ولو زعم القوم على أصل مقالتهم أن القرآن هو الجسم دون الصوت والتقطيع، والنظم والتأليف، وأنه ليس بصوت ولا تقطيع ولا تأليف، إذ كان الصوت عندهم لا يخترع كاختراع الأجسام المصورة، ولا يحتمل التقطيع كاحتمال الأجرام المتجسدة، والصوت عرض، لا يحدث من جوهر إلا بدخول جوهر آخر عليه، ومحال أن يحدث إلا وهناك جسمان قد صك أحدهما صاحبه، ولا بد من مكانين: مكان زال عنه، ومكان آل إليه. ولا بد من هواء بين المصطكين. والجسم قد يحدث وحده ولا شيء غيره، والصوت على خلاف ذلك. والعرض لا يقوم بنفسه، ولا بد من أن يقوم بغيره، والأعراض من أعمال الأجسام، لا تكون إلا منها، ولا توجد إلا بها وفيها. والجسم لا يكون إلا من جسم، ولا يكون إلا من مخترع الأجسام. وليست لكون الجسم من الله علة توجيه، ولا يحدث إذا حدث إلا اختيارا، وإلا ابتداعا واختراعا. والصوت لا يكون إلا عن علة موجبة، ولا يكون إلا تولدا ونتيجة، ولا يحدث إلا من جرمين، كاصطكاك الحجرين، وكقرع اللسان باطن الأسنان، وإلا من هواء يتضاغط، وريح تختنق، ونار تلتهب. والريح عندهم هواء تحرك، والنار عندهم ريح حارة. هكذا الأمر عندهم.
فلو قالوا: لا يكون الشيء مخلوقا في الحقيقة، دون المجاز وعلى مجازي اللغة، إلا وقد بان الله عز وجل باختراعه، وتولاه بابتداعه، وكان منه على اختيار، والابتداع: الذي يمكن تركه وإنشاء عقيبه بدلا منه، على ما كان يوكده، ونتيجته من أجسام يستحيل أن يخلق من أفعالها، ويجلبها الله تعالى منها.
صفحة ٢٩٠