ونذكر فيما يلي مجرى القتال في كل صفحة من الصفحات الثلاث:
الصفحة الأولى
بدأ القتال صباحا بتحميس القواد رجالهم بالكلمات المأثورة والخطب الحماسية، فنادى شرحبيل بن مسيلمة في رجاله قائلا: «يا بني حنيفة، اليوم يوم الغيرة، إن هزمتم تستردف النساء سبيات وينكحن غير حظيات. قاتلوا عن أحسابكم وامنعوا نساءكم.»
وكان في أول القتال براز من الفريقين كما جرت عليه عادة العرب، فقتل في هذا البراز الرحال بن عنفوة الذي كان في طليعة الحنفيين قبل القتال، وكان على الميسرة قتلة زيد بن الخطاب، ويظهر أن رؤساء آخرين من بني حنيفة قتلوا في البراز؛ مما حمل الطبري على القول: «قتل الرجال وأهل البصائر من بني حنيفة.» وبدلا من أن يوهن هذا القتل عزائم بني حنيفة شدد عزيمتهم فتذمروا وحمل كل قوم في ناحية. ويلوح من مجرى القتال أن الضربة كانت قوية من الجانب الأيمن على ميسرة المسلمين فزحزحتها من محلها وتراجعت منكسرة لا تلوي على شيء.
فأثر ذلك في موقف القلب، فرجع متقهقرا وبنو حنيفة يطاردونه إلى أن وصلوا إلى المعسكر فقمعوا أطناب الخيام.
ومن الروايات ما يزعم أن ريحا جنوبية مغبرة هبت في وجوه المسلمين فضعضعت صفوفهم واستفاد بنو حنيفة منها، فهزموا المسلمين حتى أزاحوهم من محلهم وطردوهم من المعسكرات فدخلوا في الفسطاط فرعبلوه بالسيوف.
والروايات متفقة على أن بعض الأعداء دخل خيمة خالد بن الوليد، وكان فيها مجاعة مكبلا بالحديد قيد مراقبة أم تميم التي تزوجها خالد بعد قتله مالك بن نويرة، فأراد الحنفيون إنقاذ مجاعة فهموا بقتل أم تميم، إلا أنه منعهم من ذلك، فقال لهم: «لا تتشاغلوا في المعسكر، ودونكم الرجال.» ففي مثل هذا الموقف الحرج برز خالد إلى الميدان شاهرا حسامه تشجيعا للمسلمين ومناديا بشعار «يا محمداه!»
ويكاد المؤرخون جميعا يتفقون على أن خالدا بفراسته وبطولته أنقذ الموقف، ولولا قيادة خالد وجلادة الصحابة الذين لقوا حتفهم بعد أن أظهروا للمسلمين أمثلة حسنة، لدارت الدائرة على المسلمين، ولا ريب.
الصفحة الثانية
تبدأ الصفحة الثانية بدعوة الرؤساء من المسلمين إلى الثبات في محلهم والكر بعد ذلك على الأعداء، فثابت بن قيس الذي كان يقود الأنصار كان ينادي الأنصار قائلا: «بئسما عودتم أنفسكم يا معشر المسلمين! هكذا عني حتى أريكم الجلاد.» وقال زيد بن الخطاب الذي كان يقود القلب حين انكشف الناس عن رحالهم؛ أي المعسكر: «لا تحوز بعد الرحال.» وقام البراء أخو أنس بن مالك ينادي قائلا: «أنا البراء بن مالك، هلموا إلي.» أما أبو حذيفة الذي كان يقود الميمنة، فكان ينادي قائلا: «يا أهل القرآن، زينوا القرآن بالفعال.»
صفحة غير معروفة