أما كيف تسللت المعرفة والتجربة، فأخذتا مكان العقيدة والتسليم، فموضوع كثير التفاصيل، وسوف يعرفه القراء العرب حين تشرع الشعوب العربية في الأخذ بأسباب القوة العلمية.
وحسبي أن أذكر أن أمامي الآن، وأنا أكتب هذه الكلمات، صورة عجيبة رسمها رجل فرنسي يدعي «بيلون» في كتابه الذي ألفه في 1555، أي قبل 400 سنة، بعنوان «التاريخ الطبيعي للطيور».
والصورة هي رسمان متقابلان لكل من الهيكل العظمي للإنسان وللطائر، وهو يشير إلى العظام المتقابلة عظمة فعظمة.
لقد عرف الأوروبيون هذا الرسم منذ 400 سنة، ولم نعرفه نحن إلى الآن، وهو محاولة واحدة من آلاف المحاولات لوضع المعرفة مكان العقيدة، ولتخريج الرجل العصري العلمي.
وإذن الرجل العصري - كما أفهمه - هو الذي يعرف ويجرب ولا يعتقد ويسلم، هو الرجل الناضج الذي يزن نفسه، والدنيا، والكون، بالأوزان والقيم التي تمليها عليه العلوم.
هذه هي السمة الأولى للرجل العصري؛ إذ هو العارف المجرب، الذي يدأب في زيادة معارفه وتجاربه.
والحضارة العصرية هي حضارة الصناعة، أي حضارة العلم الذي يعتمد على المعارف المحققة المجربة.
أما السمة الثانية للرجل العصري فهي أنه ليس قرويا؛ لأنه قد تعود قراءة الصحف كما تعود غسل وجهه في الصباح، وقد غيرته هذه الصحف؛ لأنها جعلته عالمي النزعة ديمقراطي التفكير، فهو لا يعيش بعقله أو نفسه في القرية؛ إذ هو يصطدم كل صباح بما يجعله يحس أنه مع الهنود، يسمع كلمات الرجولة من نهرو، أو كلمات القداسة من غاندي، وهو يرتعش خوفا من الممكنات التدميرية في القنبلة الذرية ويتلهف لذلك على وسائل السلم، وهو يحس أنه يدين بدين الحب مثل ابن عربي، حين يقرأ عن أولئك الذين يبصقون على وجوه الزنوج في أفريقيا الجنوبية، ولكنه أيضا متقائل بالمستقبل لأنه إنساني، ولا يطيق أن يسلم بأن الشر سيتغلب على الخير، وهو لذلك أيضا اشتراكي النزعة في السياسة.
والسمة الثالثة في الرجل العصري أنه متطور، وهو يكاد يعتقد - ضد مزاجه العلمي - أن التطور ارتقاء.
وهذا شيء جديد في العالم نختلف فيه عن القدماء؛ إذ إننا نسأل في عصرنا عن أحد الناس: هل هو متطور؟ هل هو ارتقائي الذهن، يوقن بأنه ليس على الأرض، بل ليس في هذا الكون مادة أو نبات أو حيوان إلا وهي تتطور كل يوم بل كل لحظة؟
صفحة غير معروفة