خريطة المعرفة: كيف فقد العالم أفكار العصر الكلاسيكي وكيف استعادها: تاريخ سبع مدن
تصانيف
لم تكن تلك هي المرة الأولى التي تتعرض فيها صقلية للغزو، ولا الأخيرة. فباعتبارها الجزيرة الأكبر والأهم استراتيجيا في البحر الأبيض المتوسط، كانت على رأس قائمة البلدان المستهدف غزوها من كل إمبراطورية منذ فجر التاريخ. عندما وصلت عائلة دي هوتفيل، وجدوا تركيبة سكانية تتكون من جاليات من اليهود واليونانيين والمسلمين وحتى من المسيحيين اللاتينيين الغرباء. كانت المنطقة المحيطة بميسينا، حيث حطوا في البداية، تستوطنها أغلبية يونانية. بدأت صلات صقلية باليونان في عام 750ق.م، عندما جاء المستوطنون اليونانيون إلى الجزيرة وبدءوا في إقامة مستعمرات هناك، واندمجوا مع السكان الأصليين. فأقاموا مستوطنات مهمة، وازدهرت الحضارة والديانة اليونانية، وأصبحت الجزيرة جزءا مما كان يدعى «اليونان العظمى». وبعد ذلك، مع بداية توسع الإمبراطورية الرومانية فيما وراء حدود إيطاليا، كانت صقلية هدفا واضحا، وفي عام 242ق.م أصبحت أول مقاطعة رومانية خارج أراضي البلاد. ولم يكن هذا مفاجئا نظرا لجمال الجزيرة وخصوبتها، حيث كانت تزدهر أشجار الكروم والعنب، التي أدخل اليونانيون زراعتها. استخدم الرومان التربة الصقلية البركانية الخصبة في زراعة القمح بكميات كبيرة حتى إن شيشرون، مقتبسا من كاتو الأكبر، وصف الجزيرة بأنها «مستودع غلال الجمهورية، مرضعة الشعب الروماني.»
3
بنى الرومان الأثرياء فيلات فاخرة، كانوا يسترخون فيها ويقضون أوقات فراغهم في صيد وحوش غريبة مستوردة خصوصا لأجلهم، وشرب النبيذ المحلي والعربدة مع الفتيات الجميلات. وهذه الاحتفاليات محتفى بها في أعمال فسيفساء رائعة، تعد من أفضل أعمال الفسيفساء التي حفظت في العالم، في فيلا ديل كاسال، ببلدة بياتسا أرميرينا، في وسط صقلية. في القرون التي تلت سقوط الإمبراطورية الرومانية، تعرضت صقلية للغزو مرات كثيرة، وهو ما يؤكد الأهمية الاستراتيجية للجزيرة في مركز البحر المتوسط؛ نظرا لقربها من جنوب إيطاليا مع سهولة الوصول عن طريقها إلى شمال أفريقيا وإسبانيا والشرق الأوسط. سيطرت عليها قبائل الوندال والقوط الشرقيين وإن كان ذلك لفترة قصيرة، قبل أن يتعرضوا للهزيمة على يد البيزنطيين، الذين أعادوا إدخال الثقافة واللغة اليونانيتين. حتى إنهم نقلوا عاصمة الإمبراطورية الرومانية الشرقية من القسطنطينية إلى سيراكيوز لفترة من الوقت.
بعد غزو العرب للجزيرة في القرن التاسع، تطلب الأمر منهم عقودا عديدة ليخضعوا صقلية إخضاعا تاما. وحتى بعد أن أتموا ذلك، كان موقفهم الذي يتميز بالتسامح مع العقائد الأخرى يعني أنه كان مسموحا للصقليين اليهود والمسيحيين أن يعيشوا ويمارسوا عباداتهم في سلام، ما داموا يدفعون الجزية (الضريبة المفروضة على غير المسلمين). جلب الحكام الجدد معهم محاصيل جديدة وأنظمة ري متطورة جعلت موسم الزراعة يمتد وأحدثت تحولا في الزراعة الصقلية. كانت الجزيرة تصدر القمح والملح الصخري الذي له أهمية بالغة في حفظ الطعام، إلى منطقة شمال أفريقيا وما وراءها. وصل المهاجرون المسلمون (العرب والبربر والقبائل الأخرى) من شمال أفريقيا واستقروا بطمأنينة في المنطقة الخصبة ذات المساحات الخضراء، ولكن هذه الجاليات تقاتل بعضها مع بعض وكذلك مع اليونان البيزنطيين ، الذين عاشوا في المنطقة الشمالية الشرقية. وبحلول أوائل القرن الحادي عشر، كانت الجزيرة قد انقسمت إلى مجموعة من المقاطعات المتحاربة التي يقودها أمراء حرب محليون. كانت الجزيرة مهيأة للغزو.
بدأت عملية إعادة الاحتلال المسيحي عندما جند السادة اللومبارديون من جنوب إيطاليا، الذين كانوا حريصين على استعادة صقلية من المسلمين، مرتزقة نورمانديين للهجوم عليهم. لذا، عندما حل روبرت وروجر بالقوة التي كانت معهما والتي كانت مكونة من بضع مئات من الفرسان، لم يكونوا أول من يفعل ذلك، ولا حتى أول أشقائهم. ففي عام 1138، كان شقيقاهما الأكبران، ويليام «الذراع الحديدية» ودروجو، مصدر إزعاج كبير في أبوليا، حتى إن أمير ساليرنو، في محاولة منه لإبعادهما عن طريقه، أرسلهما إلى صقلية لمساعدة البيزنطيين في قتال العرب. وجاء ذلك بنتائج عكسية عندما عاد النورمان مثيرو المتاعب، غير راضين عن نصيبهم من الغنيمة، إلى البر الرئيسي واستقروا في المنطقة البيزنطية المحيطة بميلفي، حيث بنوا قلعة صخرية شاسعة. في البداية، على الأقل، كان روبرت وروجر قد دعوا إلى القتال في صقلية نيابة عن قائد محلي كان يحاول أن يفرض هيمنته على منافسيه، ولكن، بحلول عام 1091، كانوا قد ظفروا بالجزيرة لأنفسهم. بحلول ذلك الوقت، كان روبرت قد عاد إلى المناطق الخاضعة لسيطرته على البر الرئيسي، حيث كان قد صار حينئذ يلقب بدوق أبوليا، تاركا لروجر مسئولية الحملة الجارية للتخلص من الحكم العربي على الجزيرة، والتي استغرقت عقودا عديدة حتى تكتمل. حتى بعد سقوط نوتو، آخر معقل للمسلمين، في عام 1091، تطلبت السيطرة على الخليط المتباين الأعراق الذي تشكل منه المجتمع الصقلي تأهبا دائما، وقبضة حديدية. فحسب المؤرخ هيوجو فالكاندوس فإن روجر دي هوتفيل «بذل جهودا لإقامة العدل بأقصى درجة من الصرامة»،
4
بينما وصفه كاتب آخر بأنه كان يبدو «مرعبا للغاية حتى إن الجبال كانت ترتعد أمام هيئته».
5
كان هذا ضروريا «إذ لم يكن ثمة سبيل آخر يمكن به قمع همجية أناس متمردين، أو كبح جرأة الخونة».
6
صفحة غير معروفة