تلا عليه المحضر بأناة ووضوح، تابعه مقطبا ذاهلا. أجل ! شيء كذاك الجحيم قد لفحه على نحو ما، وسأله المأمور: كيف حدث ذلك؟
تمتم بارتباك وحزن: لا أدري. - ثابت أنك كنت في حال سكر بين، ولكن هذا لا يكفي.
لم ينبس. - وقد شك الضابط فيما هو أخطر من السكر، واقترح علي عمل تحليل للمعدة. - لا. - لم يحصل. - لا أدري كيف أشكرك.
ابتسم المأمور، وقال: كنت من المتابعين لدراساتك القيمة، ولكن كيف حدث ذلك؟
تأوه الرجل قائلا: واضح أنني فقدت عقلي تماما. - ولكنك اعتديت على امرأة في بيتها، وتلك جريمة مزدوجة. - لا أصدق! - وسنجد مصاعب حقيقية في محاولة التفاهم مع المرأة وأهلها. - يا له من مصير أسود! - حادث خرافي، أرجو ألا يتسرب إلى الصحافة.
تنهد الرجل لدى ذكر الصحافة، قال إنه كان من أعلامها قبل الاعتزال، قبل أن يعتزلها منذ خمسة عشر عاما. رجع إلى قريته كهلا، جفت به بواعث النشاط. عاش في خمول دهرا، ثم تاقت نفسه إلى زيارة القاهرة. ذهب إلى تافرنا كالأيام الخالية، ثم ساقته قدماه كالعادة إلى الدرب إياه. - ولكنك أول من يعلم بأنه لم يعد حيا للبغاء، وأول من يعلم متى ألغي البغاء. - غاب عني ذلك تماما وأنا فاقد الوعي. - وكان ما كان. - وكان ما كان!
ضحك المأمور بروح مطمئنة لن تتوانى عن مساعدته، وجعل ينوه بكتابه الضخم عن البغاء والبغايا، فقال الرجل: كانت جولة رائعة، وزرت من أجل تأليفه بلدانا كثيرة في الشرق والغرب، كان دائرة معارف. - وكنت تطالب بإلغاء البغاء، والعناية الإنسانية بالبغايا! - وعندما وقع الإلغاء، توجت حياتي بالنصر، وأقام لي الزملاء حفل تكريم في شبارد. - أجل، كأني أذكر ذلك، ولكن لماذا هجرت الصحافة؟ - كان البغاء المشكلة الجوهرية التي كرست لها قلمي؛ تاريخه وأشكاله وضحاياه وجميع ما يتصل به، وجعلت من إلغائه هدفي، فلما تحقق، ولما شبعت من النصر، وضح لي أنه لم يعد لي شيء يثير اهتمامي! - ولكن قلمك ... أعني أن البغاء ليس إلا مشكلة من مشكلات لا حصر لها. - لم يعد لي قلم، مات ميتة غريبة، وتمزقت الأسباب بيني وبين الأشياء. - الحق أني ...
ولكنه قاطعه في ضجر: لقد وقع الإلغاء على البغاء وعلي في آن، ذهبنا معا، أصبحت غير ذي موضوع، وبلا عمل ولا حماس ولا هدف.
تبادلا نظرة، ثم استطرد: رجعت إلى قريتي، وسرعان ما ابتلعني النسيان.
وتبادلا نظرة أطول، ثم ابتسم المأمور قائلا: كان الحي ضمن منطقتي وأنا ملازم، وكنت أراك كثيرا في قهوة العربي! - ذاك كان بعض عملي. - ولكنك ... أعني ... كنت تمرح وتلعب. - أجل، كنت القلب الذي يصغي إلى أناتهن في الهزيع الأخير من الليل.
صفحة غير معروفة