أجل كان يعلم ذلك، ولكنه كان كأنه يسمع به لأول مرة، فقال بصوت خفيض: حقا؟! .. نعم .. أعلم ذلك.
فقال الطبيب بغير مبالاة: فأيامك الباقية من الإجازة منتهية لا محالة قبل الشفاء بزمن طويل، وعليه فلا مناص من فصلك من خدمة البنك ابتداء من 31 مايو سنة 1942.
وكان صوت الدكتور يقع من سمعه موقعا غريبا، فتساءل بصوت أشد ضعف: ألا يوجد ثمت أمل في الشفاء قبل انقضاء المدة الباقية من إجازتي؟
فهال الطبيب السؤال وقال بإنكار: هل تتصور أنه من المستطاع أن تبرأ وتسترد قوتك ووزنك الطبيعي فتستأنف عملك في بحر عشرين يوما؟! هذا محال، أمامك عام استشفاء على أقل تقدير.
فسهم رشدي كالشارد، ثم أطرق كئيبا محزونا، أما الدكتور فأعطاه «استئمارة» نص بها على انتهاء إجازته في 30 مايو سنة 1942، وعلى أنه يعتبر مفصولا ابتداء من 31 من مايو 1942، إذا لم يعد إلى عمله قبل ذاك، وقال له بلهجة دلت على أنه يريد الانصراف سريعا: وقع من فضلك بإمضائك على هذه الاستئمارة للعلم.
وذكر أخاه أحمد كأنه يستغيث به في تلك الساعة الحرجة! .. وردد عينيه بين الطبيب وبين الورقة فلم يغب عن ناظريه ما بالرجل من نفاد الصبر، فعراه الارتباك وتناول قلمه ووقع بإمضائه بيد مرتعشة وغادر الدكتور الحجرة فجاءت أمه متطلعة إليه بوجهها الذي نال منه الإعياء والهم كل منال، فقال لها بصوت مبحوح متهدج: أماه، وقعت الآن بإمضائي على أمر فصلي من عملي!
فخفق قلب المرأة خفقة عنيفة، بيد أنها تداركت نفسها فلم تستسلم لعواطفها أن تضاعف من أشجانه، وقالت باستهانة: أهذا ما جعلك تتكلم بهذه اللهجة الحزينة؟! يا بني، إن الله أكرمنا بإنقاذك من الخطر الداهم فلا ينبغي أن نغفل عن ذكره وشكره، وليهن بعد ذلك كل شيء، فلا يحزنك الأمر، فإنك إن فقدت عملك اليوم واجده غدا إن شاء الله.
ولكنه قال بنفس الصوت المتهدج المبحوح وكأنه لم يع شيئا مما قالت: قضي الأمر وخسرت وظيفتي، وضاع الماضي والمستقبل.
فقالت المرأة وهي تعض على نواجذها دافعة دموعها: رشدي، لا تيأس ولا تحزن، وغدا تنكشف الغمة بأمر الله ورحمته، فترد إلى وظيفتك أو إلى خير منها، والله لتبسمن بعد عبوس وليصدقن قلبي.
ولكنه لم يكن يصغي إليها، وتاهت عيناه في آفاق مجهولة، فغابت أمه عن ناظريه، وراح يقول وكأنه يحدث نفسه: ما أفظع المرض! .. حقا إن ألمه لشديد، وعذابه لمروع، يجعل القوة عجزا، والشباب شيخوخة، والأمل قنوطا، يقعد الناهض، ويعطل العامل، ويقبح الحبيب، أضاع مستقبلي، وأطفأ نوري، وأوهن عظامي، وأفقر يدي، اللهم اكفهم شر المرض .. اللهم اكفهم شر المرض.
صفحة غير معروفة