جون مينارد كينز: مقدمة قصيرة جدا

بيت مور ت. 1450 هجري
12

جون مينارد كينز: مقدمة قصيرة جدا

تصانيف

كان كتاب «بحث في النقود» - الذي نشر عام 1930 - خير مثال على شغف كينز بالتعميم؛ فقد بنى كينز بالأساس منظومة مفاهيم معقدة جدا؛ ليبين كيف يمكن لاقتصاد قائم على معيار الذهب - تحت ظروف معينة - أن يسقط في فخ انخفاض نسبة التوظيف. فإذا منعت المؤسسة النقدية من خفض سعر الفائدة الطويل الأجل لمستوى يتماشى مع توقعات المستثمرين، وإذا منعت تكاليف الإنتاج المحلية تحقيق فائض تصديري يساوي ما يرغب الناس في إقراضه بالخارج، فستكون النتيجة هي الإفراط في الادخار على حساب الاستثمار، وانخفاض سعر صرف العملة، وجمود الاقتصاد. وكان هذا مصير بريطانيا في عشرينيات القرن العشرين. ونادى الفكر الثوري - الذي ظهر بوضوح أكثر في كتاب كينز «النظرية العامة» - بأنه ليس هناك آلية تلقائية في أي نظام اقتصادي حديث للموازنة بين معدلي الادخار والاستثمار المستهدفين. وكما لاحظ «هايك» وحده، كان معنى هذا أنه لا توجد آلية تلقائية في النظام الاقتصادي لضبط إجمالي الطلب مع إجمالي العرض. وكانت فكرة عدم التناسب بين المدخرات المحلية والاستثمارات المحلية أو الأجنبية هي ما وفر لكينز أساس برنامج لتمويل المشروعات العامة بالقروض لزيادة نسب التوظيف في ظل قيود نظام معيار الذهب.

وكان أهم ما ميز إقرار كينز في أبريل عام 1929 بسياسة لويد جورج لتمويل المشروعات العامة بالقروض في عمله «هل يمكن للويد جورج أن ينجح؟» - الذي كتبه بالاشتراك مع هوبرت هيندرسون - هو زعمه أن الإنفاق على المشروعات العامة سيسفر عن موجة رخاء «تراكمية». وسنحت له فرصة التأثير في سياسة حكومة رامزي ماكدونالد العمالية الثانية، لما عين في لجنة ماكميلان التي تشكلت في نوفمبر 1929، وكذلك في المجلس الاستشاري الاقتصادي للحكومة الذي أنشئ في يناير 1930. وكان عرضه الذي استغرق تسعة أيام لنظرية عمله «بحث في النقود» وللحلول المقترحة لمشكلة البطالة أمام لجنة ماكميلان في مارس 1930؛ بمنزلة البداية الحقيقية للثورة الكينزية في السياسة الاقتصادية. لكن اقتراحاته بخصوص المشروعات العامة والحماية لم تلق قبولا في ذلك الوقت؛ فقد أدى انهيار الاقتصاد العالمي وفقدان الثقة في مجال الأعمال إلى دعم الفكر المحافظ. وأدت الضغوط في سبيل خفض النفقات في مجال التمويل العام إلى استبدال حكومة ائتلافية بالحكومة العمالية في 25 أغسطس 1931. وفي 21 سبتمبر أدى الانهيار المالي في دول وسط أوروبا مع تفاقم عجز الحساب الجاري في بريطانيا إلى إنهاء الارتباط بين الجنيه الاسترليني ومعيار الذهب. وفي ذلك الخريف بدأ كينز تأليف كتاب نظري جديد للتأكيد على دور التغيرات في الناتج في التكيف مع وضع توازن جديد.

ورغم أن كينز لم يكتب إلا كتيبا واحدا عن السياسة الاقتصادية، وهو «الطريق إلى الرخاء» في عام 1933، فإنه لم يقض معظم «وقت فراغه» فيما بين عامي 1931 و1935 في تقديم المشورة للحكومات، بل في تأليف كتابه «النظرية العامة» الذي نشر في فبراير 1936. كما نشر له كتابان عبارة عن مقالات مجمعة؛ وهما: «مقالات في الإقناع» (1931)، و«مقالات في السيرة الذاتية» (1933). وضم الأول ما أطلق عليه كينز في مقدمته «نبوءات اثني عشر عاما؛ نبوءات العرافة كاساندرا التي لا يصدقها أحد ولا يمكنها أبدا أن تؤثر على مسار الأحداث الجارية». وكان من أهم خصائص الكتاب الثاني هو استغلال كينز لحياة العلماء القصيرة ليتأمل ويرسم صورة للعبقرية العلمية.

وفي المدة ما بين عامي 1931 و1932، اشتغل كينز بكتابة مراسلات متقطعة لكنها قوية عن بعض النقاط في نظريات هوتري وروبرتسون وهايك. كما ساعده أيضا مجموعة من الاقتصاديين الشباب الذين سموا أنفسهم «سيرك كامبريدج» الذي قدم أبرزهم له، وهو ريتشارد كان، نظرية «المضاعف». ولم يكن عمله «الطريق إلى الرخاء» هو العلامة الوحيدة على تقدمه في كتابة عمله الأساسي، بل كانت هناك أيضا مسودات لفصول الكتاب وأجزاء من محاضرات ومجموعة كاملة من الملاحظات التي دونها تلاميذ كينز في محاضراته من عام 1932 حتى عام 1935. وتحدث أحد تلامذته هؤلاء - وهو إيه سي جيلبين - عن الجو العام في جامعة كامبريدج عام 1933 في خطاب إلى والديه قائلا:

يبدو أن محاضرات علم الاقتصاد هذا العام بشكل أساسي عبارة عن توضيحات أو تفنيدات للنظريات التي درسناها العام الماضي؛ فمارشال يهاجمه شوف، وبيجو يهاجمه كينز، وروبرتسون يختلف مع كينز ويترك للحضور أن يقرروا من على صواب، وتحاول السيدة جون روبنسون - وهي سيدة حادة - أن تشرح لنا سبب اختلافهم. الأمر شائق لكنه مربك.

وفي المرحلة الأخيرة الخاصة بالبراهين في صيف عام 1935 قدم روي هارود لكينز بعض الاقتراحات الهامة.

لم يكن كينز يقضي وقته في عمل شيء واحد. فبالإضافة إلى انشغاله بتأليف كتابه الأساسي، فقد قضى معظم وقته في عامي 1934 و1935 في التخطيط والإشراف على بناء مسرح كامبريدج للفنون؛ تحقيقا لحلمه فيما قبل الحرب بإثراء كامبريدج بمركز دائم للفنون المسرحية. أصبح كينز، بوصفه أمين صندوق كلية كينجز كوليدج وبصفته «مالك ضيعة في تيلتون»، أكثر انشغالا بأعمال الفلاحة. وانعكست تلك الأعمال في مقالين كتبهما عام 1933 للإشادة ب «الاكتفاء الذاتي الوطني»، وهما اللذان حملا في طياتهما هجوما أخلاقيا على التقسيم الدولي للعمل، بحجة أن «معظم عمليات الإنتاج الواسع النطاق الحديثة يمكن إجراؤها في معظم الدول والظروف المناخية بنفس الكفاءة تقريبا.» زار كينز الولايات المتحدة مرتين عامي 1931 و1934. وفي زيارته الثانية قابل روزفلت وأغلب الذين وضعوا «الصفقة الجديدة» بجانب عدد ممن انتقدوها. واستخف كثيرون بتأثير حضور كينز وكتاباته في المرحلة الأولى من تنفيذ «الصفقة الجديدة».

لقد غير كتاب كينز «النظرية العامة» طريقة فهم معظم الاقتصاديين لآليات عمل الاقتصاد. وفي هذا السياق كان الكتاب ثوريا بشكل مباشر وناجحا. كما كان للكتاب تأثير جذري في السياسات الاقتصادية. لم يكن التأثير آنيا، لكن في أعقاب الحرب العالمية الثانية التزمت الحكومات الغربية بشكل صريح أو غير صريح بالحفاظ على معدلات توظيف عالية. وكان الكتاب في حد ذاته رحلة استكشاف عميقة لمنطق السلوك الاقتصادي في ظل عدم اليقين المقترن بنموذج قصير المدى لتحديد الدخل؛ حيث ركز على ضبط كمية النقود لا أسعار صرفها. وكانت العلاقة الفضفاضة بين هذين العاملين سببا لمعظم الخلاف الذي حدث لاحقا حول «المعنى الحقيقي» للكتاب بين من سماهم آلان كودنجتون الكينزيين «الأصوليين» والكينزيين «المتساهلين»؛ فقد كان نموذج تحديد الدخل القائم على المضاعف، بجانب التطور اللاحق في إحصائيات الدخل الوطني، هو ما جعل الاقتصاد الكينزي مقبولا لدى صناع السياسات؛ إذ إنه وفر لهم طريقة آمنة في ظاهرها للتنبؤ والسيطرة على سير متغيرات «حقيقية» مثل الاستثمار والاستهلاك والتوظيف.

جاءت محاولة كينز الأولى لتطبيق نظريته المعروضة في عمله «النظرية العامة» على السياسة الاقتصادية في ثلاثة مقالات كتبها لصحيفة «ذا تايمز» في يناير 1937 حول كيفية تجنب الكساد، وهي عبارة عن تقييم حذر لاحتمال تقليل البطالة إلى أدنى من مستواها في ذلك الوقت البالغ 12٪ من خلال إيجاد «إجمالي طلب أعلى» في الاقتصاد. لم يتمتع كينز بصحة جيدة قط. ففي مايو عام 1937؛ أي وهو في الثالثة والخمسين من عمره، عانى من جلطة في الشريان التاجي، ولم يتعاف منها إلا ببطء. ولما قامت الحرب في 3 سبتمبر 1939 كان يانوس بليش، وهو طبيب مجري، قد أعاد لكينز شيئا من حيويته السابقة.

وفي أعقاب نشر كتابه «النظرية العامة»، أصبح لكينز أكبر تأثير في السياسة الاقتصادية البريطانية. وقد حقق ذلك بفضل قدراته العقلية وشخصيته، لا بفضل منصبه السياسي. ورغم تلقيه عروضا كثيرة للترشح للبرلمان، فإنه لم يترشح. وفي يونيو 1940 أصبح عضوا في لجنة استشارية شكلت لتقدم نصائح لوزير الخزانة بخصوص مشكلات الحرب، وعين في أغسطس في وزارة الخزانة، وعمل سكرتيرا بدوام جزئي. ولم تكن لديه «واجبات روتينية ولا ساعات عمل محددة ... بل كان عمله عبارة عن مفوض متنقل بجانب عضويته في لجان عليا عديدة، وهو ما سمح له بالدخول في أي مكان ليقول ما يريد.» واستغل كينز وضعه الاستثنائي للتدخل، بشكل حاسم غالبا، في كل ما يقع في نطاق العمل الاقتصادي، كبيرا كان أم صغيرا. فأصبح أكثر الموظفين الحكوميين نفوذا في تاريخ الحكومة البريطانية؛ ولم يكن «موظفا لدى رؤسائه بقدر ما كان سيدا عليهم.» وكان من الممكن أن يتيح دخوله في طبقة النبلاء عام 1942 بحمل لقب بارون تيلتون الفرصة أمامه لدخول الحكومة، لكن ذلك لم يطرح قط؛ ربما لأنه كان أكثر نفعا في موقعه. لكن ذلك مكنه من تمثيل الحكومة في بعثات عديدة للولايات المتحدة؛ حيث كان قد ترأس في آخرها (بالاشتراك مع اللورد هاليفاكس) الوفد البريطاني لواشنطن في سبتمبر 1945 للتفاوض بشأن الحصول على قرض أمريكي.

صفحة غير معروفة