- (الجزء الأول) -
بسم الله الرحمن الرحيم تقديم بقلم: فضيلة الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وخاتم النبيين، وسيد الأولين والآخرين محمد وآله الطيبين الطاهرين، وأصحابه الغر الميامين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد! فإن علم الحديث -بجميع فروعه وأقسامه وما يتصل به اتصالًا قريبًا أو بعيدًا- من العلوم التي نضجت واحترقت. كما قال بعض حذاق العلماء والمؤرخين، وصيارفة العلوم والفنون، ولم يدع المشتغلون بهذه الصناعة في القوس منزعًا، وهبت على الصحاح الستة التي عليها الاعتماد في صناعة الحديث نفحة من نفحات الخلود والقبول، اللذين خص الله بهما نبيه المصطفى ﵌، وأعلن عن ذلك بقوله: ﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾ لاختصاص هذه الكتب بأخباره وأقواله، وأحواله وآثاره ﷺ، ولشدة إخلاص جامعيها في عملهم، وجهادهم الأكبر في ذلك، وعلو همتهم ودقة نظرهم، وإيثارهم هذا المقصد الأسنى على كل ما يعز ويلذ، ويشغل ويستهوى، وتجردهم له تجردًا يندر نظيره في تاريخ العلوم والفنون، وفي تاريخ المنقطعين والمتجردين، من العلماء والزاهدين، والمتبتلين المجاهدين. وسرى نور هذا العمل الخالص، والحياة المباركة التي يدور حولها، وينبع عنها هذا العلم الشريف، وهذه المكتبة الفذة، فأشرقت الأرض بنور ربها، وأضاء كل جانب من جوانب هذه المكتبة، وتناول أئمة كل عصر، ونوابغ كل بلد كل
بسم الله الرحمن الرحيم تقديم بقلم: فضيلة الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وخاتم النبيين، وسيد الأولين والآخرين محمد وآله الطيبين الطاهرين، وأصحابه الغر الميامين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد! فإن علم الحديث -بجميع فروعه وأقسامه وما يتصل به اتصالًا قريبًا أو بعيدًا- من العلوم التي نضجت واحترقت. كما قال بعض حذاق العلماء والمؤرخين، وصيارفة العلوم والفنون، ولم يدع المشتغلون بهذه الصناعة في القوس منزعًا، وهبت على الصحاح الستة التي عليها الاعتماد في صناعة الحديث نفحة من نفحات الخلود والقبول، اللذين خص الله بهما نبيه المصطفى ﵌، وأعلن عن ذلك بقوله: ﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾ لاختصاص هذه الكتب بأخباره وأقواله، وأحواله وآثاره ﷺ، ولشدة إخلاص جامعيها في عملهم، وجهادهم الأكبر في ذلك، وعلو همتهم ودقة نظرهم، وإيثارهم هذا المقصد الأسنى على كل ما يعز ويلذ، ويشغل ويستهوى، وتجردهم له تجردًا يندر نظيره في تاريخ العلوم والفنون، وفي تاريخ المنقطعين والمتجردين، من العلماء والزاهدين، والمتبتلين المجاهدين. وسرى نور هذا العمل الخالص، والحياة المباركة التي يدور حولها، وينبع عنها هذا العلم الشريف، وهذه المكتبة الفذة، فأشرقت الأرض بنور ربها، وأضاء كل جانب من جوانب هذه المكتبة، وتناول أئمة كل عصر، ونوابغ كل بلد كل
1 / 1
ما يتبادر إليه الذهن. ويجول في الخاطر، أو تقع إليه الحاجة من أخبار جامعيها، وتراجم حياتهم، وأخبار أساتذتهم وشيوخهم، وشروطهم والتزاماتهم في هذه الكتب، وخصائصها، وما يمتاز به بعضها عن بعض، والمقارنة بينها، وفضل بعضها على بعض، ومذاهبهم في اختيار الروايات، وترجيحها وتركها. وقبول الرواة وردهم، وحكمهم على الأحاديث المروية، والفوائد التي استخرجوها منها، والأحكام التي استنبطوها، إن كان هنالك هذا الصنف من الكلام، وهذا الجانب من الفقه. وسمت همة الشراح ودقة فهومهم، فاقتصوا في ذلك الأوابد، وشقوا فيه الشعرة، وكثرت الشروح والتعليقات، واشتدت العناية بتدريسها ونشرها وروايتها، والإجازة فيها حتى أصبحت تلي كتاب الله في تلقي الأمة لها، والعناية بها، ولنظرة عجلى في الكتب التي ألفت في تاريخ العلوم، وفي تاريخ علوم الحديث خاصة، وفي الكتب التي ألفت في أسامي العلوم والفنون والكتب، ومقدمات الشروح الكبيرة لهذه الكتب الستة. تكفي للاطلاع على ضخامة هذه الثروة، واتساع هذه المكتبة الحديثية، ومدى عناية الأمة وشغفها بحديث نبيها ﷺ بصفة عامة، وبالصحاح الستة بصفة خاصة.
ولجامع الإمام أبي عيسى الترمذي مكانة خاصة في هذه الصحاح التي تلقتها الأمة بالقبول، وأجمعت على علو درجتها، فإنه قد استفاد بما سبق إليها أستاذاه الإمام محمد بن إسماعيل البخاري، والإمام مسلم بن الحجاج القشيري بالتأليف. وبذل الجهد في جمع الصحاح، وكل ما سبق تأليفه في هذا الشأن، وشق له طريقة خاصة من بين أئمة الحديث، والذين صنفوا في هذا الموضوع، وهكذا كل من جاء بعد السابقين الأولين، ورزق ملكة التصنيف وقوة الاجتهاد والإبداع، والاقتدار على الصناعة، وقوة التصرف فيها، ونضج علمه ونبغ عقله بالتقدم في السن، وبطول الممارسة للصناعة، وطول الصحبة لأئمة هذا الفن، وحبه ووفائه لهم، والاعتراف لهم بالسبق والفضل، وتواضعه وزهده في الدنيا، وتجرده من الأغراض، وطول دعائه وابتهاله إلى الله.
1 / 2
وكان يبدو للناظر في الصحيحين وقد بلغا في الصحة والدقة، والاقتدار على الصناعة، وفي سنن الإمام أبي داؤد السجتاني فقد جمع شمل أحاديث الأحكام بترتيب حسن ونظام جيد، إنهم ما تركوا لمن يأتي بعدهم شيئًا، وإن وضع كتاب في الأحاديث الصحيحة يكون من قبيل تحصيل الحاصل. وجهادًا في غير جهاد، وجاء الإمام أبو عيسى فوضع هذا الكتاب، وقد نيف على الستين من عمره وهي سن النضج والنبوغ العقلي والحصافة، فظهرت فيه شخصيته التأليفية الفنية واضحة جلية، وبرهن على أنه سد عوزًا في هذه المكتبة الزاخرة التي كانت قد تكونت في هذا العصر الباكر، وعلى أنه زاد في هذه الثروة، وجاء بشيء جديد، فقد جمع بين طريقتي شيخيه البخاري ومسلم في الجمع بين الفقه وبين وضع الحديث في موضعه، وجمع بين محاسنهما واختصاصاتهما، فجمع الروايات المتعددة في مكان واحد، كما فعل مسلم، وأتى بالفوائد الإسنادية كما هو دأب البخاري في مواضع من كتابه، وتكلم على أحاديث كتابه حديثًا حديثًا، وتفرد بمصطلحات ومسائل علمية خاصة به، لا توجد في غير كتابه.
وكان من أول من طرق موضوع ما يسميه الناس اليوم بالفقه المقارن، وكان له فضل كبير يجب أن تعترف الأمة به في حفظه لفقه المدارس الاجتهادية في عصره، ولولاه لضاع منه الشيء الكثير، وعفا عليه الزمان، وتلك خصيصة لجامعه تفرد بها من بين مصنفات الحديث والسنة، فهو من أوثق المراجع وأقدمها في الخلاف، سيما في معرفة المذاهب المهجورة، كمذاهب الأوزاعي والثوري، وإسحاق بين راهويه، وكان من حسناته أنه حفظ للمتأخرين مذهب الشافعي القديم.
ويكاد يكون كتابه «الجامع» المرجع الأساسي في الأحاديث الحسنة، وهي ثروة حديثية لا يستهان بقيمتها، ولا يستغني عنها، ولا نعرف أحدًا من المحدثين الكبار الذين عليهم العمدة في هذه الصناعة اعتنى بهذا الجانب مثل اعتنائه، حتى قال الإمام أبو عمر عثمان بن صلاح في كتابه «علوم الحديث» (١) «كتاب
_________
(١) ص ١٤ - ١٥.
1 / 3
أبي عيسى الترمذي ﵀ أصل في معرفة الحديث الحسن، وهو الذي نوه باسمه وأكثر من ذكره في جامعة».
ثم إنه اعتنى اعتناءًا خاصًا بعلوم الرجال، وعلم الجرح والتعديل، وتفرد ببعض المسالك في صناعة الأسانيد، لا يتفطن لها، ولا يعرف قدرها إلا من رسخت قدمه، وعلا كعبه في علوم الحديث وصناعته، هذا عدا فنون كثيرة اشتمل عليها هذا الكتاب، ولذلك قال حافظ بن الأثير في جامع الأصول «هو أحسن الكتب وأكثرها فائدة، وأحسنها ترتيبًا، وأقلها تكرارًا، وفيه ما ليس في غيره من ذكر المذاهب، ووجوه الاستدلال، وتبيين أحوال الحديث من الصحيح والسقيم، والغريب. وفيه جرح وتعديل» وقال الإمام أبو إسماعيل عبد الله محمد بن الأنصاري «وكتابه عندي أنفع من كتاب البخاري ومسلم ....... لأن كتابه يصل إلى فائدته كل أحد من الناس».
وكان كلام شيخ مشائخنا شيخ الإسلام ولي الله الدهلوي أشمل لمحاسن هذا الكتاب وخصائصه، وأدق وأعمق في بيان فضله من بين الصحاح الستة، قال ﵀ في «حجة الله البالغة»:
«ورابعهم أبو عيسى الترمذي، وكأنه استحسن طريقة الشيخين حيث بينا وما أيهما، وطريقة أبي داؤد حيث جمع كل ما ذهب إليه ذاهب فجمع كلتا الطريقتين وزاد عليهما بيان مذاهب الصحابة والتابعين، وفقهاء الأمصار، فجمع كتابًا جامعًا، واختصر طرق الحديث اختصارًا لطيفًا، فذكر واحدًا وأومأ إلى ما عداه، وبين أمر كل حديث من أنه صحيح، أو حسن، أو ضعيف، أو منكر، وبين وجه الضعف ليكون الطالب على بصيرة فيعرف ما يصح للاعتبار عما دونه، وذكر أنه مستفيض أو غريب، وذكر مذاهب الصحابة وفقهاء الأمصار وسمى من يحتاج إلى التسمية، وكنى من يحتاج إلى الكنيسة، ولم يدع خفاءًا لمن هو من رجال العلم، ولذلك كاف للمجتهد مغن للمقلد» (١).
_________
(١) حجة لله البالغة ص ١٧٦ - ١٧٧.
1 / 4
وقد عنى بشرحه والتعليق عليه كبار المحدثين في عصور مختلفة، ذكر أسماءهم الحاج خليفة جلبي صاحب «كشف الظنون» والعلامة المحدث عبد الرحمن المباركفوري صاحب «مقدمة تحفة الأحوذي» وجاءت هذه الأسماء في المقدمة التي تلي هذا التقديم، وكان منهم علماء الهند في عصور وبلاد مختلفة، استقصى أسماءهم وأسماء كتبهم وتعليقاتهم صاحب (١) كتاب «الثقافة الإسلامية في الهند» وكان ذلك هو المتوقع واللائق بعلو درجة هذا الكتاب وأهميته، وتعرضه للمذاهب الفقهية، والأحاديث المؤيدة لها، الدالة عليها، أو الناقضة لها، وحلوله المكان الأول في المناهج الدراسية، وحلقات التدريس للحديث الشريف.
وكان علماء المذهب الحنفي من أحوج علماء المذاهب، والمشتغلين بعلم الحديث بالاعتناء بهذا الكتاب الجليل، لاشتماله على مجموعة كبيرة من أحاديث الأحكام، وما يستدل به أهل المذاهب في إثبات مذاهبهم، وما ذهبوا إليه من قديم الزمان، ولاعتماد كثير من مخالفيهم على ما أخرجه الترمذي، وما نقله من مذاهب الفقهاء فكان هذا الكتاب جديرًا كل الجدارة باعتنائهم به، وعكوفهم على شرحه، والاستدلال على صحة مذهبهم، وقوته في ضوء الحديث الصحيح، وبيان أدلة مذهبهم. ووجوه استنباطها على أساس ما صح من الأحاديث، واحتوت عليه دواوين السنة، وذلك شيء طبيعي، فإن جامع الترمذي هو أقوى الكتب الستة اتصالًا بالمذاهب الفقهية وأدلتها، وترجيح بعضها على بعض، فما يمكن التغاضي عنه لمحدث أو مدرس للحديث الشريف يعمل بالمذهب الحنفي.
ولكن من الغريب أن علماء المذهب الحنفي، والمشتغلين منهم بعلم الحديث لم يخلفوا آثارًا كثيرة في هذا الموضوع، وكل ما عثرنا عليه مما كتب بالعربية، شرح عليه للشيخ طيب بن أبي الطيب السندي من رجال آخر القرن العاشر الهجري، وشرح لأبي الحسن بن عبد الهادي السندي المدني (م ١١٣٩ هـ) وجل ما أثر عن علماء الهند- وهم حملة راية الدفاع عن المذهب الحنفي، والجامعين بين الحديث
_________
(١) هو العلامة السيد عبد الحي الحسني صاحب «نزهة الخواطر» المتوفي ١٣٤١ هـ.
1 / 5
والفقه- إما بالفارسية، لغة المسلمين العلمية والتأليفية التي تلي اللغة العربية في هذه البلاد، كشرح الشيخ سراج أحمد السرهندي (م ١٢٣٠ هـ) وإما بالأردية اللغة التي حلت محل الفارسية في العهد الأخير كجائزة الشعوذي للشيخ بديع الزمان بن مسيح الزمان اللكهنوي (م ١٣٠٤ هـ) وشرح للشيخ فضل أحمد الأنصاري (١).
وإما مجموع إفادات أفاد بها بعض كبار شيوخ الحديث في درسهم لجامع الترمذي، قيدها بالكتابة بعض نجباء تلاميذهم غالبًا في أثناء الدرس، ونادرًا على إثر انصرافهم عنه إلى مكانهم ويسمى (تقرير) وعبر عنه صاحب «الثقافة الإسلامية في الهند» بقوله: «شرح عليه بالقول» ومن هذه المذكرات أو الإفادات شرح للمفتي صبغة الله بن محمد غوث الشافعي المدارسي (م ١٢٨٠ هـ)، ومنها «المسك الزكي» للإمام المحدث الشيخ رشيد أحمد الكنكوهي ﵀ (م ١٣٢٣ هـ) وتعليقات للعلامة محمود حسن الديوبندي المعروف بشيخ الهند (م ١٣٣٩ هـ)، ومنها «العرف الشذى على جامع الترمذي» للعلامة محمد أنور شاه الكشميري (م ١٣٥٢ هـ) وجمعها تلميذه الفاضل الشيخ محمد جراغ البنجاني.
واستثنى من هذه الكلية كتاب «معارف السنن» للعلامة المحدث الشيخ محمد يوسف البنوري شيخ الحديث بالمدرسة العربية الإسلامية في «كراتشي» ومديرها، وهذا الشرح كما يقول مؤلفه، ألفه في ضوء ما أفاده أستاذه العلامة الجليل الشيخ محمد أنور شاه الكشميري، إلا أن هذا الكتاب لم يتم طبعه بعد (٢).
وهذا الكتاب القيم الذي بأيدينا مجموع إفادات وتحقيقات للإمام المحدث الفقيه، المربي الجليل، المصلح الكبير، الداعي إلى عقيدة التوحيد الخالص، والسنة السنية البيضاء، وإصلاح النفس، والإنابة إلى الله، الإمام رشيد أحمد الكنكوهي (٣) (م ١٣٢٣ هـ) وقد جاء في ترجمته في «نزهة الخواطر».
_________
(١) ذكره صاحب الثقافة، ولم نعثر على سنة وفاته؛ ولا اسم كتابه.
(٢) قد ظهرت منه ستة مجلدات إلى الآن؛ ووصل المؤلف في الجزء السادس منه إلى آخر أبواب الحج.
(٣) اقرأ ترجمته الحافلة في الصفحات الآتية بعد هذا التقديم نقلًا عن الجزء الثامن من «نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر» للعلامة عبد الحي الحسنى.
1 / 6
«وكان قبل سفر الحجاز في المرة الثالثة يقرئ في علوم عديدة من الفقه والأصول والكلام؟، والحديث والتفسير، وبعد العودة من الحجاز في المرة الآخرة، أفرغ أوقاته لدرس الصحاح الستة والتزم بدرسها في سنة واحدة، وكان يقرئ جامع الترمذي أولًا، ويبذل جهده فيه في تحقيق المتن والإسناد، ودفع التعارض، وترجيح أحد الجانبين، وتشييد المذهب الحنفي، ثم يقرئ الكتب الآخر «سنن أبي داؤد» فصحيحي البخاري ومسلم، فالنسائي، فابن ماجة سردًا مع بحث قليل فيما يتعلق بالكتاب» (١).
فكان الشيخ كما فهم مما نقلناه، وتواتر عن تلاميذه، يقدم تدريس «جامع الترمذي» على سائر كتب الحديث، ويفيض في الشرح والإيضاح، ويذكر ما فتح الله به عليه، وأدت إليه دراسته وممارسته للفن، وتعمقه فيه، ويتوسع ما لا يتوسع في غيره، وكان مما أكرمه الله به، القول المتين الفصل بعبارة وجيزة، قليلة المباني، كثيرة المعاني، مؤسسًا على دراسة عميقة للفقه وأصول الفقه، ومناسبة فطرية بصناعة الحديث، والتمسك بلباب المقصود، بعيدًا عن الافراط والتفريط، والتوسع في نقل أقوال السلف وحججهم، مستعينًا في ذلك بما امتاز به من بين أقرانه من سلامة ذوق، وصفاء حسن، واقتصاد في النقد والمحاكمة، وحسن ظن بالسلف، والتماس عذر لهم، وتواضع ظاهر.
وقد قيد هذه الإفادات والتحقيقات تلميذه النجيب النسابغ الوفي الشيخ محمد يحيى بن محمد إسماعيل الكاندهلوي (م ١٣٣٤ هـ) حين حضر هذا الدرس الحافل سنة ١٣١١ هـ، وكانت له (كما جاء في تقديم كاتب هذه السطور لمقدمة أوجز المسالك) ملكة علمية راسخة، يتوقد ذكاءًا وفطنة، وكان شيخه عظيم الحب كثير الإيثار له، قد اتخذه بطانة لنفسه، وراوية علمه، وكاتب رسائله، فقيد دروس الشيخ، ودون أماليه، ونقحها وحررها.
_________
(١) ج ٨ ص ١٤٩ - ١٥٠.
1 / 7
ومن ضمن هذه الإفادات والتحقيقات بل في مقدمتها هذه المجموعة التي (١) نتشرف بتقديمها، وتنشر للقراء العرب بالحروف الحديدية لأول مرة باسم «الكوكب الدري» وكان يقيد ما يسمعه من شيخه في درس جامع الترمذي نفس اليوم بالعربية، وكان ينتهز أول فرصة لتقييدها حتى لا تفوته فائدة، ولم يقدر له أن يستأنف النظر في هذه المذكرات، والفوائد المقيدة، وأن يحررها تحرير المؤلفات التي تؤلف على هدوء تام، وطمأنينة نفس، واجتماع فكر، وفراغ خاطر، واتساع وقت، إلا أنه- جزاه الله عن المشتغلين بتدريس الجامع، وعن جميع من يعرف قيمة هذه الإفادات التي هي عصارة دراسة طويلة، وتأمل كبير- قد صان هذه الدرر العلمية من الضياع والتلف، وترك أساسًا يبني عليه ويشيد البناء، فجاء نجله العلامة الشيخ محمد زكريا الذي قدر الله له حفظ هذا التراث العلمي ونشره، والتوسيع فيه، وإكمال ما بدأ به والده العظيم، وأفاد به شيخه الجليل، فتناول هذه المجموعة التي كادت تضيع وتطير به العنقاء، بالتحرير والتنقيح، والمقابلة والتصحيح.
وكتاب «الكواكب الدري» - وهو بالمذكرات أشبه منه بشرح ضاف واف، لجامع الترمذي- على وجازته وقلة حجمه، وعدم استيفائه للشرح للكتاب من أوله إلى آخره، يشتمل على فوائد كثيرة لا يعرف قيمتها إلا من اشتغل بتدريس الجامع طويلًا، وعرف مواضع الدقة والغموض التي لا يرتاح فيها المدرس الحاذق، أو الطالب الذكي إلى ما جاء في عامة الشروح والتعليقات، ويتوق فيها ويتطلع إلى ما يحل العقدة، ويروى الغلة بكلام فصل لا فضول فيه ولا تقصير، هذا إضافة إلى فوائد في اللغة وغريب الحديث وعلم الرجال والأصول، ومقاصد الشريعة، وفيه بعض النكت واللطائف التي يعين عليها صفاء النفس وإشراق القلب والحب، والقول السديد في ترجيح بعض الوجوه
_________
(١) ظهرت الطبعة الحجرية في جزئين من المكتبة اليحيوية بسهارنفور قبل مدة طويلة.
1 / 8
على بعض، وتعيين معنى من المعاني بالذوق والممارسة، وجواب للإيراد على المذهب الحنفي.
وقد تجلى الذوق الأدبي في بعض المواضع من الشرح، وظهرت طلاوة العبارة وحلاوة التعبير، لأن الشارح كانت له قدم في الأدب، وقد تأتي العبارات مقفاة مسجوعة على عادة الكتاب في ذلك العصر من غير تكلف وركاكة.
وأضاف العلامة المحدث الشيخ محمد زكريا جامع هذه المذكرات إلى صلب الكتاب ما جاء من فوائد في شروح للكتب الأخرى مستقاة من نبع على واحد، كـ «بذل المجهود» و«لامع الدراري» وغيره، وعلق على الكتاب تعليقًا مفيدًا منيرًا يكشف عن الغامض، ويفصل المجمل، ويوضح المبهم، وضمه تحقيقات استخرجها من كتب أخرى، وعنى بتنقيح الأقوال، وتحرير المذاهب، معتمدًا في ذلك على ما توصل إليه من كتب المذاهب الأربعة التي لم يتفق نشرها في حياة الشارح، ولم يتسن الاطلاع عليها فزاد في قيمة الكتاب العلمية، وساعد على الانتفاع به، وزاد فوائد استفادها في حياته التعليمية الطويلة، وطول ممارسته لصناعة الحديث، وكثرة مراجعته لما ألف في علوم الحديث ونشر أخيرًا، والعلم بحر لا ساحل له.
وأضاف إليه كذلك ما استفاده في درس والده العلامة، وقد تكون أمورًا ذوقية، أو علومًا وجدانية، هداه إليها ذوقه السليم، ونظره العميق، وطول اشتغاله بصناعة الحديث وإخلاصه وصفاء ذهنه، وقد تكون أقرب إلى الصواب، وأكثر كشفًا لمعاني الحديث من كثير ما تناقله الشراح.
وإني وإن لم استوعب قراءة الكتاب حرفيًا لضعف بصري، وكثرة اشتغالي سعدت بتصفحه وإجالة النظر فيه، وتمنيت لو وقع هذا الكتاب بيدي وحظيت به حين أكرمني الله بتدريس الجامع لفترة قصيرة في دار العلوم لندوة العلماء فوفر علي وقتًا، وعثرت على حصيلة دراسات وتأملات في لفظ قليل وعبارة
1 / 9
وجيزة، ولا أزكي على الله أحدًا، ولا أدعي أن كل ما جاء فيه من تحقيقات وآراء، وترجيحات واختيارات، لا يجوز العدول عنه، ولا يمكن الزيادة عليه، ولكني أشعر بغبطة وشرف إذ أقدم لهذا الكتاب الذي له اعتزاء إلى موضوع هو من أشرف المواضيع ومقصد هو من أسنى المقاصد، وينتهي نسبته ونسبه إلى حديث رسول الله ﷺ وصدر من فم عالم رباني، ودون بقلم تلميذ مخلص، وعالم جليل، وحلى بتعليق من عالم أجهد نفسه، وأضنى قواه، ووهب حياته لخدمة الحديث الشريف، وكفى بذلك فخرًا وشرفًا، وأولئك قوم لا يشقى بهم جليسهم والمنخرط في سلكهم، والحمد لله أولًا وآخرًا.
أبو الحسن علي الحسني الندوي
دار العلوم ندوة العلماء- لكهنؤ
١٣ ربيع الأولى ١٣٩٥ هـ
٢٧/ ٣/١٩٧٥ م
1 / 10
بسم الله الرحمن الرحيم
الكوكب الدري
مقدمة المحشى
الحمد لله الذي آتانا من لدنه رحمة فهيأ لنا من أمرنا رشدًا، وأنزل لنا من أمره روحًا يحيى به قلوب السعداء ويصير للأشقياء شهابًا رصدًا، أرسل سيد الرسل بالرشد والفلاح فالعاضون بالنواجذ على سننه هم الأحباء لله وأولياؤه ونشر به الحكم والمعارف فالمبلغون لمقالاته بعد سماعها هم الناضرون وجوهًا يوم القيامة وأصفياؤه، وعلى آله وصحبه وأتباعه الذين أراد الله بهم الخير ففقهم في الدين والشرائع، وجعلهم أئمة وهداة يخرجون الناس من غياهب الشكوك والأوهام إلى أنوار الحجج والسواطع، أفاض عليهم من العلوم الدنية ما خلت عنه الدواوين والأسفار، وكلت دون إدراكها إذهان ذوي الألباب الذكية والأبصار، غرسهم بأيدي الكرامة فالمقتطفون من ثمار جهدهم هم النجباء الفائزون، وجدد بهم الدين القويم فالمتبعون لآثارهم هم السعداء الناجحون.
أما بعد: فمن أعظم ما من الله به على هذه الملة البيضاء أن بعث لها مجددين مثل حضرة قطب الأقطاب، رئيس ذوي الفضل والألباب، إمام الأئمة، مقتدي الآجلة، مقدام الحكماء، مفتخر النجباء، من بأنفاسه الشذية تحي النفوس والأرواح وبهمته القدسية تتجلى القلوب وتتزكى الأشباح، ملأ أطباق الأرض شرقًا وغربًا بالمعارف والإيقان، ونشر في أرجاء الغبراء فوائح السنة والإحسان، أبي حنيفة
1 / 11
الزمان، وشبلى الدوران، أمير المؤمنين في الحديث حجة الله على العالمين، العارف بالله، شمس العلماء مولانا أبي مسعود رشيد أحمد الأنصاري الأيوبي الكنكوهي الحنفي الجشتي النقشبندي القادرون السهروردي -قدس الله سره العزيز- فإنه رحمه الله تعالى ترعرع مجدًا في العلوم الدينية وارتحل لها إلى البلدان القصية، وحضر حلق أفاضل مشايخ الزمان، فتفقه وسمع وخاض بحار العلوم وأسفار الفنون لدى الكمل من أساتذة الدوران.
ولم يزل هذا دأبه حتى مهر في سائر العلوم سيما علوم السنن والأحاديث النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة وأكمل التحية، فما أنفك مرتقيًا قللها الشامخة حتى أشير إليه بالبنان، بأنه هو السابق في الميدان، وضربت إليه إكباد الإبل من كل فج عميق من الهند والسند وآفاق الصين والخراسان، فهرعت إليه عطشى السنن يغترفون من بحار حديثه ويصدرون بالارتواء، فمن مستكثر ومقل ومنهوم لا يكاد ينقطع له العيش والظمأ هذا وإن من لم تساعده المقادير لم يزل أيضًا مذعنًا بجناته، ومقرًا بلسانه، إنه هو المتوحد في زمانه، والمتفرد في أوانه، وكيف لا؟ فإن القوة الاجتهادية وحافظة الحديث وملكة الاستنباط وإجادة وجوه التطبيق بين الأحاديث المختلفة، وإظهار محاسن الارتباط بين المضامين المتنافرة، وكمال العدالة والتقدس والتبحر في العلوم العقلية والنقلية والبراعة في الفقه والأصول والحيازة في الآلات والمقاصد والارتقاء على قلل المعارف الإلهية، والاكتساب بوجوه الحضور الدائم مع الاستقامة الشرعية لم توجد بمثابة لدى أحد في زمانه، لا منفردة ولا مجتمعة.
وليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم واحد
وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
والحقيقة التي لا تنكر أن الله ﷾ قد تفضل عليه برابطة روحانية قوية بسيد الرسل عليه أكمل الصلوات وأفضل التحيات، والفنائية فيه حتى صارت
1 / 12
العلوم والمعارف تنعكس على قلبه الأطهر من مشكاته ﵇ فإذا خاض في بحار معاني الحديث والآيات تشاهد كأن الكلمات والجمل تصدر من حضرة الرسالة ﵊ وذلك فضل الله ليس يجحد، ومن ههنا كان الحضار لمجلس التحديث يزدادون شغفًا ومحوًا لدى تكلمه وإفادته فلم يكادوا أن يقنعوا بسكوته في تلك المجالس الذكية وكانوا يشتاقون إلى جريانه في أساليب الكلام وتقدير السنن وتحقيق المسائل، ولعل هذا السر هو الذي أحدث وجود جذبات العمل بالسنة في تلاميذه فوق ما يوجد في عامة طلبة العلم وكان رحمه الله تعالى يهتم جدًا لتطبيق الأحاديث المختلفة بادي الرأي، وجل توجهه إنما كان إلى الدراية وفقه الروايات لأسرد متون الروايات فقط، كما هو دأب عامة المحدثين في الأزمنة المتأخرة وكانت الأنوار والبركات المعنوية والسكينة القلبية تسكب هطالة على قلوب المسترشدين والتلامذة يشاهدها أرباب البصائر والقلوب، وكان رحمه الله تعالى في ابتداء الأمر يشتغل بتدريس الفقه والأصول والتفسير أيضًا علاوة على الحديث، ولكنه اقتصر في أواخر عمره، على تدريس الحديث فقط، وكانت الأمهات الست تبتدئ عليه في أوائل شوال، وتختم إلى أواخر شعبان، فجرت هذه الوتيرة نحوًا من عشرين سنة وتخرج عليه في هذه المدة ما ينوف من ثمان مائة رجل من الفضلاء والأذكياء.
ثم عاقه رحمه الله تعالى عن هذا الاشتغال تواتر الآلام والبلايا، كما هو سنة الله في المقربين، فإن أشد الناس بلاءًا الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، وكذلك تكاثرت عليه الفتاوى من سائر الأقطار والبلاد وهجمت على أعتابه العلية ظمأي المعارف الروحانية وعطشى شراب القرب والمرضاة الربانية وقصاد النسبة الإلهية فأشغلته عما كان بصدده من عنفوان شبابه فقصد أن يترك الاشتغال بالتدريس والأسماع ورأى أن الأهم حينئذ غيره مما ذكر آنفًا، وكان سيدي الوالد حضرة مولاي وسندي وملجائي وملاذي ووسيلتي في الدارين مولانا محمد يحيى الكاندهلوي -قدس الله سره العزيز- بعد فراغه عن سائر الكتب الدراسية النظامية مجتنبًا عن
1 / 13
قراءة الحديث ظنًا منه أن الاشتغال به عند غير الماهر المتقن المتضلع بالعلوم العقلية والنقلية المتكمل للآلات والمقاصد مقدمة لسوء الظن بالأئمة المجتهدين بل مرادف لترك تقليد هؤلاء الكرام، شموس الهدى ومصابيح الظلام.
فقد جرب غير مرة أن أهل الزمان لم يستفيدوا بمثل هذا إلا اللعن على أوائل الأمة، والطعن عن منار الهدى والأئمة، والسب والشتم للأخلاف، والعناد والبغض بالأسلاف، فالأحرى أن لا يشتغل والحالة هذه بعلم الحديث وحديث إنه رحمه الله تعالى كان قرأ سائر الفنون والكتب في مدرسة حسين بخش المرحوم الواقعة بدهلي، المشهورة إذ ذاك بحسن التعليم والتدريس وكمال النظام، فلما حان اختتام بعض السنين أعلن أراكين المدرسة بأسامي من يعطي له حسب العادة سند الفراغ والعمامة في تلك السنة بعد الامتحان في الكتب الانتهائية، فأعلنوا اسم سيدي الوالد المرحوم في جملة من يمتحن في صحيح البخاري، وحيث إن سيدي الوالد المرحوم كان مصرًا على عزمه المذكور آنفًا، فلم يحضر في شيء من كتب الحديث بالمدرسة ولا غيرها، ولم يقرأ منها إلى تلك الساعة ولا سطرًا فشدد النكير على أراكين المدرسة على إعلان اسمه وأبي كل الآباء عن قراءة الحديث والامتحان في كتبها وأولئك كانوا يصرون على امتحانه والقراءة لما يعرفون من ذكاوته فقالوا إن المدة الواقعة بين الإعلان والامتحان طويلة تنوف عن خمسة أشهر فيسهل لك فيها أن تفرغ عن قراءة الجامع الصحيح البخاري، بل وعن سائر الصحاح الستة فلم يلق بالًا لمقترحهم.
ولما رأوا أنه لا يواتيهم على مقصودهم رفعوا الأمر إلى سيدي الجد المرحوم أعنى مولائي الحافظ محمد إسماعيل -قدس الله سره العزيز- وألحوا عليه إلحاحًا غير معتاد وطلبوا منه أن يأمر ولده سيدي الوالد المؤمى إليه آنفًا أمر إيجاب بإسعاف ما يراد فقبل حضرة الجد المرحوم بغيتهم وحكم على سيد الوالدي المرحوم
1 / 14
حكمًا باتًا بإتيان ما يطلبون فلم يجد بدًا عن الإسعاف فأراد أن يشترك الامتحان بالمطالعة فقط، بدون أن يقرأ الكتاب لدى أحد من مدرسي المدرسة ففرغ نفسه لمطالعة صحيح البخاري وحواشيه والشروح، واختلى عن الناس في حجرة ذات بابين بمسجد سلطان نظام الدين المرحوم، وكان أحد البابين ينفتح إلى مسجد، والآخر إلى الصحراء، فأما الأول فكان يغلقه على نفسه دائمًا، ويفتحه للصلوات لدى تكبيرة الافتتاح، ويحضر الجماعة ثم يغلق ولا يأتي بالرواتب وغيرها إلا بالحجرة، وأما الثاني: فكان مفتوحًا دائمًا لتلاميذ الجد المرحوم، الذين كانوا موظفين بإحضار الطعام والحوائج الآخر، فكانوا يضعونها في أمكنتها المعينة فمضى على هذه الحالة زمان طويل لا يدري أهل المحلة بوجوده هناك.
ومن غرائب ما وقع في تلك الأيام، أنه جاء التلغراف من كاندهلة، طلبًا لقدومه إليها للنكاح، فردوه قائلين: إنه ليس بموجود ههنا منذ مدة مديدة، وكان -رحمه الله تعالى- لدى مطالعة صحيح البخاري وحواشيه وشروحه، يطالع «سيرة ابن هشام، و«معاني الآثار» للطحاوي، و«الهداية» و«فتح القدير» فاستوعبها، بغاية الدقة والإمعان، فلم يأت أيام الامتحان، إلا وقد فرغ من هذه الكتب جملتها، وعلق في صدره سائر المضامين المندرجة فيها بغاية الإتقان، فكان من ثمرات ذلك أن حضرة الممتحن أعنى صدر الأفاضل، فخر الأكابر والأماثل، مولانا خليل أحمد الأنصاري صدر المدرسين بمظاهر العلوم، وشارح أبي داؤد، لما امتحنه واطلع على أجوبته فرح جدًا، وقال: إن كثيرًا من علماء الزمان والمدرسين لا يقدرون أن يكتبوا مثل هذه الأجوبة، وأطرى في مدحه بين الناس جدًا.
ثم ذهب إلى أمير المؤمنين في الحديث حضرة القطب الكنكوهي قدس سره المؤمى إليه سابقًا، فمدح الوالد لدى حضرته وأبدى أن حسن قابليته للعلوم الدينية حفظًا وفهمًا من عجائب الزمن، فمثله لا ينهر عن الأنهار، ولا يزجر عن
1 / 15
اغتراف البحار، فلا بد من فتح دورة الحديث وتدريسه له خاصة، فإنه لم يأت على أعتابك تلميذ يتوسم فيه ما يتوسم في المولوي محمد يحيى ولم يزل يمدحه ويشفعه ويظهر كمال قابليته إلى أن رضى حضرة القطب الكنكوهي -قدس الله سره العزيز- بتدريس دورة الحديث فشرع فيها بغاية الطمأنينة والتحقيق فلولا تزول الماء في عيني حضرته -قدس الله سره العزيز- الذي اضطره إلى ختم الدورة تيك في مقدار سنتين لأدى الأمر إلى مدة طويلة تنوف عن أربع أو خمس سنوات، ولما فاز حضرة الوالد المرحوم بمرامه الذس كان مضطربًا له منذ مدة مديدة سر جدًا وبذل غاية جده في سائر ما يلزم لطالب العلم عمومًا، ولطالب الحديث خصوصًا، فكان يقول إنه لم يفتني شيء من روايات الصحاح الستة، وكتب الدورة عن السماع أو القراءة لدى حضرة الأستاذ -قدس الله سره العزيز-.
وكان رحمه الله تعالى بعد الفراغ عن الدرس يكتب سائر ما يسمع من حضرة الأستاذ باللغة العربية، فهذه المجموعة المهداة إلى أرباب البصائر هي تلك المضامين التي جمعها حضرة سيدي الوالد -قدس الله سره العزيز- حتى ينتفع بها العامة من أرباب العلم والكمال، وكان يقول إني كنت في أيام كتابة التقريرات لا اشتغل بعمل ما ما لم أفرغ من الكتابة المذكورة، ثم كنت أعطي من طلبها من الشركاء فيكتبون تقاريرهم بالهندية بالاستعانة منها وهي وإن كانت قليلة الحجم والمبنى، ولكن الفطن الممعن لن يتوقف في أنها بحر زاخر أحرز في كوز، فاحتوت على كثير من المباحث العلية والنكات العلمية والفوائد العظيمة التي خلت عنها الشروح والحواشي، ولأجل ذلك صرف عدة من فضلاء العصر مبلغًا جسيمًا لاستنساخ هذه المجموعة فاستفاد بها لدى تدريس الحديث، وكثيرًا ما كنت اشتهي أن تطبع هذه التقارير فتحفظ عن الضياع ويعم نفعها لأرباب العلم.
ثم قوى هذا العزم إصرار بعض الأكابر على ذلك فوق العادة لكنه كان يعوقني عن الإقدام إلى ذلك أن جامعها وإن كان صاحب صفات كاملة من التبحر
1 / 16
العلمي والذكاوة وقدرة التحرير ومهارة الأدب، وقد اهتم بكتابته جدًا لكنها لا تفوق عن درجة المسودات اللاتي لم تفز بالنظر الثاني من المؤلف ولا تبييضها فكنت اشتهي أن يتوجه إليه أحد من المهرة أصحاب الفن فينظر إليه ثانيًا فإن وجد فيه زيادة أو نقصًا أزال منه ما لا بد من إزالته وأصلح فيه ما يحتاج إلى ذلك، ولكني رأيت أن الكمل الذين هم أهل الفن حقيقة لا يتفرغون لذلك، فإن المشاغل قد أحاطت بهم إحاطة الهالة بالقمر ومن ليس في درجتهم لا اعتداد بهم وهذا الذي حيرني وأخرني إلى هذه المدة.
فلما رأيت أن أناسًا يريدون أن يستنسخوها مني، ثم يطبعوها خفية ووجدت أناسًا طبعوا بعض الأجزاء مما استنسخوها عن نسخة نقلت عن الأصل فمسخوها وحرفوها وصحفوها، فرأيت أن طبعها بالحالة الراهنة أولى وأفيد من هذه الطباعات الممسوخة فتوكلت على الله وشمرت عن ساق الجد، ثم وجدت تأييدات غيبية حركتني إلى ذلك وأزعجتني، فإن تقارير بعض المجلد الثاني من الترمذي ضاعت في حياة سيدي الوالد المرحوم لغفلة بعض الناسخين فسعى حضرته لتحصيلها، فلم يفز ثم سعيت جدًا فلم أصل لا إلى الأصل ولا إلى نقله، وكنا في غاية القنوط واليأس من جهتها إذ فزت بنقل ذلك من مكتبة مولانا فتح محمد المرحوم التهانوي نسخ من الأصل في سنة ١٣١٣ هـ، فوصل إلى بتأييد بعض طلاب الحديث فوجدته تأييدًا غيبيًا وأمرًا إلهيًا حضني على الإسراع والتعجيل وزجرني عن التوقف والتأخير، وكذلك ظهرت محركات عديدة وتأييدات متواترة من غير ما ذكر أفهمتني أنه قد جاء أوان طبعها فاعتصمت بالله سبحانه فنظرت إلى الأصل، ثم طبعتها وقدمتها للناظرين.
وحيث إني لست من فرسان هذا الميدان ولا لي فراغ من أجل تسويد أوجز المسالك في شرح الموطأ للإمام مالك والمشاغل التدريسية وغيرها مما يتعلق بالمدرسة، لم يتيسر لي النظر إلى الأصل بالإتقان والتدبر التام، فإنه يحتاج إلى ملكة قوية وفراغ تام فحيثما ظهر لي في بادئ الرأي شيء من سبق قلم أو إجمال مخل
1 / 17
أو غير ذلك أشرت له في الحاشية إحالة إلى أنظار أرباب الفضل والنهي فيحققوا هنالك وليصلوا إلى ما هو الصحيح المحكم بآرائهم الثاقبة وأفكارهم الثابتة بيد أني أصلحت بنفسي سبق قلم كان في غاية الوضوح وزدت في بعض الأمكنة ترجمة الباب قبل القول، وقد كان بعض الأحباب يرغبني منذ مدة أن ألخص هذه التقارير وأخذف منها المباحث المشكلة والمجملة، وأسميها بخلاصة التقارير، فعاقني عن ذلك أمران، الأول: عدم الاعتماد على بصيرة نفسي. والثاني: لما تأملت فيما استشكله بعض الأعلام وكتب ذلك على الهوامش مع الإصلاح منه وجدت بعض الإمعان والإتقان الأصل صحيحًا معتمدًا عليه وما أورد عليه ناشئًا من ضعف الرأي، ولنعم ما قيل:
وكم من عائب قولًا صحيحًا ... وآفته من الفهم السقيم
فلا اعتمد على نفسي أن المحلات التي استشكلها هل هي في الواقع كذلك أم لا وهل يستشكلها ذوو الآراء والأنظار أيضًا أم لا فأني على يقين بأني ذو بضاعة مزجاة من العلم والفهم وغيرهما فاستحسنت أن أشيع هذه التقارير، كما هي عليها بلا مخافة لومة اللائمين ولا أغير الأصل بشيء فإنه لاحق لأمثالي في ذلك، نعم أكتب على الهوامش ما أراه من الإضافة أو التوضيح.
وحيث إن حضرة أمير المؤمنين في الحديث قطب الأقطاب -قدس الله سره العزيز- كان يقدم تعليم جامع الترمذي على سائر كتب الحديث ويزيد البحث فيه ما لا يزيده في غيره قدمت إشاعة تقارير الترمذي قبل غيره وسميته «بالكوكب الدري على جامع الترمذي، فإن وفقني الله تعالى بعد ذلك للتقارير الآخر فإنشاء الله تعالى أهديها أيضًا للناظرين، وعلى الله التكلان وهو الجواد المستعان، وما توفيقي (١) إلا بالله.
_________
(١) كتبه شيخ الإسلام العلامة السيد حسين أحمد المدني، المتوفى لإحدى عشرة خلون من جمادى الأولى سنة سبع وسبعين وثلاث مائة وألف، ولم يصرح الكاتب العلام باسمه تواضعًا منه (نور الله مرقده).
1 / 18
وكانت الإجازات مطبوعة عند الشيخ -قدس سره- على ورقة صغيرة لوزية غير ثمينة عند أهل الدنيا غالية الأثمان ذات اللآلي عند أهل الدين ترك فيها من الطباعة موضع الاسم والتاريخ فإذا أعطاها الشيخ -قدس سره- أحدًا يكتب فيها بيده الشريفة اسم الطالب والتاريخ وهذه صورته.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد سيد الأنبياء والمرسلين، وآله وأصحابه وأتباعه أجمعين إلى يوم الدين.
أما بعد فيقول المفتقر إلى رحمة ربه الصمد الفقير الأحقر المدعو برشيد أحمد الأنصاري نسبًا، والكنكوهي موطنًا، تجاوز الله عن زلله ومعائبه ورضي عنه وعن مشايخه، أن المولوي قد قرأ علي واستمع عندي الأمهات الست المشهورة عند المحدثين المحتوية للصحاح والحسان من أحاديث الرسول السيد الأمين الصحيحين للشيخين، والجامع المسند للترمذي، والسنن لأبي داؤد السجستاني، والسنن للنسائي، والسنن لابن ماجة القزويني، ﵃ وأفاض علينا من بركاتهم، وجمعنا معهم يوم الدين، وأنا أجيزه أن يرويها عني بشرط الضبط والإتقان، في الألفاظ والمعاني والتيقظ والتثبت في المقاصد والمباني بشرط استقامة العقائد والأعمال على طريقة الصحابة والتابعين، وحسن التأدب بحضرة العلماء المحدثين والمجتهدين، وأوصيه بتقوى الله تعالى، والاعتصام بسنة سيد المرسلين، وبالاجتناب عن البدع المخترعة في الدين، والتبعد عن صحبة المبتدعين، وبالاشتغال بإشاعة العلوم السنية الدينية، والاحتراز عن التدنس برذائل الفلسفة وحطام الدنيا الدنية، وأسأل الله لي وله أن يوفقنا لما يحب ويرضى، وأن يجعل آخرتنا خيرًا من الأولى، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد نبيه الكريم، وآله وأصحابه وأتباعه وناصري طريقة القويم فقط.
1 / 19
حررته ..... من الشهر .... المنتظم في سنة ألف وثلاث مائة و..... من الهجرة، على صاحبها ألوف الصلوات والتسليمات والتحية، انتهى.
وكان قدس سره يختم عليه بخاتمه وهذه صورته.
رشيد أحمد ١٣٠١
1 / 20