خريطة المعرفة: كيف فقد العالم أفكار العصر الكلاسيكي وكيف استعادها: تاريخ سبع مدن
تصانيف
محدثة تغييرا في الطب والزراعة في المنطقة.
عندما توفي عبد الرحمن الأول سنة 788، كانت قرطبة مركزا مزدهرا للتجارة والحضارة. كان قد أرسى أسس مسجد قرطبة «لا مسكيتا» الذي هيمن على أفق المدينة منذ ذلك الحين، وأتاح إطارا سياسيا قويا ليبني عليه نسله. تسارعت وتيرة عملية تحرير الأندلس من النفوذ السياسي العباسي، سنة 763، عندما هزم عبد الرحمن جيشا أرسل من بغداد، ثم أمر بوسم رءوس قواد هذا الجيش، وتعبئتها في الملح وإيصالها إلى الخليفة المنصور. ويبدو أن المنصور عند تلقيه للطرد الشنيع، هتف قائلا: «الحمد لله الذي جعل بيننا وبين هذا الشيطان بحرا!»
4
ومنذ ذلك الحين، ترك العباسيون الأندلس لشأنها. فقد ثبت أن عبد الرحمن الأول هو عدوهم اللدود؛ فهو عدو قوي، وحاسم ومخيف، ولكنه أيضا براجماتي، ومتفتح الذهن وحساس على نحو يثير الدهشة. واصل عبد الرحمن الأول سياسة التسامح الديني التي مارسها المسلمون في أنحاء الإمبراطورية. كانت غالبية السكان المحليين الإيبيريين مسيحيين، ولكن كان يوجد أيضا طائفة يهودية مهمة عانت معاناة رهيبة في ظل حكم القوط الغربيين . سمح لليهود حينذاك بالحرية الدينية وخضعوا لقواعد محدودة، منها «الجزية»؛ وهي ضريبة تفرض على المواطنين غير المسلمين. أدى هذا التسامح والتعاون إلى تحديد ملامح المجتمع الأندلسي في القرون التي أعقبت ذلك، وأصبح له تأثير عميق على البحث العلمي في هذا المجتمع. امتد هذا الموقف المستنير أيضا إلى الأعداد الضخمة (والمتزايدة باستمرار) من العبيد الذين أسهموا إسهاما كبيرا للغاية في رخاء ونجاح الأندلس. كان كثيرون منهم سلافيين، أسروا على يد محاربي الفرنجة أثناء الحروب على حدودهم الشرقية وأخذوا إلى إسبانيا ليباعوا عبيدا. كبر أولئك الذين أمسك بهم وهم أطفال في تقاليد وطنهم الجديد؛ إذ تحولت أعداد كبيرة منهم إلى الإسلام وكوفئوا بنيل حريتهم.
كان تطور قرطبة إلى مركز رئيسي للسلطة بطيئا بالمقارنة بمنافستها الرئيسية، بغداد، عاصمة الدولة العباسية. فقبيل أن يصبح عبد الرحمن الثاني (ابن حفيد عبد الرحمن الأول) أميرا، كان العصر الذهبي للبحث العلمي في بغداد قد قطع شوطا بعيدا. كانت العلاقة بين المدينتين معقدة؛ فالمرارة والتنافس بين السلالتين الحاكمتين كانا أسطوريين وكان من شأن الرغبة العارمة لدى الأمويين في أن يصبحوا مستقلين عن النفوذ العباسي أن تتوج بإعلانهم خلافة منافسة في أوائل القرن العاشر الميلادي. وبينما كانت الخلافتان تنفصلان سياسيا بالتدريج، كان العكس صحيحا على صعيد الثقافة والإدارة والتجارة. فمع تنامي شبكات التجارة عبر الإمبراطورية الإسلامية، أصبحت حركة البضائع المتدفقة بين قرطبة وبغداد (وكل الأماكن فيما بينهما) كالسيل الجارف. في القرن التاسع، كانت بغداد هي المركز الثقافي لدار الإسلام؛ لذا تطلعت إليها قرطبة، التي كانت تقف غير مستقرة على حافة العالم العربي بالضبط، بل، على حافة العالم المعروف، مسترشدة بها في كل شيء. كانت بنية الدولة الأموية تعزى بدرجة كبيرة إلى بنية العراق في العصور الوسطى؛ كانت أفكار الخدمة البريدية ونظام الرسوم المفروضة على الصادرات والواردات والعملة كلها أفكار منقولة. تجسد التبادل الثقافي بين الدولتين في الشخصية الفريدة لزرياب، المغني الفارسي الأسطوري، الذي ترك البلاط العباسي في بغداد ووصل إلى قرطبة سنة 822، حيث أمضى بقية حياته يعلم الأندلسيين كيف يعيشون حياة عصرية. تجلى التقدير الذي كانوا يحملونه للثقافة الشرقية من لحظة وصول زرياب؛ «لم يكتف عبد الرحمن الثالث بأن خرج بنفسه لاستقباله والترحيب به ، بل استضافه شهورا عديدة في قصره الخاص ومنحه هدايا كبيرة».
5
إلى جانب صوته المدهش، جلب زرياب إلى قرطبة كامل روعة ورقي البلاط العباسي؛ إذ ينسب إليه الفضل في إدخال الأندلس إلى القرن التاسع، إن جاز التعبير، عن طريق إدخال مجموعة هائلة من الابتكارات العصرية، وفي ذلك معجون الأسنان والوجبات المتعددة الأصناف ونبات الهليون وأدوات المائدة ومفارش المائدة وتسريحات الشعر والألبسة وآلات موسيقية جديدة وأنماط جديدة من الموسيقى. وأصبح من المقربين من الأمير، الذي فتن بهذا الرجل الساحر الراقي. كان زرياب عالما أيضا، وحث على دراسة الفلك والجغرافيا في البلاط القرطبي. أصبح زرياب أيقونة ثقافية، الرجل الذي أتاح للأندلسيين رؤية ما يمكنهم تعلمه من الشرق وأعطاهم الثقة لابتكار أفكارهم الخاصة.
مع تطور الثقافة الأندلسية خلال القرن التاسع، بدأت تترسخ فكرة أن المعرفة ينبغي التماسها عن طريق الترحال، وشجع على ذلك السمو الفكري للشرق. بدأ الشباب يرتحلون نحو المجهول من أجل «العثور على أنفسهم»؛ ليستخلصوا المعرفة من أفضل المفكرين في ذلك العصر، ويقاسون حرمان وأهوال الترحال الحتمية في أوائل العصور الوسطى.
4
كانت «الرحلة»، كما يطلق على هذه الأسفار، في المقام الأول، التماسا للاستنارة الدينية، ولكنها، في الواقع، كثيرا ما تضمنت اكتساب معارف علمية دنيوية أيضا؛ في هذه المرحلة، لم يكن ثمة فصل حقيقي بين الاثنين، وكان ذلك يرجع جزئيا إلى نظام التعليم الإسلامي، الذي كان فيه العلماء يبجلون ويلتمس علمهم أي شخص راغب في التعلم والانفتاح عقليا. كانت التجارة قد جعلت الإمبراطورية الإسلامية تنفتح، فأنشأ الحكام الطرق وأصلحوها، فربطوا الأماكن بعضها ببعض، وأنشئوا بنية تحتية تتيح من خلالها التحرك بسهولة نسبية للناس والبضائع. سافر الباحثون مع قوافل التجار وأمضوا معهم ليالي الصحراء الطويلة حول نيران خان القوافل. وعادة ما كان التجار، الذين يتسمون بطبيعة الحال بعالمية الطابع والانفتاح، هم أنفسهم باحثين حيث استخدموا أنشطتهم التجارية للحصول على الكتب وجلبها إلى الأندلس لتنسخ وتباع. في ذلك الوقت، أيضا، كان يوجد تجار كتب وورق متخصصون، وكانوا مسئولين عن إنتاج وتجارة ونقل النصوص بين أسواق الكتب الكبيرة في القاهرة وفاس وبغداد وتمبكتو وقرطبة. كانت هذه هي القنوات الرئيسية التي تدفقت خلالها أنهار المعرفة في أنحاء الإمبراطورية الإسلامية. كان ينضم إلى التجار والباحثين في القوافل نوع آخر من المسافرين؛ هم الحجاج. ففريضة الحج أحد أركان الإسلام ويقصد بها حج البيت الحرام في مكة، على الأقل مرة واحدة في العمر، وهو ما جعل السفر جزءا أساسيا من حياة المسلم.
صفحة غير معروفة