21
وعادت نوال إلى البيت وقد بلغ منها التأثر، راحت تسائل نفسها: ما لهذا الفتى الجسور لا يكف عن مطاردتها منذ وقعت عليها عيناه غداة الوقفة؟
جاوزت نوال في ذاك الوقت السادسة عشرة بقليل، وكانت ذات حسن يستحق الإعجاب، وتحلى حسنها بميزتين لا يستهان بهما: السذاجة والخفة ولكن أية سذاجة، وأية خفة؟ السذاجة التي توحي بها بساطة الجمال، والتي تطالعها في الحدقة الصافية الواسعة - في غير مبالغة - والنظرة المستقيمة، بيد أنها ليست سذاجة الغفلة أو البلاهة، وخفة تنبثق من أنافة الملامح ولطف الروح، فلا هي إلى الطيش والرعونة تنتسب، ولا من حدة الذكاء وبراعته تستمد. وهي سمراء، وكثيرا ما تقول أمها إن السمرة روح الجمال ومصدر الخفة، ولكنها كانت في الحقيقة من عشاق اللون الأبيض، ولذلك أخذت تعالج نحافة ابنتها بعقاقير السمن لاعتقادها بأن السمن يكسب البشرة إشراقا، وقد تقدمت الفتاة في دراستها الثانوية تقدما يبشر بالنجاح، ولكنها انضمت في الواقع إلى قافلة العلم، وليس العلم ما تنشد، ولا المدرسة بالمأوى الذي يهفو إليه فؤادها، فأحلامها لا تفارق البيت، ولن تزال تعد أمها أستاذتها الأولى تتلقى عنها فنون الحياة المنزلية من طهي وحياكة وتطريز، وما رأت في العلم يوما إلا زينة تحلي بها أنوثتها وحلية تغلي من مهرها، فتركزت حياتها في هدف واحد: القلب أو البيت أو الزواج، أليس أول دعاء دعيت به «العروس»! .. وإنه لأجمل دعاء، وإنها لتتلهف على أن تكونه، وترقب حظها في صبر ورجاء، ولذلك قدست الزواج قبل أهليتها له بدهر طويل، وأحبت «الرجل» وهو أمل مجهول وعاطفة غامضة، فكانت ثمرة ناضجة دانية القطوف ترصد من يجنيها. وكان الأستاذ أحمد راشد المحامي أول رجل - من غير محارمها - يتصل بها عن كثب لإعطائها الدروس، وتلقته منذ أول مقابلة باستحياء، ورمقته بعين ملؤها التطلع والرجاء، فلم يتمثل لعينيها «أستاذا» بقدر ما تمثل لهما رجلا! ولان قلبها وأوشكت الحياة أن تنبض به، بيد أن الشاب المحامي كان صارما رزينا أكثر مما ينبغي، وعجزت كل العجز عن أن تقرأ عواطفه الحقيقية وراء عويناته السوداء، ولما تعقب تهاونها بالتأنيب بدا لعينيها مكفهرا مخيفا فجفلت منه وخاب رجاؤها فيه، وكثيرا ما كان يحدثها بكلام لا تفقه له معنى ولا تجد له طعما مثل قوله لها مرة: «يخيل إلي أنك لا تحبين العلم كما يجب وإن لم ينقصك الاجتهاد أو حسن الفهم، فأحبيه كما تحبين الحياة، فهو منها بمثابة العقل من شخص الإنسان، وينبغي أن يتغذى به عقلك ويتمثله، كما يتغذى جسمك بالطعام ويتمثله، أين الشوق إلى أسرار الوجود؟ .. أين اللهفة على المعرفة؟ .. لا يجوز أن يتخلف قلب المرأة عن قلب الرجل في طريق العرفان والمجهول ..» وفي مرة أخرى سألها: «علام نويت بعد البكالوريا؟ أما عرفت بعد العلم الذي ترغبين في دراسته في الجامعة؟» وهالتها كلمة «الجامعة»، أيمتد بها عهد الدراسة حتى الجامعة؟! وأجابته باقتضاب: «لا أدري». فقال لها الشاب ممتعضا: «أما زلت عند موقفك السلبي من العلم؟!» ولم تفطن إلى أنه يريد أن يصوغها على المثال الذي يحب فحسبت أنه يحتقرها ويزدريها فاشتدت منه جفولا.
ثم جاء أحمد عاكف الجديد. وقالت الأنباء إنه أعزب، وشعرت بمزيد الغبطة والسرور أن عينيه تسترقان إليها النظر فتحرك قلبها نحوه كما تتحرك الراحتان نحو مجمرة في ليلة شديدة البرد والزمهرير، وقالت لنفسها: إنه رجل جاوز حدود الشباب، ولكنه ما يزال في عنفوان الكهولة، ولا بد أن يكون موظفا محترما لأنه غالبا ما يصير الموظف - في مثل عمره - محترما، وأيما كان فلن يسعها أن تغضي عن نظراته الحيية التي يرسلها إليها في أدب وتردد، ولا أن تجد لذلك من معنى غير الوداد، وإلا ففيم يثابر على الانتظار والنظر أصيلا بعد أصيل؟! على أنها تساءلت في حيرة: لماذا لا يخطو خطوة جديدة؟ لماذا يقنع بالوقوف عند مخالسة النظر؟ هلا ابتسم إليها؟ .. هلا أومأ بتحية؟! ترى هل يعقل الحياء الرجال كما يعقل النساء؟! .. وإذا كان هذا شأنه فلماذا لا يخاطب أباها في الأمر؟ أو لماذا لا يكلف أمه بمهمة خطبتها؟! وكانت نوال حيية وفي حاجة إلى من يطاردها، فأوقعها حظها على كهل في أشد الحاجة إلى من تطارده! إلا أن شجاعتها لم تخنها - خاصة بعد أن يئست من شجاعته - فبدأته بالتحية من شرفتها وتلقت رده الجميل، وحدثها قلبها بأن الأمل المرموق قد بات قريب المنال.
ولدى الضحى من نهار الوقفة طالعها وجه جديد من نفس الشقة، بل من الحجرة التي تواجه حجرة نومها، وأدركت من النظرة الأولى أن الشاب الجديد أخو صاحبها الكهل، ولكن أين كان قبل اليوم؟ .. وما باله يرميها بتلك النظرة القوية الجسورة التي دعت الدم من جميع أطرافها إلى خديها وحملتها على الفرار؟! يا له من شاب نضير جم المحاسن جذاب المنظر؟ ويا لها من نظرة ثاقبة ترعش القلب، ولكن يا ترى أهذا شأنه مع كل حسناء؟ .. أم جذبه إلى وجهها شيء لا عهد له به؟ .. وهل يقيم في هذه الحجرة فيراها صباح مساء أم يختفي فجأة كما ظهر فجأة؟ وقال لها قلبها إن مثل هذا الشاب خير من ذاك الكهل بغير جدال، ولكن الكهل لم يعد غريبا، فبينها وبينه تحية متبادلة، وهو المفضل إذا طلب يدها، وما ينبغي أن تنسى أن بينهما عهدا صامتا لا يلبث أن يصير - إن شاء الله - زمرا وطبلا وثريات لألاءة ورملا فاقعا يسر الناظرين، وفي صباح العيد ارتدت ملابسها الجديدة، ودعاها قلبها إلى الظهور بالشرفة ليراها الكهل في أبهى حلل وأجمل منظر، ووجدته في النافذة في أحسن صورة ممكنة، فذكرها جلبابه وطاقيته بأبيها، وتبادلا التحية، ثم عادت إلى حجرتها. ونازعتها مشاعرها إلى إلقاء نظرة على النافذة الأخرى، فوجدت الشاب الجميل وكأنه ينتظرها، فتراجعت أمام نظراته العارمة، وحسبت أنه لن يتخطى بجسارته نافذته، فما راعها إلا أن تجده بانتظارها في السكة الجديدة! وتساءلت في الترام ترى هل تبعها أم أنه وهم ما رأت؟ .. ولكنها علمت بعد حين أنه يتعقبها عامدا، وأنه ممن لا ينثنون عن غاية، ومن عجب أنه نسي وجودها في السينما بترنيم أم كلثوم، أما هي فلبثت تشعر بوجوده على كثب منها طوال الوقت! وعادت إلى البيت ثملة بسرور لا عهد لقلبها بمثله وقالت لنفسها ضاحكة: «لو أن جميع الشبان في مثل عناده ما بقيت فتاة واحدة بغير زواج!» ووجدت قلبها يؤنبها على تسرعها ببذل التحية للآخر، ولكن هل كانت تعلم الغيب؟ وقلق ضميرها فلم تجد لطاجن العيد ولا لسمكه طعما! •••
وغادرت الشقة عصرا بقصد زيارة حرم سيد أفندي عارف، وخطر لها أن تصعد إلى السطح - قبل القيام بالزيارة - لتجول جولة فيه مسرحة الطرف بين المآذن والقباب، وقد صار السطح نزهتها بعد أن تعذر عليها مشاركة البنات لعبهن في الطرقات، ودارت مع السور على مهل متصفحة المناظر مقلبة وجهها في الآفاق، وشعرت فجأة بداع يدعوها إلى النظر نحو مدخل السطح، فما راعها إلا أن تراه هناك يملأ طوله فراغ الباب وينظر نحوها في هدوء وفي عينيه الجميلتين شبه ابتسام! واضطرب قلبها لمرآه اضطرابة عنيفة زلزلت صدرها الصغير، وشعرت بخوف وقلق، ثم استعادت رباطة جأشها بسرعة موقنة بأن الموقف أحرج من أن تلقاه بالحياء فحسب، وتعلقت عيناها وهما تنظران إليه بالإنكار والذهول.
22
ثم حولت عنه عينيها، وولته ظهرها، وألقت ببصرها إلى الأفق البعيد دون أن ترى شيئا، وقال لها عقلها إنه ينبغي أن تزايل المكان إذا أرادت، ولكنها لم تحرك ساكنا، وأهاب بها شعور باطني بأن تتجاهل وجوده، وبألا تعجل بذهابها، فلبثت حيث هي لا تريم، وتولاها إحساس بالحياء والقلق، وتنهد رشدي ارتياحا لما رآه من تفضيلها البقاء على الرحيل، وقال لنفسه جذلا: «أصابت سن الشص مرماها، ولكن ينبغي معالجة البلطية بحكمة ومهارة!» وكان علم بصعودها إلى السطح اتفاقا، إذ كان ينظر إلى نافذة حجرتها المغلقة بأسف فلاحت منه التفاتة على سور السطح، فصادف ذلك مرورها به وكان انتهى من ارتداء ملابسه استعدادا للخروج إلى سهرته، فحملته جسارته وحسن انتهازه للفرص إلى الصعود إلى السطح من فوره، ولما اطمأن إلى بقائها تفحص المكان بهدوء حتى أدرك خلوه، ثم سار متمهلا إلى موقف قريب منها، ولم تكن تخونه الجرأة الجنونية، ولكنه آثر معها الأناة لما عهده بها من حياء، ورأى على السور - في موقع وسط بينه وبينها - عمودا خشبيا شد إليه حبل الغسيل، ووقعت عليه يمامة فرفع رأسه إلى اليمامة وقال بصوت خافت وهو يلحظ الفتاة بطرفه: «مساء الخير يا يمامتي!» ورآها تلحظ اليمامة بطرف خفي فابتسم واستدرك: «ما أجمل سمرتك! السمرة حلية الجمال وروح الخفة، هلا سمعت بأغنية السمرة: «يا أسمر اللون حياتي الأسمراني»؟» وأنصتت الفتاة إليه - وإن تظاهرت بعدم المبالاة - بأذنين مرهفتين، وطاب لها صوته، فابتسمت ابتسامة باطنية لم ترسمها شفتاها، ثم غلبها الحياء فابتعدت خطوتين وأشاحت عنه بوجهها. وجعل هو يقول محدثا اليمامة: «كيف لا تردين تحيتي؟ .. كيف تعرضين عني؟! .. بل كيف اندست القسوة إلى هذا الحسن الرقيق؟!» وتساءلت أما ينبغي أن تمضي إلى حال سبيلها؟ ألا تخاف أن يصعد البواب أو بعض السكان إلى السطح فيريبه من موقفها ما يريبه؟ أبها مس يشد قدميها إلى الأرض؟! واستدرك رشدي قائلا : «ألا تعلمين يا يمامة أني جارك؟ .. وأن السماء الرحيمة لن تستطيع أن تغيبك بعد اليوم عني؟ وأني سأكون دائما حيث تكونين!» وعطفت نوال رأسها قليلا كأنما لترى اليمامة فوجدتها قد طارت! وألفته ينظر نحوها بجسارته المعهودة، ولم تعد تجدي مخاطبة اليمامة، فقال لها بهدوء: سعيدة.
فأشاحت عنه وجهها مرة أخرى، وحركت قدميها ببطء شديد نحو الباب، فدنا منها جزعا وقال: ألا تردين علي؟
فلم تنبس بكلمة وقد تورد خداها واختلج جفناها، فاقترب منها أكثر من قبل وقال: أما تجودين بكلمة واحدة؟ .. كلمة واحدة. لتكن عذلا إن شئت، بل لتكن نهرا!
صفحة غير معروفة