وحثه على السماع بإشارة من غليونه، وقال: سأقص عليك قصته العجيبة.
رحلة
لفت الأنظار، كان لا بد أن يلفت الأنظار، فرجل طاعن في السن وغاية في الوقار - إذا جلس في قهوة بلدية صغيرة مزدحمة بالصعاليك - لا بد أن يلفت الأنظار، ولما زالت الدهشة عنهم، رجعوا إلى ما كانوا فيه، وراح هو ينظر إلى الحارة من مجلسه، ويلامس قدح الشاي بأنملته دون أن يفكر في تناول رشفة منه، لا شك أنهم يظنونه ضيفا غريبا طارئا لا تفسير له، أو عابر سبيل أقعده التعب، كلا .. إنهم هم الضيوف، هم الطارئون، أما هو ...
أما هو فقد كان في ذلك الموضع مولده.
لقد زال البيت القديم تماما، وقامت القهوة في مقدم الخرابة التي حلت محله، قامت مكان مدخل البيت القديم ودهليزه، وتحت موضع حجرة الجلوس التي كانت حجرة جلوس منذ سبعين سنة، وقد جاء لأن شيئا ما نزع به إلى رؤية الحي القديم، وها هي الحارة لم تكد تتغير. كلا، لقد تغيرت كثيرا، فعند مدخلها ترتفع عمارة جديدة، كذلك مهدت أرضها بالبلاط. ودكاكين كثيرة فتحت مكان الأدوار التحتانية من البيوت القديمة؛ لذلك اجتاحتها ضوضاء غريبة، بعد أن لم يكن يسمع بها إلا أصوات الغلمان وهم يلعبون ويغنون ويتشاجرون. لقد تغيرت كثيرا، ولم يكد يبقى من ذكراها المستكنة في النفس إلا القليل.
شيء ما نزع به إلى زيارة الحي القديم، ورغم اختفاء بيته، فها هي البيوت الأخرى، قديمة كما كانت وازدادت قدما، أما سكانها ...
لا أهمية للسؤال عنهم، تمزقت العلاقات القديمة وفنيت صلاتها الحميمة، كابدت جميعها تجربة صارمة حادة كالموت تماما. إن الشيء الذي نزع به إلى هنا لا يبحث عن الآخرين، ومع ذلك، أو رغم ذلك، فإنه استوقف صاحب القهوة وهو يمر أمامه، وسأله: من يقيم في ذلك البيت؟ - إنه وكالة خشب. - وذلك البيت؟ - عائلات كثيرة، كل عائلة في حجرة. - وذلك البيت؟ - آيل للسقوط.
كان لأرباب البيوت هيبة، فإذا ظهر أحدهم في الحارة سكت ضجيج الغلمان، وتوقفوا عن اللعب أو تواروا عن الأنظار. - وأين الكتاب والسبيل؟ - لا يوجد، ولم يوجد. - كان هناك كتاب وسبيل. - ولكني أعمل هنا منذ عشرين سنة!
يحسب أنه ملك التاريخ! وابتسم ابتسامة لم يرتسم منها شيء على تجاعيد وجهه، وسأله الرجل باهتمام: أتريد شراء أرض؟
فشكره وهو يعجب لغرابة الفكرة، ولحظه - وهو يبتعد - بجانب عينه كما ينظر الأصيل إلى المحدث.
صفحة غير معروفة