73

خطرات نفس

تصانيف

لقد كان العهد القديم يعني بالمعابد والقبور؛ لأنه كان عهد الله وعهد الأديان، فتخير لآثاره ومشيداته كل مكان تكتنفه الرهبة، وقصد إلى كل ناحية تشملها السكينة والقرار والهيبة. وحيث وجد المكان منسجما مع نزعته الربانية، شاد لدينه وآخرته، وأعرض عن دنياه.

أما العهد الحديث فهو عهد دنيوي، فقد جعل آثاره في المصانع والمتاجر، وشادها حيث تسهل المواصلات، وتقضى الحاجات، وتدر الأموال، وتكثر الأعمال، فحيث وجد المكان والزمان ملائما لإبراز نزعته المادية من مصالح الحياة، شاد للأرض وعمر، ونسى ربه في السماء وتكبر.

ولو جاز لنا نتنبأ بأمر المستقبل، لقلنا ستكون آيته المصنع والمتجر، وأما الماضي فآيته المعبد والمقبر.

أن نفس الإنسان الذي مضى كانت تهيم بعالم البقاء، وتعاف الفناء، وأما نفس الإنسان الحاضر فإنها أعلق بعالم الشهادة، وأدرى بالمنافع، وألصق بالواقع.

إنسان الماضي سماوي، وإنسان الحاضر أرضي، فهل حقا هبط آدم وأبناؤه إلى الأرض من السماء؟! (2)

الكرنك ... وذهبت في ليلة مقمرة إلى معبد الكرنك. وفى الليل تطيب التأملات، وفى ضوء البدر المنتشر في السموات والأرض ما قد يأخذ بالنفس العانية إلى نوع من الارتياح والانشراح، وبين الأطلال البالية حيث تصيح البوم صيحاتها، وتئن أناتها، ما قد يوحى إلى النفس خشية الوحشة، ورهبة العدم، وبين الأروقة الواسعة، والعمد الضخمة المرفوعة، والتماثيل الموضوعة والأفنية المنبسطة التي تسمع من خلالها دبيب هوام الأرض وخشاشها، ما قد يدعو إلى سكينة في النفس، واحترام يخامره الإعجاب والدهشة. •••

هناك في تلك الليلة البيضاء بين تلك الأروقة، وعند تلك الأعمدة، وفي هاتيك الأفنية، شعرت نفسي بحاجة إلى التأمل وحالة من الارتياح، والهيبة وتقدير العظمة. وقد يفعل هذا المزيج من الانفعالات فعل السحر أحيانا. وما السحر إلا ذهول المرء عن الحقائق، فتؤخذ نفسه بغير الواقع، وتتصل بضروب الخيال، وتلابس الظنون والأوهام، فيرى ما لا ترى العيون، ويسمع ما لا تسمع الآذان، ويحس ما لا تحسه المشاعر. •••

كثيرا ما يشعر المرء بأثر السحر عند منظر جميل أخاذ، أو عند نغم مستطاب شجي، أو عند رؤية ما يروق من مظاهر الكون، أو آيات الفن، لكن أثر السحر يختلف باختلاف علله وتباين أسبابه. فتأثير الهياكل والآثار في النفس لون من السحر، يغاير في نوعه تأثير الأغاني والألحان؛ وذلك لأنه يرد النفس إلى الماضي البعيد، فترى العين بعين الغابرين، ويستحيل الذوق إلى ذوق البائدين؛ وذلك لأن كل أثر من آثار التاريخ قد يستبقي فيما أبقاه عبقرية من شادوه، وذكرى من أقاموه، وحس من هيئوه، وإن شئت فقل خلاصة تاريخهم الناطق، وإن شئت فقل أرواحهم الحائمة. وقد تجتاز هذه المعاني جميعا نفوس الزائرين، فتتأثر بها فتصيرها لحظة من جوهر غير جوهر الحاضر، وتنحرف بها عن تقدير الحال فتنساه، ولذلك قد يرى الإنسان عصرا غير عصره، وينظر بنظر غير نظره، ولعل السر كل السر في زيارة الآثار، أن يتعلم الزائر كيف يستغرق بشعوره في شعور الماضين، ويتمثلهم زمانا ومكانا.

ولقد اختبرت في نفسي فيما مضى أثر الفن اليوناني القديم في وقفة وقفتها ب «الأكروبول» في ليلة قمراء، فكنت أحسب أن الأعمدة المنحوتة من المرمر المسنون، وبقايا التماثيل والأحجار التي ينساح عليها الضوء الفضي الخالص، كلها تبسم، وكأني كنت أرى أشباحا من البشر الضحوك تصب الخمور، وترسل الأنغام، وتدير المراقص، وتنشد أناشيد الجمال.

ومن نحو أسبوعين، قد اختبرت في نفسي أثر الفن المصري في «الكرنك»، فشعرت بالسحر في ساحاتك يا آمون، فخلت أن الكهنة بمسوحهم يحملون السفن المقدسة، ويطوفون ويرتلون ويتمتمون. وخلت أن عظيما من «الرمامسة» تتزلزل الأرض لجبروته، وتتلألأ السماء فوق عرشه، ويصيح بالناس وهم سجد خشوع، أنا ربكم، ولي أرض مصر، ولي فيها الحصون والخلود. •••

صفحة غير معروفة