خريطة المعرفة: كيف فقد العالم أفكار العصر الكلاسيكي وكيف استعادها: تاريخ سبع مدن
تصانيف
2
وبالقطع فإن التصميم المعماري روماني؛ فهو يتسم بالجرأة والمهابة والضخامة، ولكن الثقافة والأفكار التي جسدتها الشخصيات الثماني والخمسون التي تجمعت بعناية في أنحاء اللوحة هي، بلا شك وبدون استثناء تقريبا، يونانية؛ فهي احتفاء بإعادة اكتشاف الأفكار القديمة التي كانت محورية لدى الأوساط الفكرية في روما خلال القرن السادس عشر. وقف أفلاطون وأرسطو في المركز تماما، تحت قوس ضخمة، وفي الخلفية السماء الزرقاء، التي يشير أفلاطون إليها رافعا سبابته إلى أعلى، بينما تتجه حركة يد أرسطو نحو الأرض أسفل منه، وهو ما يجسد بإتقان نزعتيهما الفلسفيتين؛ انشغال الأول بالمثالية والقداسة، وإصرار الثاني على فهم العالم المادي من حوله. ويعرض بتفاخر النطاق الكامل للفلسفة القديمة، كما ورثتها النزعة الإنسانية الإيطالية، بلون متألق.
لا أحد يعرف بالضبط هوية كل الشخصيات الأخرى المصورة في لوحة الفريسكو، واستحوذت المجادلات حول هويات تلك الشخصيات على اهتمام الباحثين لقرون. يتفق معظم الناس على أن الرجل الأصلع في مقدمة اللوحة جهة اليمين، المنشغل بإثبات نظرية هندسية بفرجار، هو إقليدس،
3
أما الرجل الذي بجواره والذي يضع تاجا، ويحمل كرة أرضية، فهو بطليموس دون شك ، وكان في ذلك الوقت مشهورا بمؤلفاته في الجغرافيا أكثر من الفلك.
4
عاشت كل الشخصيات التي حددت هويتها في العالم القديم، قبل أن يبدأ رافاييل في رسم لوحة الفريسكو بألف عام على الأقل؛ عدا شخصية واحدة. إلى يسار اللوحة، رجل يرتدي عمامة يميل فوق كتف فيثاغورس ليرى ما يكتبه. إنه العالم المسلم ابن رشد (1126-1198)؛ الشخصية الوحيدة التي أمكن التعرف عليها لتمثل الألف عام الواقعة بين آخر فلاسفة الإغريق القدماء وزمن رافاييل، كما أنه الشخصية الوحيدة التي تمثل تقليد المعرفة العربية الحيوي المفعم بالنشاط الذي ازدهر في هذه الفترة. هؤلاء الباحثون الذين تباينت معتقداتهم وأصولهم، ولكن جمع بينهم تدوينهم باللغة العربية، أبقوا على جذوة علوم الإغريق متقدة، مازجين إياها بتقاليد أخرى ومعدلين لها بعملهم الدءوب وعبقريتهم؛ فكفلوا بقاءها ونقلها عبر القرون إلى عصر النهضة.
لقد درست حضارة الإغريق والرومان القديمة والتاريخ طوال الوقت الذي أمضيته في المدرسة والجامعة، ولكني لم أتعلم في أي مرحلة شيئا عن تأثير العالم العربي في العصور الوسطى، أو في أي حضارة خارجية في واقع الأمر، على الثقافة الأوروبية. فبدا وكأن السرد المتعلق بتاريخ العلم قد سار على هذا النسق: «عاش الإغريق، ومن بعدهم الرومان، ثم كان عصر النهضة.» متجاهلا بكل بساطة الألف السنة التي تفصل بين العصر الكلاسيكي وعصر النهضة. عرفت من مقررات تاريخ العصور الوسطى أنه لم يكن ثمة قدر كبير من المعرفة العلمية في أوروبا الغربية في تلك الحقبة، وبدأت أتساءل عما حدث للكتب الآتية من العالم القديم التي تتناول الرياضيات وعلم الفلك والطب. كيف استطاعت أن تصمد؟ من الذي أعاد نسخها وترجمها؟ أين كانت الملاذات الآمنة التي كفلت الحفاظ عليها؟
عندما كنت في الحادية والعشرين من عمري، سافرت أنا وصديقة لي من إنجلترا إلى صقلية بسيارتها الفولفو القديمة. كنا نجري بحثا عن المعابد اليونانية الرومانية من أجل أطروحتينا للسنة الثالثة. كانت مغامرة رائعة. ضللنا الطريق في نابولي، وكان الجو حارا في روما، وأوقفنا رجال الشرطة وطلبوا مواعدتنا، ووقفنا مشدوهتين في بومبي وأكلنا كرات لبنية من الموتزاريلا المصنوعة من لبن جاموسي في بيستوم، وأخيرا، وبعد أسابيع على الطريق ورحلة عبارة قصيرة عبر مضيق مسينة، وصلنا إلى صقلية. شعرنا على الفور باختلاف المدينة عن بقية إيطاليا؛ إذ كانت ذات جاذبية غريبة، ومعقدة، تستحوذ على الاهتمام. أحاطت بنا طبقات تاريخها؛ إذ كانت العلامات التي خلفتها حضارات متعاقبة باهرة، مثل طبقات على سطح صخري. في كاتدرائية سرقسطة، رأينا أعمدة معبد أثينا اليوناني الأصلي، الذي بني في القرن الخامس قبل الميلاد، لا تزال قائمة بعد 2500 سنة من نصبها. وعرفنا كيف أن الكاتدرائية كانت قد حولت إلى مسجد في عام 878، عندما كانت المدينة تحت سيطرة المسلمين، وكيف صارت كنيسة مسيحية مجددا بعد قرنين من الزمان، عندما أخذ النورمانديون زمام السلطة. كان من الواضح أن صقلية كانت تمثل نقطة التقاء للثقافات على مدى مئات السنين، مكانا كان يحدث فيه تبادل وتبدل للأفكار، والتقاليد والكلمات، حيث كانت العوالم تتصادم. كان محور تركيز رحلتنا هو العلاقة بين دين الإغريق والرومان والعمارة، ولكن إسهامات الثقافات اللاحقة؛ البيزنطية، والإسلامية، والنورماندية، كانت بارزة. وبدأت أتساءل بشأن الأماكن الأخرى التي لعبت دورا مماثلا في تاريخ الأفكار، والكيفية التي تطورت بها تلك الأماكن.
عاودت هذه الأسئلة الظهور على السطح عندما كنت أجري أبحاثي لنيل درجة الدكتوراه عن المعرفة الفكرية في إنجلترا أوائل العصر الحديث، بمنظور مكتبة د. جون دي (الرجل الذي وصفته إليزابيث الأولى بالفيلسوف). كان دي، ذو الشخصية الغريبة والآسرة، رفيقي الدائم لعدة أعوام؛ فقد أخذني في رحلة لا تنسى عبر العالم الفكري لأواخر القرن السادس عشر. أثناء مسيرته المهنية الاستثنائية، جمع أول مجموعة عالمية حقا من الكتب في إنجلترا، وعاون في التخطيط لرحلات استكشافية للعالم الجديد، وأدخل مفهوم الإمبراطورية البريطانية، وأصلح التقويم، وبحث عن حجر الفلاسفة، وحاول أن يستحضر الملائكة وسافر - وبصحبته زوجته وخدمه، والعديد من أطفاله ومئات من الكتب - إلى كل أنحاء أوروبا. كذلك تناول باستفاضة في كتبه مجموعة كبيرة من الموضوعات شملت التاريخ والرياضيات والتنجيم والملاحة والخيمياء والسحر. وكان أحد أهم إنجازاته المساعدة على إعداد أول ترجمة إنجليزية لأطروحة إقليدس، «العناصر»، سنة 1570. ولكن أين كان هذا النص قبلئذ ومن الذي كان يعتني به خلال مدة 2000 سنة بين تدوين إقليدس له في الإسكندرية ونشر دي له في لندن؟ بينما كنت أدرس الفهرس الذي صنعه دي لمكتبته في عام 1583، لاحظت أن عددا كبيرا جدا من كتبه، وخاصة تلك التي تطرقت إلى الموضوعات العلمية، كتبت على يد علماء عرب. وشكل هذا توافقا مع الأشياء التي كنت قد رأيتها في صقلية وأعطاني فكرة عما كان يجري في العالم الإسلامي في العصور الوسطى، مما بسط رؤيتي للتاريخ وجعلها تتجاوز النهج الغربي التقليدي. بدأت أدرك أن تاريخ الأفكار ليس محصورا بحدود الثقافة أو الدين أو السياسة، وأن ثمة ضرورة لمقاربة أبعد مدى؛ من أجل إدراك الأمر إدراكا كاملا.
صفحة غير معروفة