فأما الحافز فنعني به العاطفة، حتى تبعث الرغبة أولا ثم الإرادة للدراسة، وهي بمثابة الاشتهاء للطعام، فإننا لا نأكل إلا إذا اشتهينا الطعام، فإذا تولانا حزن أو غضب فإننا نجد أن هذا الاشتهاء قد زال، ولا يجدينا أن تكون لنا معدة سليمة مستعدة للهضم، وكذلك الحال في الدرس، فلا يعنينا أن نكون أذكياء قادرين على الفهم ما دامت النفس نافرة كارهة، وهناك آلاف من الشبان لا ينقصهم الذكاء ولكن ينقصهم الحافز، وهؤلاء يحتاجون إلى أن تتغير نفوسهم، وأن يحسوا هذا التغيير الذي لا يقل في قيمته عن التغير الديني لأن الشخصية تجد أهدافا جديدة في الحياة.
وقد حدث في الحرب الماضية (1914-1919) أن جند بعض الشبان في الولايات المتحدة ونقلوا إلى ميدان القتال في فرنسا، وكان آباؤهم من المهاجرين يجهلون كتابة اللغة الإنجليزية، وكان بعضهم فوق الستين، ومع ذلك شرع يتعلم الهجاء والكتابة كي يستطيع أن يراسل ابنه في فرنسا، وثبت أن هؤلاء الشيوخ تعلموا القراءة والكتابة بسرعة غريبة لأن الحافز كان قويا، بعث العاطفة والإرادة، من الحب الأبوي للأبناء.
وثم حادثة أخرى لها دلالتها السيكلوجية، ففي بعض سنوات الكساد والتعطل في النمسا وجد في إحدى المدن الصغيرة بإحصاء القراء في المكتبة العامة، أنه على الرغم من توافر الوقت للعمال (بسبب التعطل) فإنهم لم يقرءوا من الكتب نصف ولا ربع ما كانوا يقرءون وقت عملهم وتكسبهم؛ وذلك لأن العامل وقت التعطل كان حزينا فاترا لتعطله، فلم تنشط نفسه إلى الدرس والقراءة، أما وقت العمل فكان - على الرغم من قلة فراغه - نشيطا مسرورا، فكان يقرأ.
فهذان المثالان يدلان على قوة الحافز في الدراسة، فعجز الشيخوخة لا قيمة له ما دام الحافز قويا، وفراغ اليوم كله لا يجدي في الدرس ما دامت النفس محزونة بالتعطل.
ولذلك يجب على الراغب في الثقافة أن يجد الحافز في نفسه، وذلك بأن يعين أهدافه في هذه الدنيا، فيقعد مثلا في خلوة غرفته ويسأل لماذا يعيش؟ وهل يصح أن يقضي 70 أو 80 سنة على هذا الكوكب وهو لا يعرف غير أحاديث القيل والقال في المجلات الأسبوعية وألعاب الحظ وقضاء الوقت في خواطر اليقظة السخيفة؟
وهو لا بد واصل يوما ما إلى إقناع نفسه بضرورة الرقي بالتثقيف الذاتي؛ وعندئذ يحس الحافز وتنشأ فيه العاطفة، وهنا البداية أي الرغبة العامة في الدرس، ثم تنتهي إلى التخصص في دراسة موضوع معين، وهنا الإرادة.
وفي بعض الأحيان نجد الحافز طبيعيا، قد أحدثته الطبيعة في شوهة ميلادية تلازم الشخص مدى حياته وتحفزه على التفوق عن سبيل الثقافة؛ ذلك أنه يجد الاحتقار من زملائه لأنفه الضخم، أو لعوج في جسمه، أو لدمامة وجهه أو نحو ذلك، فتكون الثقافة سبيلا إلى الامتياز من حيث لا يستطيع غيره أن يباريه فيه؛ لأنه يبذل عندئذ مجهودا أكبر منه، وكلنا يعرف المثل المألوف في تلك الفتاة الجميلة ترى الإعجاب بها من كل ناحية فلا تبذل المجهود الذي تحتاجه الثقافة وتبقى طوال حياتها بذكاء غشيم غير مدرب، في حين أن تلك الأخرى التي لم تتمتع بمثل هذا الجمال تجهد وتمهر وتحصل، فيتفتح ذكاؤها، وتجد السبيل إلى الثقافة العالية.
فالحافز هنا هو نوع من مركب النقص، نقص يحمل على التكمل، وحاجة تبعث على النشاط للتفوق.
ولكن يجب ألا يحتاج كل منا إلى شوهة يولد بها كي تبقى مهمازا ينخس نفسه ويحثها على التفوق.
والقصد من الدرس هو التعلم، أي نقل المعارف إلى حياتنا بحيث ننتفع بها في الفهم وفي سلوكنا واتجاهنا وميولنا وتصرفنا الخاص والعام، وواضح أنه لا قيمة لأية دراسة لا تتفاعل مع حياتنا، أي ليس لها وظيفة عضوية في كياننا النفسي.
صفحة غير معروفة