تفشى الناس خلق ممقوت، صورته مزعجة ومنظره دميم. يتزين هذا الخلق أحيانا بزي زاهي اللون، فيخفي جمال لونه أكثر دمامته، وينتحل لنفسه أحيانا اسما غير اسمه المنكر، فيلقاه الناس بالصدر الرحيب، كأنه العزيز الحبيب. لكنهم وا أسفا مخدوعون عن أمره، غافلون عن مخبره، مغترون بمظهره.
ذلك الخلق هو خلق الدس والمكر السيئ. •••
تشاكل أحيانا صورة هذا الخلق صورة القدرة والمهارة، فيخيل للناس أن صاحبه ماهر؛ لأنه أوقع غيره في مكيدة يعسر على هذا الغير أن يخلص من شرها المستطير، أو يبدو للناس أن صاحبه قادر؛ لأنه يهم الواضح وعقد المحلول، وتارة يقال لصاحبه داهية؛ لأنه يستخدم شتى الأساليب وأنواع الحيل ليظفر بغرضه الباطل، وتارة يسند لصاحبه الذكاء؛ لأنه يتخذ مختلفة الوسائل، ويعمل بشتى الأسباب للوصول إلى ما يريده من السوء، وتارة يوصف صاحبه بالسياسة، لأنه يسوس الأمور بلباقة وكياسة ليصل إلى ما تقنع به شهوته وترضى به أنانيته.
لو أنصف الناس حقا لضنوا بهذه العبارات على غير معانيها التي رسمت لها، وحبست عليها، ولا حرفوا تلك الصفات، وجعلوها لغير حقيقة موصوفها. وقصارى القول أنه لو أنصف الناس لسموا الأشياء بأسمائها، واستعملوا كلمة الدس لهؤلاء الذين يتسترون بثياب مستعارة، من الدهاء والحذق والمهارة، ليسيئوا إلى هؤلاء الذين لا يؤذون أحدا، وليمنعوا الخير عمن يستحقونه، وليدفعوا الشر إلى الذين طابت نفوسهم، الذين لا يحذرون كيد الغادرين، والذين يستأمنون الناس؛ لأنهم غير ماكرين. ومما يذكر لهذه المناسبة ما قرأته في كتاب من كتب الأدب. ••• «قيل إن رجلا من العرب دخل على المعتصم فقربه، وأدناه، وجعله نديمه، وصار يدخل على حريمه من غير استئذان. وكان له وزير كثير الحسد، فغار من البدوي وحسده، وقال في نفسه لا بد من مكيدة لهذا البدوي، فإنه قد أخذ بقلب أمير المؤمنين، وأبعدني منه، فصار يتلطف بالبدوي حتى أتى به إلى منزله، وصنع له طعاما وأكثر فيه من الثوم، فلما أكل البدوي قال له احذر أن تقرب من الأمير فيشم منك رائحة الثوم، ثم ذهب الوزير إلى أمير المؤمنين، فخلا به وقال: إن البدوي يقول عنك للناس: إن أمير المؤمنين أبخر. فلما أتى البدوي طلبه المعتصم، فلما قرب منه جعل كمه على فمه مخافة أن يشم الأمير منه رائحة الثوم، فلما رآه أمير المؤمنين وهو يستر فمه بكمه قال: إن الذي قاله الوزير عن البدوي صحيح، فكتب المعتصم كتابا إلى بعض عماله يقول فيه: إذا وصل إليك كتابي هذا فاضرب عنق حامله، ثم دعا البدوي، ودفع إليه الكتاب، وقال له: امض به إلى فلان، وجئ سريعا بالجواب، فامتثل البدوي ما رسم به المعتصم، وأخذ الكتاب، وخرج به من عنده، فبينما هو بالباب إذ لقيه الوزير فقال له: أين تريد؟ قال أتوجه بكتاب أمير المؤمنين إلى عامله فلان، فقال الوزير في نفسه أن هذا البدوي ينال من التقليد مالا جزيلا. فقال له ما تقول فيمن يريحك من هذا التعب الذي يلحقك في سفرك ويعطيك ألفي دينار؟ فقال له: أنت الكبير وأنت الحاكم، ومهما رأيته من الرأي أفعل. فقال: هات الكتاب، فدفعه إليه، وأعطاه الوزير ألفي دينار، فركب الوزير، وسار بالكتاب إلى المكان الذي هو قاصده. فلما قرأ العامل الكتاب أمر بضرب عنق حامله.
وبعد أيام تذكر الخليفة أمر البدوي، وسأل عن الوزير، فأخبر بأن له أياما ما ظهر، وأن البدوي بالمدينة مقيم، فتعجب المعتصم من ذلك، وأمر بإحضار البدوي، وسأله عن حاله، فأخبره بالقصة التي اتفقت له مع الوزير ...
فقال المعتصم: قاتل الله الحسد بدأ بصاحبه فقتله، ثم خلع على البدوي، واتخذه مكانه وزيرا». •••
والخلاصة أن الدس والحسد طالما أوقعا في الندامة، وأبعدا عن مواطن السلامة. فهل لأربابهما من عظة إذا هم قرؤوا ما تقدم، ثم قرأوا:
ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله
وهو حكم جاء به الكتاب الأكرم، وجرى به في شؤون الخلق القانون الأعظم.
نصف شعبان
صفحة غير معروفة