خريطة المعرفة: كيف فقد العالم أفكار العصر الكلاسيكي وكيف استعادها: تاريخ سبع مدن
تصانيف
في حين جابه علماء الرياضيات الهنود الأرقام المجردة ذات المقدار الذي لا يمكن تصوره، وقع اليونانيون القدماء في غرام علم الهندسة، فأوجدوا حلولا للمعضلات الرياضية بقياس الأطوال ورسم الأشكال، بدلا من عد الأرقام. كانوا نادرا ما يلجئون إلى استخدام الصفر، أو، في الواقع، إلى علم الحساب، واللذين يمثلان أداتي عوام التجار. لكن الإمبراطورية الإسلامية قامت على التجارة؛ فمحمد نفسه كان تاجرا؛ لذا لم يسلك الباحثون البغداديون هذا المنحى. في القرن التاسع، كان أحد أعظم هؤلاء الباحثين هو محمد بن موسى الخوارزمي (الذي يختصره الكتاب اللاتينيون إلى
Algorithmus )، وهو العبقري الفارسي الذي وضع مفهوم الخوارزمية
12
في مؤلفه المعروف باسم «كتاب الجبر »؛ وهو العمل الذي أسس، في عام 820، علم الجبر بوصفه فرعا مستقلا من فروع العلم للمرة الأولى على الإطلاق. كان هذا الكتاب يهدف إلى مساعدة الناس في حل مشكلات الحياة اليومية، كحساب ضرائبهم أو تقسيم الأرض للري، على سبيل المثال. وقام بذلك عن طريق الارتقاء بالرياضيات إلى مستوى أعلى من التجريد ووضع قواعد عامة يمكن تطبيقها على كثير من الأسئلة المختلفة؛ مما يجعله مفيدا للغاية لطائفة واسعة من الناس. أدرج الخوارزمي، ضمن أمور أخرى، للمرة الأولى، أنواعا عديدة للمعادلة التربيعية وقدم طرقا لحلها. ومثل كثير جدا من النصوص العلمية الأخرى المكتوبة في بغداد، نسخ الكتاب مرات كثيرة وحمل إلى أنحاء الإمبراطورية الإسلامية.
نكاد لا نعرف أي شيء عن حياة الخوارزمي، لكن اسمه يعني أن مسقط رأسه هو «خوارزم»، وهي ولاية بعيدة على الشواطئ القاحلة لبحر آرال. كان قومه، في مرحلة زمنية ما، قد خاضوا الرحلة الطويلة نحو الغرب على طول طريق الحرير القديم من نيسابور، حيث كان ينمو ألذ أنواع الفستق والرمان، عبر جبال زاجروس وصولا إلى البساتين الخضراء وحدائق الخضراوات على مشارف بغداد. وهنا، عاش وعمل مع صديقه، «فيلسوف العرب»، أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الصباح الكندي (801-873).
13
ألف كل من الرجلين كتبا عن النظام العشري الهندي العربي، ممتدحين بساطته الجميلة وإمكاناته غير المحدودة. ولكنهما لم يفلحا إطلاقا في حمل الناس على التخلي عن طرق العد القديمة؛ فمثل هذه التغييرات الهائلة في النموذج دائما ما تأخذ وقتا، وظل نظام العد الستيني البابلي، الذي دار حول الرقم ستين (ومن هنا جاء عدد الدقائق في ساعاتنا)، هو السائد، إلى جانب الأعداد اليونانية والرومانية، لقرون تالية.
شكل 3-4: التطور والانتقال الجغرافي للأعداد الهندية العربية، 100-1600 ميلادية.
من المحتمل أن يكون كتاب «سيدهانتا» قد جاء إلى بغداد عن طريق مدينة جنديسابور، في إيران الحالية، التي كانت مركزا للدراسات الطبية لقرون عديدة، فكانت مكانا يستطيع الباحثون أن يلتقوا فيه ويمزجوا أفكارا من اليونان ومصر مع تقاليد من الشرق الأقصى. في القرن الثالث، كان الملك-الباحث الفارسي شابور الأول قد جلب زوجته الرومانية الجديدة لتعيش في جنديسابور، يرافقها طبيباها اليونانيان. فدرسا نظريات جالينوس وأبقراط؛ ومن ثم جعلا المدينة مركزا لدراسة وممارسة الطب، بوجود مستشفى وأكاديمية ومكتبة. بعد سنة 529، وصل فلاسفة يونانيون من أثينا، فارين من اضطهاد الإمبراطور البيزنطي، في حين جاء أيضا المسيحيون النسطوريون وأسسوا مجتمعا هناك، جالبين معهم مخطوطة يونانية قديمة أثناء هجرتهم نحو الشرق. في القرن السادس، أرسل الملك الساساني، خسرو (كسرى)، واحدا من أطبائه إلى الهند والصين ليدعو الباحثين للمجيء إلى جنديسابور وتبادل الأفكار الطبية. مزجت هذه الأفكار مع الأفكار الخاصة بالتقاليد اليهودية والفارسية واليونانية والسريانية، وجلب هذا الانصهار لمسارات مختلفة من الفكر الطبي إلى بغداد على يد المنصور، الذي، إذ كان يعاني من آلام سيئة بالمعدة، استدعى الطبيب النسطوري ذا الاسم البهي جورجيوس بن جبرائيل بن بختيشوع (بختيشوع بالفارسية تعني «المخلص على يد يسوع») من جنديسابور. عالج بختيشوع آلام معدة الخليفة، وبقي في بغداد وأنشأ سلالة من الأطباء الملكيين. جلب بختيشوع الثروة الكاملة للنظرية الطبية الجنديسابورية إلى المدينة، جاعلا بغداد وريثتها في تطور الطب، وأصبح بعدئذ راعيا مهما للمعرفة والترجمة في المدينة.
عين جبرائيل، حفيد بختيشوع، طبيبا للبلاط في عام 805، وهو منصب تولاه على فترات متقطعة لثلاثة عقود، فخدم خلفاء مختلفين، منهم المأمون. أدت عائلة بختيشوع دورا أساسيا في إبراز المعرفة اليونانية القديمة إلى الصدارة في بغداد، وبلغت هذه العملية أوجها إبان حكم المأمون؛ مما سمح بانتقال العلوم العربية إلى أبعد من المعرفة القديمة كما سمح لتلك العلوم بأن تصير تقليدا قائما بذاته. كان فضول المأمون الشخصي ورؤيته من أعظم الدوافع لتلك العملية. فقد كتب الخوارزمي أطروحته عن الجبر بتشجيع من المأمون. انتهج المأمون، الذي كان من أتباع مذهب المعتزلة، سياسات مختلفة لينصب نفسه «خليفة الله» ويضمن السلطة الدينية، وكذلك السياسية، الكاملة. فابتدع «محنة خلق القرآن» (التي كانت بمثابة محكمة تفتيش) من أجل التحكيم وفرض أيديولوجية إسلامية واتبع مذهب المعتزلة في استخدام النصوص الفلسفية اليونانية وطرق الجدل (المنطق)، مهيئا بيئة مناسبة للبحث والدراسة. «جعل [المأمون ] الفقهاء والعلماء من الرجال ذوي الثقافة العامة يحضرون جلساته؛ فكان هؤلاء الرجال يجلبون له من مدن مختلفة ورصدت لهم رواتب. نتيجة لذلك ، نشأ لدى الناس اهتمام بإجراء دراسات تحقيقية نظرية وتعلموا كيفية إجراء بحث واستخدام الجدل.»
صفحة غير معروفة