ويجب أن ندعو هذا المترهل إلى أن يتطور ، بأن يرقى ويختار بعض الكتب الأخرى من المؤلفات الدسمة التي تغذي الذهن، وأن نعيب عليه جهله، وأن نعرض عليه ألوانا حسنة مغرية من الآداب والمعارف تفتح له أبوابا لعالم آخر يجهله، وتحمله على أن يبحث عن قصده في الحياة.
ثم هناك ذلك الجمود الذي يصيب المتعلمين من المتخصصين، كالطبيب أو المهندس الذي لا يدرس الآداب أو التاريخ أو العلوم الأخرى لأنه «متخصص»، وحسبه من المعارف ما يندمج في الفن أو العلم الذي تخصص فيه، فإن تخصصه هنا لا يمنع من وصفه بأنه جاهل، وربما كان جهله أخطر من جهل الأميين؛ لأن عند هؤلاء تواضعا، أما هو فيحمله تخصصه على كبرياء كاذبة تؤذي المجتمع؛ لأنه يرتأي آراء منشؤها الجهل، وفي مجتمعنا الحاضر تشتبك فروع الثقافة حتى إننا نحتاج جميعا إلى دراسة عامة لطائفة عديدة من العلوم والفنون، كي نحسن الفرع الذي تخصصنا فيه، فالطبيب محتاج إلى دراسة الاقتصاديات للعلاقة المتينة بين الفقر والمرض، ومهندس الري في مصر يجب أن يدرس أمراض التربة التي انتهت إلى إيجاد مرضي الإنكلستوما والبلهارسيا يصيبان الفلاحين ويتعسانهم، ورجل الدين يجب أن يدرس الأصول التي ينبني عليها المجتمع الحاضر كي يجعل الدين عمليا مفيدا وليس مجرد استظهار وتلاوة ... إلخ.
وقد كررنا هذه المعاني ونرجو ألا يسأم القارئ تكرارها.
البيئة العائلية والثقافة
من أسوأ الأحوال الاجتماعية في مصر أن التكافؤ الثقافي بين الزوجين نادر أو معدوم، فالزوج أحيانا متعلم مثقف، والزوجة لم تحصل من التعليم إلا على نصيب صغير، وهي لم تتعود الثقافة، وبعض التبعة في هذا يعود إلى تقاليدنا التي نزلت بالمرأة إلى مركز اجتماعي دون مركز الرجل، ولكن بعض هذه التبعة أيضا، بل ربما معظمها، يعود إلى قوات إمبراطورية قاهرة، كما نرى مثلا في تلك الحقيقة المخزية، وهي أن وزارة «المعارف» لم تؤسس مدرسة ثانوية للبنات إلا في سنة 1925 كما سبق أن ذكرنا.
وقد نشأ عن هذا الإهمال أن البيت المصري لا يزال إلى الآن يجهل المكتبة، وأن الكتاب والصورة والتحفة ليست من أثاثه، وليس من شك في أن نهضتنا منذ سنة 1922 قد عالجت هذه الحال بعض الشيء، كما يدل على ذلك آلاف التلميذات والطالبات في الأقسام الثانوية وفي جامعاتنا، فنحن ناجحون في مكافحة ظلام القرون الماضية ومظالم القرون العشرين معا، ولن يبعد اليوم الذي نرى فيه نور الثقافة يشع من بيوتنا حين يعيش الزوجان متكافئين يتحدثان بلغة واحدة على مستوي راق من الفهم والتفاهم.
وما دامت الزوجة جاهلة في حالا الأمية، أو لم تحصل إلا على الدرجات الأولى من التعليم، فإنها تعارض زوجها فيما ينفق من وقت أو نقد على الكتاب، وهو لظروف المعيشة الزوجية، وتكرار الإلحاح أو التوبيخ، قد يضطر في النهاية إلى مسايرة زوجته، فيكف عن شراء الكتاب أو يرضى بتجميد ذهنه إيثارا للسلام العائلي، ولكنه إذا كان على شيء من المتانة الأخلاقية استطاع أن يتغلب على جهل زوجته ولو في مشقة.
وبدهي أن خير الوسائل لهذا التغلب هو تعليم الزوجة حتى ترتفع إلى مستوى زوجها، ولكن هذه الوسيلة شاقة؛ إذ من البعيد أن تتعود امرأة عادات الثقافة بعد أن قضت نحو عشرين سنة في الجهل أو ما يقاربه، وكثيرا ما يجد الزوج أن التفاوت الثقافي بينه وبين زوجته قد استحال إلى هوة فاغرة، حتى لتعود الحياة الزوجية معاشرة غايتها التعارف البيولوجي التناسلي وضمان الراحة في الطعام والمأوى فقط؛ لأن لكل منهما اتجاها فكريا يمنع الاشتراك في الحديث وسلوكا معيشيا يحول دون تحقيق المثليات.
ولكن الزوجة على وجه عام، حتى حين تكون متعلمة نوعا ما، تبخل بثمن الكتاب، وتجد في التفات زوجها إلى الدرس إهمالا لها أو قلة في العناية بها، فهي تغار من الكتاب كما لو كان ضرتها، وسوف تبقى هذه الحال عامة إلى أن نحطم التقاليد السوداء ونجعل تعليم المرأة مثل تعليم الرجل سواء في الكم والكيف؛ لأننا بهذه التسوية نرفعهما إلى مستوى مشترك حيث يتحدثان ويفكران ويتجهان في غير انفصال.
وإلى أن نصل إلى هذه الحال، يجب على الزوج أن يعالج زوجته المعالجة الإيجابية البنائية؛ فإنه يسهل عليه مثلا أن يوضح لها أن القراءة، وإن تكن تلهيه عنها، فهي تمتاز بأنها تجذب الزوج إلى البيت، حيث يكون مع زوجته وأولاده يقضي فراغه معهم بدلا من تلك الملاهي الأخرى التي تجذبه إلى المقهى أو النادي حيث يكون عرضة لغوايات مختلفة، والفراغ إذا لم يملأ بالكتاب سوف يملأ بأي لهو آخر قد يضر بالصحة الجسمية أو النفسية أو المالية، ثم الكتاب مع ذلك يمكن أن يكون من الأثاث الفاخر للبيت، إذا عنينا بتجليده واقتنينا الخزانة الفاخرة أو الرف الأنيق الذي يحمله.
صفحة غير معروفة