خريطة المعرفة: كيف فقد العالم أفكار العصر الكلاسيكي وكيف استعادها: تاريخ سبع مدن
تصانيف
14
كان العالم ينفتح، وكان التجار يصلون ومعهم حكايات مثيرة وبضائع غريبة، وكان النورمان قد فتحوا صقلية وجنوب إيطاليا، وكانت أحداث الحملة الصليبية الأولى تجري في ذلك الوقت. لم يستطع أديلار، المفعم بالفضول والمغامرة والشجاعة، أن يقاوم. فقد سافر جنوبا، كما أوضح لاحقا في أطروحته «أسئلة طبيعية»، مصمما على توسيع آفاقه ومعارفه «وسط العرب».
15
أمضى السنوات السبع التالية، حسبما نعلم، على الطريق، وزار روما، وساليرنو، وصقلية، واليونان، وآسيا الصغرى.
لا نعرف بالضبط إلى أين ذهب أديلار، ولكن لا بد أنه قد اتخذ الطريق البري الرئيسي من شمال أوروبا إلى روما، المسمى فيا فرانتشيجينا. كان الطريق، الذي يشتهر بالحجاج، يمر عبر لاون، ثم إلى ريمز. ومن هناك، كان يؤدي جنوبا إلى ما يعرف الآن بسويسرا، عبر جبال الألب عند ممر سان برناردينو، حيث كان بعض السكان المحليين قد أخذوا زمام المبادرة وأقاموا بوابات تحصيل رسوم كانوا عندها يجعلون المسافرين يدفعون المال مقابل العبور منها. (كان هذا مصدرا مربحا للدخل، ما دام النورمان لم يعبروا من هذه البوابات؛ إذ كانوا يحطمون الحواجز، ويطعنون محصلي الرسوم، ويكملون مسيرهم إلى إيطاليا؛ فالقواعد العادية ببساطة لم تنطبق عليهم.) ما إن تجاوز أديلار جبال الألب، لا بد أن الطريق قد قاده إلى السهول العظيمة لشمال إيطاليا وأسواق بافيا المكتظة. من هناك، كان الطريق يتجه إلى الساحل، مرورا بمدن لوكا وسيينا وفيتيربو وأخيرا روما. كان بإمكان أديلار بسهولة أن ينضم إلى جماعة من الحجاج أو التجار في لاون وأن يسافر جنوبا معهم. كما طالعنا في الفصل السابق، كان الطريق من روما إلى ساليرنو مستقرا، وكان سيمر بأديلار على مونتيكاسينو. في الواقع، لعله أمضى الليلة هناك، وبخاصة لو أنه كان مسافرا مع مجموعة من الحجاج. فمعظم الأديرة الكبيرة كان بها مأوى للمسافرين، وبخاصة الناس الذين يقومون بأي نوع من المهام الدينية؛ إذ كانت تقدم طعاما بسيطا ومرافق أساسية مقابل أجر بسيط. ولكن بما أن أديلار لم يستخدم أيا من تراجم قسطنطين، فلا توجد رابطة فكرية محددة. ولكن من المؤكد أنه قد تأثر بالنصوص الساليرنية ونظرية جالينوس الخاصة بالأخلاط الأربعة، واستخدمها في كتابه «أسئلة طبيعية». ليس من الصعب تخيل الإثارة التي شعر بها أديلار لوجوده في ساليرنو، يدرس مع أطباء المدينة المعروفين. اعتمد كتاب «أسئلة طبيعية» أيضا على ترجمة ألفانو لكتاب نيميسيوس «حول طبيعة الإنسان»، الذي من المرجح أنه كان متاحا في ساليرنو؛ مما يجعل أديلار قناة مؤكدة لنقل المعرفة من جنوب إيطاليا إلى شمال أوروبا. يصف أديلار مغادرته لساليرنو والتقاءه بيوناني، تناقش معه حول الطب وبحث معه مسائل علمية أخرى، مثل المغناطيسية. وعلى الرغم من أنه لم يكتب عن هذا الحدث إلا بعد مرور سنوات، فإن سروره بمقابلة أشخاص يتمتعون بكثرة المعارف ومهتمين بالعلم ليبدو جليا في كلماته.
توحي التواريخ المتاحة بأن محطة أديلار التالية كانت صقلية، حيث أبدى ذهوله من جبل إتنا وربما أمضى وقتا في سيراكيوز. أهدى أديلار أطروحة إلى أسقف المدينة القديمة، وهو رجل يسمى ويليام، وكان «مثقفا للغاية في كل فنون الرياضيات».
16
ويشير هذا إلى أنهما تناقشا في الرياضيات، ومن المحتمل على الأقل أن يكون ويليام قد أعطى أديلار نسخة من أطروحة «العناصر »، أو شجعه على البحث عن نسخة من الكتاب في أسفاره في أنطاكية وآسيا الصغرى. من المؤكد أنه كان لديه نسخة عربية بعد عودته إلى إنجلترا؛ لأنه استخدمها أساسا لترجمته.
كانت الحملة الصليبية الأولى قد فتحت طرقا بين جنوب إيطاليا وساحل شرق البحر المتوسط، وعندما كان أديلار في أنطاكية كانت المدينة تحت حكم تانكريد، حفيد روبرت جيسكارد؛ لذا كان لديها صلات وثيقة مع صقلية؛ مما زاد من سهولة وصول الناس إلى المنطقة، ولكنها كانت أيضا مضطربة ومحفوفة بالمخاطر. كانت الإمارات الصليبية في حالة حرب دائمة بعضها مع بعض، ومع الأتراك؛ لذا كان على المسافرين من أمثال أديلار أن يتوخوا الحذر. أحيانا، كان العنف يحدث أثرا جانبيا إيجابيا. ففي عام 1109، يسجل كتاب «المذيل في تاريخ دمشق»: «فشد الإفرنج القتال عليها [يقصد طرابلس] وهجموها من الأبراج فملكوها بالسيف في يوم الاثنين لإحدى عشرة ليلة خلت من ذي الحجة من السنة ونهبوا ما فيها وأسروا رجالها وسبوا نساءها وأطفالها وحصل في أيديهم من أمتعتها وذخائرها ودفاتر دار علمها وما كان منها في خزائن أربابها ما لا يحد عدده ولا يحصر فيذكر.»
17
صفحة غير معروفة