40

خطرات نفس

تصانيف

أسجل اليوم بعض ما مر بنفسي عند زيارة تلك المعابد، والإمعان في دقائقها، خضوعا لما توحيه إلى الخاطر عبر التاريخ من غير حرص على ما يحرص عليه الواصفون، ومن غير عناية خاصة بما يعني بذكره المؤرخون. وإن ما يسجله هذا القلم لضرب من التصوير لبعض حالات النفس عندما يسمو بها إلى عالم آخر معنى من معاني العظمة والكمال.

الجمال المهمل

أثينا في 3 يوليه سنة 1923: ... وبكرت إلى «الاكروبوليس» فلما بلغت باب الجنوب، اندفعت بسرعة لست أدري لها سببا، ثم أخذت أسير رويدا رويدا في طريق مصعدة، تنبت عليها أعشاب برية، أزهر بعضها، وعلى جانبي الطريق شجيرات من الصنوبر والزيتون قصيرة هزيلة مصفرة، وقد يرى الناظر قطعا كثيرة من أعمدة وحجارة وصفائح من المرمر، على بعضها نقوش وكتابة، وقد ألقيت هذه البقايا جميعا على الطريق هملا من غير نظام. وبينما كنت أتلفت تارة يمنة، وتارة يسرة، وتارة للأمام، إذ قيد البصر رأس عمود رفيع ملقى بين هذه الأحجار، نحتت عليه أوراق نوع من نبات الشوك. جلست عند هذه القطعة الحجرية الصغيرة التي كنت أستطيع أن أرفعها بيدي من غير جهد. وفي هذه الجلسة كنت أتصور كل ما يستطيع أن يتصوره الإنسان من معاني الحسن، ثم أسلمت نفسي مسحورا بجمال هذه القطعة التي قد يمر أمامها السائر من غير أن ينتبه إليها، وهكذا الحال في كل جمال مهمل.

كنت أقول في نفسي كيف لا يعني القوم بهذه القطعة، فلا يمنعون عنها مس الرياح، ولا يحمونها من صيب السماء، ولا يحولون بينها وبين قيظ الصيف، ولا يضنون بها على عوادي الدهر والغير؟!، ثم كنت أعود إلى نفسي وأحاورها ، فأقول: أكان إسلامي لجمال هذا الحجر المنحوت ضربا من التأثر بما كان يلقي في روعي من جمال فن اليونان، أم كان فهما صحيحا للحسن قذف الله به في قلبي بعد عمر، لم أعرف فيه نفسي مفتونا بالجمال؟!

وبينما كنت أتخيل صورة الأوراق على هذه القطعة أطول مما هي، وبينما كنت أتخيلها أقصر مما هي، وبينما كان خيالي يمد في أنحاء هذه القطعة طولا وعرضا، ويتعرض أوراقها صغيرة وكبيرة، قليلة وكثيرة، كان كل ما يهيئه الخيال حقيرا، إذا قيس بما هي عليه في الحقيقة والواقع، وكأني كنت أقرأ عليها كلمتين صافيتين من كل إبهام: البساطة والجمال. •••

ما الجمال؛ وماذا أقول في الجمال!

الجمال خطيب صامت، لا يرغب أن يتحدث الغير عنه، إذ في صمته كل فصاحة وفي سكوته كل بيان.

الجمال نسب وأوزان قد تحسه النفس أحيانا بوساطة العين بعد خلوصه مما يعلق به من مادة وأضواء. وقد تسمعه النفس أحيانا بوساطة الأذن دون أن يلبس أحرفا، أو تكون له لغة تحفظ في المعجمات.

الجمال متكبر قاهر، متكبر؛ لأنه يجل عن أن يقدمه للنفوس أحد، فهو يعرف نفسه بنفسه. قاهر؛ لأنه يغلب الأنفس القوية على أمرها، فيوقع في أسره من شاء، ويتخير لرقه من شاء.

الجمال كالله وكالقوى الخفية من حيث أنها لا تعرف بذواتها، ولكنها تعرف بآثارها.

صفحة غير معروفة