فابتسم أحمد وقال: الظاهر أنك من عشاق الليل كرشدي! - نطقت بالصواب يا سيدي، وها نحن أولاء يعلمنا الدهر أنه ينبغي أن نقلع عما كنا نعشق.
ودعوا لهما بالشفاء، ونهضت أم أحمد إلى الخوان، وأتت بصندوق البسكوت، ووضعته إلى جانب رشدي وفي متناول يده، وقالت برجاء: هلا تناولت واحدة يا رشدي؟!
ولكنه هز رأسه على المخدة وقال بسرعة وبلهجة حازمة: ليس الآن ... فيما بعد!
فأخذت المرأة الصندوق أسيفة حزينة وإن كانت تغالب عواطفها مغالبة صادقة ناجحة، ولم تنس - حتى في تلك الساعة - واجبات اللياقة، فدلفت من سرير أنيس بشارة وقدمت له بعض البسكوت، وكان أحمد يتفحص أخاه بعينين كئيبتين، فإذا أرسل الشاب إليه بطرفه تبسم مداريا حزنه وقد هاله ذبول أخيه، واصفرار لونه، وخوره، وأمارات التعب التي تعتوره، هاله أن يراه مستسلما للرقاد، سجينا، وما كانت الدنيا تسعه حركة واضطرابا ولهوا، وخيل إليه أنه يقرأ في نظرة عينيه حيرة وقلقا، إلى ما بهما من ألم واستسلام، فأوحيا إليه أن الشاب ينطوي على شيء يريد أن يفضي به إليه، وقوي شعوره بذلك حتى خطر له أن ينفرد به دقائق بعد انصراف عواده، ولكنه خاف أن يضرع إليه أن يعيده إلى البيت، فعدل عن رأيه، وجعل يكور له قبضة يده مشجعا متظاهرا بالمزاح والاطمئنان.
وآذن الوقت بالعودة، فسلموا بحرارة، ولهجت ألسنتهم بالدعاء، وغادروا الحجرة، وكانت الست دولت آخر من غادرها بعد أن قبلت الشاب في خديه وجبينه، وفي الطريق لم تعد تملك أعصابها فامتلأت عيناها بالدموع، وكانت نوال تعالج دمعة لا تدري كيف تخفيها. وظل أحمد منقبض الصدر حتى أوى إلى حجرته، ومضى يعلل نفسه بالأمل ويقول إنه سيجده في الزيارة القادمة أحسن حالا حتما مما وجده اليوم، رباه ... متى يرد إلى ما كان عليه من القوة والنشاط والنضارة؟! متى يعاود سمعه تغريده الحنون ودعابته اللطيفة وضحكته الرنانة؟!
ونامت أسرة عاكف تلك الليلة على حزن وكمد كنومها ليلة الفراق!
ثم استيقظوا جميعا في الهزيع الأخير من الليل على رنين الجرس وجلس أحمد في الفراش مرهف الأذنين، فسمع الرنين متصلا كأنه يصرخ في الغافلين، وانقض عليه خاطر جعل قلبه يرجف كإبرة الجرس فقفز من الفراش وجرى إلى الخارج، التقى بوالديه في الصالة وهما يكادان أن يعدوا عدوا نحو الباب، ولم ينبس أحدهم فقد تولاهم استسلام يائس للأقدار، ودلف أحمد من الباب مزدردا ريقه وأضاء المصباح الخارجي وفتح الباب، ونظر في الردهة الخارجية فلم تقع عيناه على إنسان، وكان الرنين لا يزال متصلا ... والتفت الرجل إلى والديه مندهشا مغمغما: «لا أحد في الخارج.» واقترب من «بطارية الجرس»، ورفع غطاءها وفصل بين الأسلاك فسكت الجرس المزعج! وأغلق الباب والدموع توشك أن تطفر من عينيه وتبادلوا جميعا نظرات حائرات، ثم هتف الأب قائلا: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم!
وقالت الأم وهي تتنهد من أعماق قلبها: أليس الأوفق أن نأتي برشدي ما دامت هذه رغبته؟
فقال أحمد وقد وشى صوته باضطراب نفسه: يا شيخة وحدي الله!
41
صفحة غير معروفة