله، لقد كان يظن أن الأدباء والشعراء سيتنافسون في إجلاله وتكريمه، ويتسابقون إلى التقاط كل كلمة تخرج من فيه كأنما هي قرآن مبين، ويقتتلون على نيل الحظوة عنده والتقرب إليه، ولقد كان يتخيل أن الخليفة سيسرع إلى ملاقاته مرحبا محييا، وأن معز الدولة سيسعى إليه على الأقدام راجيا متملقا، وأن الخلافة ستخلي له قصرا على دجلة من قصور العباسيين يطل منه على رعية مخلصة لأدبه تردد حمده في الغدو والآصال، ولقد كان يتوهم أنه وقد أصبح العلم الفرد في دولة البيان ستجد فيه دار الخلافة علما خفاقا يجمع حولها أقطار العربية، وداعية منقطع النظير يعيد الأوطان المتمردة إلى أحضان بغداد، كان يحلم بكل هذا وهو رجل بعيد الأحلام، وكان يقدر كل هذا وهو رجل ما أصاب مرة في تقدير، وطالما منى نفسه بعد أن خاب في أن ينال ضيعة أو يحكم ولاية أنه بعد أن يمد جناحي نفوذه على عرش الخلافة، سيصبح الآمر في الولاة الناهي في الملوك، فهل حصل من هذه الأوهام على شيء؟ لم يسمع الخليفة السجين أن شخصا يدعى بالمتنبي زار بغداد، ولم يقبل معز الدولة أن شاعرا مستجديا تياها يطأ بساطه، وتكبر عليه المهلبي وعزفت نفسه عن أن يطلب منه شعرا، ثم أغرى به شعراءه، فمزقوا عرضه واعتقلوه في داره فلم يكن يخرج منها إلا خائفا يترقب. هذا ما لقيه في دار الخلافة، لم تر لمواهبه شبحا، ولم تلمح لنبوغه أثرا، ولم تجد فيه إلا شاعرا طليح أسفار كلت يداه من طرق الأبواب. جالت هذه الأفكار بنفس المتنبي وهو يقطع الطريق عدوا بين بغداد والكوفة عائدا إلى موطنه سيفا محطما، وأملا حائرا، وحطاما بشريا، فزفر في حزن وأسى، وقال:
وقت يضيع وعمر ليت مدته
في غير أمته من سالف الأمم!
أتى الزمان بنوه في شبيبته
فسرهم وأتيناه على الهرم
وبعد أيام بلغ الكوفة فألقى بها عصا التسيار، وعزم على أن يعيش بها كما يعيش سراة المدينة، وخلع ثياب الشاعر ولبس عدة الفارس وسلاحه، وعاد إلى قضاء وقته بين الصيد ومجالسة الأدباء والأشراف، وحاول أن ينسى طموحه، وأن يسخر من آماله، وأن يرضى من الغنيمة بالإياب، ويقنع بعد طول الجهاد بالطعام والشراب. وبينما كان يوما عائدا إلى داره إذ رأى ابنه محسدا يسرع إليه ويهمس: سيدي سعد الدولة هنا. - سعد الدولة؟ ابن سيف الدولة؟ - نعم يا أبي، لقد حضر منذ ساعة. فأسرع المتنبي إلى لقائه، وما كاد يراه حتى انكب عليه يعانقه ويقبله ويرحب به. وكان أبو المعالي سعد الدولة في نحو الثالثة عشرة وسيما قسيما تظهر عليه مخايل البطولة، وتنطق في وجهه ملامح العروبة، فاتجه إليه أبو الطيب، وقال: كيف حال مولاي سيف الدولة؟ - لقد تركت أبي مريضا، ولكن المرض لم يمنعه من الخروج إلى لقاء الروم الذين أغاروا على طرسوس. إنهم لا يتركوننا لحظة للراحة وتجفيف العرق يا أبا الطيب! ولقد كاد أبي يضيق بهم ذرعا. ثم أخرج من كمه رسالة، وقال: هذه رسالة أبي إليك. فقرأ المتنبي فإذا فيها: من سيف الدولة أبي الحسين بن حمدان إلى أبي الطيب أحمد بن الحسين:
صفحة غير معروفة