خريطة المعرفة: كيف فقد العالم أفكار العصر الكلاسيكي وكيف استعادها: تاريخ سبع مدن
تصانيف
12
أحدث تركيزه على التشريح ووظائف الأعضاء تأثيرا على أجيال من الأطباء، مثلما أحدثت أفكاره عن الأخلاقيات والنظافة الشخصية والتعليم والنظام الغذائي. كان أيضا مهتما بالطب النفسي وتعليم الأطفال، وهو ما ناقشه باستفاضة في «كتاب التصريف». ومع ذلك، كان كتابه عن الجراحة هو صاحب التأثير الأعمق؛ فترجم إلى اللاتينية في طليطلة ومن هناك انتشر في سائر أنحاء أوروبا.
كان الزهراوي محظوظا في أن الجانب الأول من حياته العملية تزامن مع أوج العصر الذهبي القرطبي في حكم عبد الرحمن الثالث وابنه الحكم الثاني. كان الحكم أكثر حماسة إزاء التعلم من أبيه، وعندما كان لا يزال شابا «بدأ جهده في دعم العلوم ومصادقة العلماء. فجلب من بغداد، ومن مصر، ومن بلدان شرقية أخرى أفضل أعمالهم العلمية وأقيم منشوراتهم، جديدة كانت أو قديمة».
13
أحسن الحكم استخدام الوقت الذي كان فيه وليا للعهد، منشئا شبكة شاسعة من المعارف في مجال الأبحاث ومرسلا وكلاء في أنحاء دار الإسلام وما وراءها لشراء أو نسخ أو استعارة أو سرقة الكتب القديمة والحديثة، لمكتبته، وجلبها إلى قرطبة، مهما كانت التكلفة. وحسبما أورد صاعد الأندلسي، الذي كتب استعراضا مفصلا لتاريخ العلم في القرن الحادي عشر، فإن: «مجموعته أصبحت معادلة لما استطاع بنو عباس [بنو موسى من بغداد] أن يجمعوه مجتمعين على مدى مدة زمنية أطول بكثير. ما كان ذلك ممكنا إلا بسبب حبه الكبير للعلم وتوقه إلى اكتساب الفضل المصاحب له، ورغبته في الاقتداء بالملوك الحكماء.»
14
في هذا الصدد، أسس سبعا وعشرين مدرسة للأطفال الفقراء، ودعم الجامعة التي أسسها أبوه في مسجد قرطبة، فجعلها مشهورة بأن كفل هبات سخية، ودعا الأساتذة الشرقيين للمجيء والتدريس في المدينة وأنفق آلاف الدنانير على تركيب أنابيب للمياه وفسيفساء من القسطنطينية. وعندما اعتلى الحكم العرش سنة 961، ضم ثلاث مكتبات ملكية رئيسية، هي مكتبة القصر ومجموعة شقيقه محمد ومجموعته الخاصة، جاعلا منها مكتبة واحدة، يزعم أنه عين فيها 500 شخص. عندما صنف أمين المكتبة، ويدعى تليد، الكتب التي بلغ عددها 400 ألف أو نحو ذلك، ملأ 404 مجلدات بالعناوين فقط. ولو كان قدر لها أن تبقى، لكانت قد أعطتنا صورة تفصيلية عن عالم الفكر الأندلسي؛ ونظرا للوضع القائم، علينا أن نعيد تشكيل محتويات المكتبة من الأعمال الباقية التي كتبها الباحثون أنفسهم، ومن مصادر أخرى، بوضعها الحالي. كان التأثير الكبير للحكم الثاني في الشبكات الخاصة بالكتب في جميع أنحاء دار الإسلام يرجع جزئيا إلى سمعته الشخصية بوصفه باحثا. فقد كان، حسب أحد المؤرخين الأندلسيين، قد قرأ معظم الكتب في مكتبته وعلق عليها؛ وحتى مع التغاضي عن تلك المبالغة، فإن هذا الرجل لم يكن مجرد هاو لجمع الكتب. فإلى جانب وكلاء الكتب، عين باحثين أجانب في مصر وبغداد لجمع الكتب لحسابه، وفي حالة واحدة على الأقل، تمكن من إقناع كاتب في العراق بأن يرسل له مخطوطة لكتابه الجديد قبل أن يراه أي أحد آخر.
اجتذبت سمعة قرطبة، باعتبارها مركزا عظيما للتعلم، الباحثين من كل حدب وصوب، لا سيما في مجالات الطب والفلك والشريعة والنحو والشعر. كان القرطبيون مشهورين بحبهم لعالم الكتابة، وقيل إنه «عندما يموت رجل مثقف في إشبيلية، ويرغب ورثته في بيع مكتبته، عادة ما يرسلونها إلى قرطبة حتى تنقل ملكيتها.»
15
كان لعائلة العلامة ابن فطيس مكتبة وظفوا فيها ما لا يقل عن ستة نساخ وكاتب شهير في وظيفة أمين مكتبة؛ وثمة مجموعة خاصة أخرى شكلتها شاعرة تدعى عائشة. ويورد أحد المصادر: «حتى إن الرئيس منهم الذي لا تكون عنده معرفة يحتفل في أن تكون في بيته خزانة كتب، وينتخب فيها ليس إلا لأن يقال فلان عنده خزانة كتب، والكتاب الفلاني ليس هو عند أحد غيره، والكتاب الذي بخط فلان قد حصله وظفر به.»
صفحة غير معروفة