وقد كانت تقدم هذه القرابين وهذه الضحايا من خير ما تحرص عليه الناس من لحوم الحيوانات الغريضة، ومن الفاكهة الطيبة، ومن خير ما تنبت الأرض من بزر وحب، ومن خير ما يحتسيه الإنسان من خمر يلذ الشاربين، ومن خير ما يتطيب به الإنسان من دهن، ومن خير ما يحرقه من بخور!!
كانت الناس تجود بأغلى من هذا وذاك. كانوا يجودون بضحايا من البشر عندما يحسبون تلك الضحايا البشرية ترفع مقت آلهتهم، وتزيل غضبهم، وتمنع نقمتهم. وكم من حيوان أغرقه اليونان في اليم إرضاء لآلهة البحار! وكم من تراب خلفته النيران من عظام ولحوم ليختلط ذلك التراب بباطن الأرض زلفى لمن يسكن جوف الأرض من الآلهة!! وكم من دم غاص في التراب ليروى منه سكان الأرض الأقدسون !! ولكن مرت العصور على هؤلاء الأجيال من البشر فتهذبت عقولهم شيئا فشيئا، ورقت نفوسهم رويدا رويدا، وضعف سلطان الأساطير والخرافات فيهم، فقلت الضحايا، واستبدلت بضحايا البشر دمى وتماثيل قد تلقى في الماء. وقد يرمى بها في النيران فداء لتلك العذارى التي كانت الآلهة تشرب من دمائها وتنهش لحومها!! •••
استبدلت كثير من التقاليد والطقوس الدينية بتقاليد وطقوس حديثة هي خير من الأولى. فأبطلت عادات ممقوتة. ونزلت أرباب عن عروشها. وأنقذت الأذهان من سلطان آلهة موهومة. على أن ربا من الأرباب لم يزل مسيطرا على أغلب نفوس البشر. لا يرتدع برادع الدين، وقد لا ينهاه زاجر العقل، وقد لا تزحزحه عن عرشه زلزلة العواطف المتيقظة!
أتدري من هذا الرب القدير؟ أتدري من هذا المسيطر الجبار القهار؟؟ ...
أنه رب المصلحة الشخصية. وأنه أجشع الأرباب في طلب القرابين!
لا يقنع من اللحوم. ولا يثمل من الدماء. ولا يستمرئ الفاكهة، ولا يستطيب الشراب. ولا يرغب في طيب الدهون.
أن رب المصلحة الشخصية يريد أن يتقدم له القوم في الانتخاب بقرابين من الضمائر!! ...
ويل له!. ويل لهم من رب الأرباب! ...
الوطن
البحر في 28 من يونيه سنة 1923 ... وكنت كمن نقل إلى عالم آخر حين صعدت إلى الباخرة، للمرة الأولى، بعد عشر سنين لم أبرح في أثنائها مصر، ولم أعبر في خلالها بحرا، فتذكرت أياما خلت، كابدت فيها أسفارا، وقطعت فيها أمصارا. تذكرت عمرا كان الصق بالشباب، ونفسا كانت أكثر قبولا لمعاني الحياة، وخيالا كان أوسع لصور الأمل. تذكرت نفسي إذ كنت أقل تجارب في العيش، وأكثر جرأة في سبيله، وأقل حملا من تبعاته. تذكرت النفس في الغابر، وعرضت لها في الحاضر، ونظرت بين النفس إذ كانت في ضحاها، وبينها وقد أثقلتها التكاليف فمالت بها عن سمت الشباب، ثم حسبت أن شئون الحياة هي مصدر ما يألم منه الفؤاد، ثم حسبت أن ذلك المكان من الأرض الذي أبرحه مصدر ما يضيق به الصدر، فكدت أقول للباخرة: اقلعي سريعا، وتوغلي على اليم، وسيري إلى حيث لا أرى من شرفاتك إلا أفق الماء والسماء، فأرسل أفكاري متواصلة في عظمة الكون، فلا دارا أراها تذكرني بوحوش البشر، ولا ضوضاء أسمعها، ولا بغضاء أشهد آثارها، ولا أوراقا أقرأ فيها اللغو والباطل، ولا وجوها كريهة، ولا سحنا منحطة.
صفحة غير معروفة