فأجاب الغلام الذي توقع سؤالا آخر: في بيوتهم. - لا يوجد أحد في الطريق، ولا توجد أنوار؟
دارى الغلام ابتسامة، فقال الرجل لنفسه إنه قد أفرط، وإن منظره ولا شك مثير للغاية. وسأله الغلام: ماذا تحب أن تشرب؟ - واحد كونياك.
لم يعد في وسع الغلام إخفاء ابتسامته، ولبث متحيرا. - واحد كونياك من غير مزة. - قهوة .. شاي .. قرفة .. جوزة. - قلت واحد كونياك. - لا يوجد. - لكني شربته هنا مرات ومرات. - غير مصرح بها في الأحياء البلدية.
هذا الغلام أبله أو أن رأسه هو يتطور تطورا شاذا. - ومن مطرب القهوة؟ - أي مطرب؟ .. لا مطرب للقهوة.
أشار له أن يذهب. ثمة سر سينجلي عن قريب، وأراد أن يناقش صاحب القهوة، ولكن ظهرت أول امرأة في الطريق، جاءت من ناحية السلم ملفوفة في ملاءتها، سافرة الوجه، فانتزعته من هواجسه. هي نقطة الالتقاء الحقيقية لا القهوة الخربة، وثمة امرأة واحدة تمشي بملاءتها في الحي كله. فردوس، فردوس دون غيرها من نساء الحي، ولما اقتربت ابتسم إليها. هم بدعوتها لمجالسته، ولكنها مضت داخل الدرب دون أن تعيره التفاتة تصاحبها دقات كعبها العالي فوق البلاط. لعلها لم تره، لا يمكن أن تنسى العشرة الطويلة والسرور والحزن، والأحاديث التي لا تنتهي حتى مطلع الفجر. وغادر القهوة ليتبعها على الأثر، ومالت نحو ثالث باب، فدفعته بيدها ودخلت. أوسع خطاه ثم دخل وراءها.
جعل يقترب منها في الطرقة، في جو تغشاه الظلمة، لولا بصيص من النور يترامى إليه من الدرب خلال الباب الموارب، التفتت متسائلة: من؟
أجاب بثقة: أنا.
فسألت بحدة وحذر: من أنت؟ - صاحب هذا الصوت، ألا تذكرين؟ - كلا. - فردوس. - اذهب. - فردوس. - فردوس في عينك يا قليل الحيا!
فضحك قائلا: هذه هي فردوس، إني أعرف ألاعيبك.
ومد يده ليمسك بساعدها، فأفلتت منه وهي تصرخ غاضبة، ثم هوت على وجهه بقبضتها. توقف منزعجا، وهرولت أقدام فوق السلم. وتلاطمت الجدران بزمجرة ولغط، ثم تجلت أوجه غاضبة على ضوء مصباح تحمله امرأة، وقال في جفول: ماذا جرى؟ .. أنا زبون!
صفحة غير معروفة