لأنه وحيد في سيارته الصغيرة، لم يجد تسلية إلا في السرعة، طار فوق شريط الأسفلت المنساب وسط الرمال في طريق السويس، ولا تنوع في المنظر؛ مما ضاعف من شعوره بالحدة، ولا جديد يذكر في سبيل يقطعه ذهابا وإيابا مرة كل أسبوع، وتراءت له عن بعد سيارة نقل ضخمة، فقرر اللحاق بها، ثم ضاعف من سرعة سيارته «رمسيس» ومضى يقترب منها. سيارة بترول ضخمة كقاطرة، وثمة راكب دراجة يمسك بركن مؤخرها، وينطلق بحذاء عجلتها اليسرى الخلفية دون عناء، وهو يغني. ترى من أين جاء راكب الدراجة، وأين يقصد، وهل كان يطوي الطريق بدراجته لو لم يجد سيارة تجره؟! وابتسم إعجابا وهو ينظر إليه في إشفاق، ومر بمجموعة من التلال عن يمينه، تترامى وراءها بقعة خضراء زرعت ذرة، واكتنفتها أرض معشوشبة ترعاها الماعز، فهدأ من سرعته مؤجلا السباق حتى يتملى الخضرة اليانعة، وإذا بصرخة تمزق الصمت. انجذب وجهه إلى الأمام بعنف، رأى عجلة السيارة تدوس الدراجة وراكبها وتمضي في طريقها. صرخ فزعا، وصرخ ينادي السائق، وأوقف سيارته على مبعدة مترين من الدراجة، ثم غادرها دون تفكير، ودون أن يكف عن مناداة السائق، واقترب في تهيب من مكان الحادث، فرأى جسما ملقى على جانبه الأيسر، وذراعه اليمنى منطرحة إلى جانبه سمراء صغيرة اليد، بارزة من قميص أغبر نصف كم، مغطاة الأديم بالسحجات والكدمات، لا يظهر من وجهه إلا عارضه الأيمن، ورجلاه ما زالتا مطوقتين للدراجة داخل بنطلون رمادي متهتك ينز منه الدم، وقد هصرت العجلتان وتهشمت أسلاكهما، وانكسر جانب المقود، وثمة حركة تنفس ثقيل عميق سريع تجتاح صدر الضحية الذي بدا شابا في العشرين أو فوق ذلك بقليل. تقلص وجهه وثبتت في عينيه نظرة حزن ورثاء، ولكنه لم يدر ماذا يفعل. شعر بعجزه في الخلاء، ونبذ فكرة حمله إلى سيارته التي قد يكون فيها القضاء عليه، وأخيرا، وجد المهرب من حيرته في أن يركب سيارته، وينطلق بها في إثر السيارة الجانية حتى يلحق بها، ولعله يجد في الطريق نقطة مراقبة أو تفتيش فيبلغ عن الحادثة.
ورجع إلى سيارته وهم بالدخول فيها عندما ارتفع صوت، بل أصوات، وهي تصيح: قف .. لا تتحرك.
التفت وراءه فرأى جمعا من الفلاحين يركضون نحوه، آتين من ناحية الأرض الخضراء، منهم من يحمل عصا أو يقبض على حجر، واضطر إلى العدول عن الركوب خشية أن تنهال عليه الأحجار، والتفت نحوهم وهو يرجف من دقة موقفه، وأيأسته الوجوه الغاضبة المتوثبة من أي أمل في التفاهم، فمد يده بسرعة إلى الخزانة، فاستخرج مسدسه ثم سدده نحوهم، وصاح بنبرة مختلجة: مكانكم.
أدرك بسرعة خاطفة مضطربة أنه بحركته هذه قد قضى على أي أمل أيضا في التفاهم مستقبلا، ولكن لم يكن ثمة وقت لحسن التدبير، وهدءوا من اندفاعهم حتى توقفوا تماما على مبعدة عشرة أمتار. استقرت في أعينهم نظرة مكفهرة حاقدة، وأضرم من نيرانها العجز غير المتوقع حيال المسدس، وتبدت الوجوه غامقة جافة مرهقة تحت أشعة الشمس، وتهاوت الأيدي بالعصي والأحجار، وتشبثت الأقدام الغليظة الحافية بالأسفلت، وقال رجل منهم: أتريد أن تقتلنا كما قتلته؟ - لم أقتله، لم أمسه، ولكن داسته سيارة البترول. - سيارتك أنت. - أنتم لم تروا شيئا. - رأينا كل شيء. - إنكم تمنعونني من اللحاق بالسيارة الجانية. - أنت تريد أن تهرب.
ازدادوا حقدا وازداد خوفا، وأرعبته لحد الموت فكرة أن يضطر إلى إطلاق النار، أن يقتل، وأن يجره القتل إلى مأزق لا نجاة منه. كيف حل الكابوس بلا نوم. - صدقوني ما مسسته، وقد رأيت السيارة وهي تدهسه. - لم يدهسه أحد غيرك. - كان يجب أن تبلغ أقرب مستشفى. - حصل. - ونقطة البوليس؟ - حصل. - إذن، أرجو أن ننتظر في سلام، وسوف يظهر الحق. - لا تهرب وسوف يظهر الحق. - بالله، لماذا الإصرار على الباطل؟ - لماذا تقتله؟!
أي جحيم من العناء والكذب؟ ومتى تنقضي فترة الانتظار الجهنمية، العذاب البطيء والخوف والفكر المحموم؟ لماذا وقف؟ وكيف تظهر الحقيقة؟ حتى سائق السيارة الكبيرة لا يدري، ولا أمل في أن يكون الموقف كله حلما مزعجا.
وندت عن الشاب الطريح تأوهة، أعقبتها آهة محشرجة وأنين طويل هبط حتى الصمت مرة أخرى، وهتف رجل: الله ينتقم منك. - الله ينتقم من الفاعل. - أنت الفاعل! - الحق علي لأني وقفت. - ظننت نفسك وحيدا. - بل ظننت أن أسعفه. - تسعفه! - لا فائدة من الكلام معكم. - لا فائدة!
لو أدار لهم ظهره ثانية واحدة لالتهمته الأحجار، لا مهرب من موقف العذاب، ولا سبيل إلى السيارة الكبيرة، هو وحده الفداء، ودون حلم النجاة أهوال وأهوال، ترى كيف تحدد المسئولية، وكيف تقدر العقوبة؟ وهل يمكن أن ينجو الشاب المسكين؟ وتجلى الحنق في نظرته تجاه حقد ثابت في نظراتهم. •••
وتراءت في أقصى الأفق سيارتان، وأخذتا تقتربان حتى تنهد في ارتياح، وصلت إلى مكان الحادث سيارة الإسعاف وسيارة البوليس، انتقل رجال الإسعاف إلى الدراجة فورا وأحاط بهم الجميع، خلصوا الدراجة من بين ساقيه بأناة، ثم حملوه بعناية إلى السيارة، ورجعوا من حيث أتوا، وأبعد العساكر الجمع عن الدراجة وراح الضابط يعاين المكان صامتا، ثم التفت إليه قائلا: أنت؟
فصاح الفلاحون بإيجاب حتى أسكتهم الضابط بإشارة من يده، وهو ينظر إليه مستطلعا، فقال: كلا، كنت أسير وراء سيارة بترول، وكان قابضا على مؤخرها، انتبهت إلى صرخة، فرأيته تحت عجلتها الخلفية.
صفحة غير معروفة