[مقدمة المؤلف]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي طهر ألسنة أولياءه عن اللغو والغيبة والنميمة وزكى نفوسهم عن الأخلاق الدنية والشيم الذميمة والصلاة على نبيه المصطفى المبعوث بالشريعة الحنيفة والملة القويمة وعلى عترته الطاهرة التي هي على منهاجه مقيمة وبسنته عليمة وعن رذائل الأخلاق معصومة وبمكارمها موسومة وبعد فلما رأيت أكثر أهل هذا العصر ممن يتسم بالعلم ويتصف بالفضل وينسب إلى العدالة ويترشح للرئاسة يحافظون على أداء الصلوات والدءوب في الصيام وكثير من العبادات والقربات ويجتنبون جملة من المحرمات كالزناء و
صفحة ٢
شرب الخمر ونحوهما من القبائح الظاهرات ثم هم مع ذلك يصرفون كثيرا من أوقاتهم ويتفكهون في مجالسهم ومحاوراتهم ويغذون نفوسهم بتناول أعراض إخوانهم من المؤمنين ونظرائهم من المسلمين ولا يعدونه من السيئات ولا يحذرون معه من مؤاخذة جبار السماوات في سبب إقدام الناس على الغيبة والسبب المقدم لهم على ذلك دون غيره من المعاصي الواضحة إما الغفلة عن تحريمه وما ورد فيه من الوعيد والمناقشة في الآيات والروايات وهذا هو السبب الأقل لأهل الغفلات وإما لأن مثل ذلك في المعاصي لا يخل عرفا بمراتبهم ومنازلهم من الرئاسات لخفاء هذا النوع من المنكر على من يرومون المنزلة عنده من أهل الجهالات ولو وسوس إليهم الشيطان أن اشربوا الخمر أو ازنوا بالمحصنات ما أطاعوه لظهور فحشه عند العامة وسقوط محلهم به لديهم بل عند متعاطي الرذائل الواضحات ولو راجعوا عقولهم واستضاءوا بأنوار بصائرهم لوجدوا بين المعصيتين
صفحة ٣
فرقا بعيدا وتفاوتا شديدا بل لا نسبة بين المعاصي المستلزمة للإخلال بحق الله سبحانه على الخصوص وبين ما يتعلق مع ذلك بحق العبيد خصوصا أعراضهم فإنها أجل من أموالهم وأشرف ومتى شرف الشيء عظم الذنب في انتهاكه مع ما يستلزمه من الفساد الكلي كما ستقف عليه إنشاء الله أحببت أن أصنع في هذه الرسالة جملة من الكلام على الغيبة وبما ورد فيها من النهي في الكتاب والسنة والأثر ودلالة العقل عليه وسميتها كشف الريبة عن أحكام الغيبة وأتبعتها بما يليق بها من النميمة وبعض أحكام الحسد وختمتها بالحث على التواصل والتحابب والمراحمة ورتبتها على مقدمة وفصول وخاتمة أما
[تعريف الغيبة لغة واصطلاحا]
المقدمة ففي تعريفها وجملة من الترهيب منها فنقول الغيبة بكسر الغين المعجمة وسكون الياء المثناة التحتانية وفتح الباء الموحدة اسم لقولك اغتاب فلان فلانا إذا وقع في غيبته والمصدر الاغتياب يقال اغتابه اغتيابا والاسم الغيبة هذا بحسب المعنى اللغوي وأما بحسب الاصطلاح فلها تعريفان أحدها المشهور وهو ذكر
صفحة ٤
الإنسان حال غيبته بما يكره نسبته إليه مما يعد نقصانا في العرف بقصد الانتقاص والذم [و] فاحترز بالقيد الأخير وهو قصد الانتقاص عن ذكر العيب للطبيب مثلا أو لاستدعاء الرحمة من السلطان في حق الزمن والأعمى بذكر نقصانهما ويمكن الغناء عنه بقيد كراهته نسبته إليه والثاني التنبيه على ما يكره نسبته إلى آخره وهو أعم من الأول لشمول مورده اللسان والإشارة والحكاية وغيرها وهو أولى لما سيأتي من عدم قصر الغيبة على اللسان وقد جاء على المشهور
قول النبي(ع)هل تدرون ما الغيبة [فقالوا] قالوا الله ورسوله أعلم قال ذكرك أخاك بما يكره قيل أرأيت إن كان في أخي ما أقول قال إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته
وذكر عنده(ع)رجل فقالوا ما أعجزه فقال(ع)اغتبتم صاحبكم فقالوا يا رسول الله قلنا ما فيه قال(ع)إن قلتم ما ليس فيه فقد بهتموه
و### ||| [حرمة الغيبة في القرآن]
تحريم الغيبة في الجملة إجماعي بل هو كبيرة موبقة للتصريح بالتوعيد [لتوعد] عليها بالخصوص في الكتاب والسنة وقد نص الله تعالى على ذمها في كتابه
صفحة ٥
وشبه صاحبها بأكل لحم أخيه الميتة فقال ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه
[بعض الأخبار الواردة في حرمة الغيبة]
وقال النبي(ع)كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه
والغيبة تناول العرض وقد جمع بينه وبين الدم والمال
وقال(ع)لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا يغتب بعضكم بعضا وكونوا عباد الله إخوانا
وعن جابر وأبي سعيد الخدري قالا قال(ع)إياكم والغيبة فإن الغيبة أشد من الزناء إن الرجل قد يزني [و] فيتوب فيتوب الله عليه وإن صاحب الغيبة لا يغفر له حتى يغفر له صاحبه
وفي خبر معاذ الطويل المشهور عن النبي(ع)أن الحفظة تصعد بعمل العبد وله نور كشعاع الشمس حتى إذا بلغ السماء الدنيا والحفظة تستكثر عمله وتزكيه فإذا انتهى إلى الباب قال الملك الموكل بالباب اضربوا بهذا العمل وجه صاحبه أنا صاحب الغيبة أمرني ربي أن لا أدع عمل من يغتاب الناس يتجاوزني إلى ربي
وعن أنس قال(ع)مررت ليلة أسري بي على قوم يخمشون وجوههم بأظافيرهم فقلت يا جبرئيل من
صفحة ٦
هؤلاء قال هؤلاء الذين يغتابون الناس ويقعون في أعراضهم
وقال البراء خطبنا رسول الله حتى أسمع العواتق في بيوتها فقال يا معشر من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإنه من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته
وقال سليمان بن جابر أتيت رسول الله(ع)فقلت علمني خيرا ينفعني الله به قال لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تصب من دلوك في إناء المستقي وأن تلقى أخاك ببشر حسن وإذا أدبر فلا تغتابه
وعن أنس قال خطبنا رسول الله(ع)فذكر الربا وعظم شأنه فقال إن الدرهم يصيبه الرجل من الربا أعظم عند الله في الخطيئة من ست وثلاثين زنية يزنيها الرجل وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم
وقال جابر كنا مع رسول الله(ع)فأتى على قبرين يعذب صاحبهما فقال إنهما لا يعذبان في كبيرة أما أحدهما فكان يغتاب الناس وأما الآخر فكان لا يتنزه من بوله ودعا(ع)بجريدة رطبة أو جريدتين
صفحة ٧
فكسرهما ثم أمر بكل كسرة فغرست على قبر فقال(ع)أما إنه سيهون من عذابهما ما كانتا رطبين أو ما لم تيبسا
وقال أنس أمر رسول الله(ع)الناس بصوم يوم وقال لا يفطرن أحد حتى آذن له فصام الناس حتى إذا أمسوا جعل الرجل يجيء ويقول يا رسول الله ظلت صائما فأذن لي لأفطر فأذن له [لا لرجل والرجل] حتى جاء رجل فقال يا رسول الله فتاتان من أهلك ظلتا صائمتين وإنهما تستحيان أن تأتيانك فأذن لهما أن تفطرا فأعرض عنه ثم عاوده فأعرض عنه ثم عاوده فقال(ع)إنهما لم تصوما وكيف صام من ظل هذا اليوم يأكل لحوم الناس اذهب مرهما إن كانتا صائمتين أن تستقيئا فرجع إليهما فأخبرهما فاستقاءتا فقاءت كل واحدة منهما علقة من دم فرجع إلى النبي(ع)فأخبره فقال(ع)والذي نفس محمد(ع)بيده لو بقيتا في بطونهما لأكلتهما النار وفي رواية أنه لما أعرض عنه جاءه بعد ذلك وقال يا رسول الله إنهما والله لقد ماتتا أو كادتا أن تموتا فقال(ع)ايتوني بهما فجاءتا ودعا بعس أو قدح فقال لإحداهما قئي فقاءت من
صفحة ٨
قيح ودم صديد حتى ملأت القدح وقال(ع)للأخرى قئي فقاءت كذلك فقال(ع)إن هاتين صامتا عما أحل الله لهما وأفطرتا عما حرم الله عليهما جلست إحداهما إلى الأخرى فجعلتا تأكلان لحوم الناس
وروي مرفوعا: من أكل لحم أخيه في الدنيا قرب إليه لحمه في الآخرة فقيل له كله ميتا كما أكلته حيا فيأكله فيصيح ويكلح
: ولما رجم رسول الله الرجل في الزناء قال رجل لصاحبه هذا أقعص كما يقعص الكلب فمر النبي(ع)معهما بجيفة فقال انهشا منها فقالا يا رسول الله ننهش من جيفة فقال(ع)ما أصبتما من أخيكما أنتن من هذه
وقال الصادق(ع)الغيبة حرام على كل مسلم وإنها لتأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب
وروى الصدوق بإسناده إلى الصادق عن آبائه عن علي(ع)قال قال رسول الله: أربعة يؤذون أهل النار على ما بهم من الأذى يسقون من الحميم في الجحيم ينادون بالويل والثبور يقول أهل النار بعضهم لبعض ما بال هؤلاء الأربعة قد آذونا على ما بنا من الأذى فرجل معلق على تابوت من جمر ورجل يجري
صفحة ٩
معاه ورجل يسيل فوه دما وقيحا ورجل يأكل لحمه فيقال لصاحب التابوت ما بال الأبعد فقد آذانا على ما بنا من الأذى فيقول إن الأبعد مات وفي عنقه أموال الناس لم يجد لها في نفسه أداء ولا وفاء ثم يقال للذي يجري معاه ما بال الأبعد قد آذانا على ما بنا من الأذى فيقول إن الأبعد كان لا يبالي أين أصاب البول من جسده ثم يقال للذي يسيل فوه قيحا ودما ما بال الأبعد قد آذانا على ما بنا من الأذى فقال إن الأبعد كان يحاكي ينظر إلى كل كلمة خبيثة فيشيدها ويحاكي بها ثم يقال للذي يأكل لحمه ما بال الأبعد قد آذانا على ما بنا من الأذى فقال إن الأبعد كان يأكل لحوم الناس بالغيبة ويمشي بالنميمة
وبإسناده عن النبي(ع)من مشى في غيبة أخيه وكشف عورته كانت أول خطوة خطاها وضعها في جهنم وكشف الله عورته على رءوس الخلائق ومن اغتاب مسلما بطل صومه ونقض وضوؤه فإن مات وهو كذلك مات وهو مستحل لما حرم الله
وعن أبي عبد الله(ع)قال قال رسول الله(ع)الغيبة أسرع في دين الرجل
صفحة ١٠
المسلم من الأكلة في جوفه
قال قال رسول الله(ع)الجلوس في المسجد انتظارا للصلاة عبادة ما لم يحدث فقيل يا رسول الله وما الحدث قال الاغتياب
وروى ابن أبي عمير عن أبي عبد الله(ع)قال(ع)من قال في مؤمن ما رأته عيناه وسمعته أذناه فهو من الذين قال الله عز وجل إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم
وعن المفضل بن عمر قال قال أبو عبد الله(ع)من روى على مؤمن رواية يريد بها شينه وهدم مروته ليسقطه من أعين الناس أخرجه الله من ولايته إلى ولاية الشيطان فلا يقبله الشيطان
: وأوحى الله عز وجل إلى موسى بن عمران أن المغتاب إذا تاب فهو آخر من يدخل الجنة وإن لم يتب فهو أول من يدخل النار
وروي أن عيسى(ع)مر والحواريون على جيفة كلب فقال الحواريون ما أنتن ريح هذا فقال عيسى(ع)ما أشد بياض أسنانه
كأنه ينهاهم عن غيبة الكلب وينبههم على أنه لا يذكر من خلق الله إلا أحسنه وقيل في تفسير قوله تعالى ويل لكل همزة لمزة الهمزة الطعان في الناس واللمزة
صفحة ١١
الذي يأكل لحوم الناس
وقال الحسن والله الغيبة أسرع في دين المؤمن من الأكلة في جسده
وقال بعضهم أدركنا السلف لا يرون العبادة في الصوم ولا في الصلاة ولكن في الكف عن أعراض الناس
واعلم أن السبب الموجب للتشديد في أمر الغيبة وجعلها أعظم من كثير من المعاصي الكبيرة هو اشتمالها على المفاسد الكلية المنافية لغرض الحكيم سبحانه بخلاف باقي المعاصي فإنها مستلزمة لمفاسد جزئية بيان ذلك أن المقاصد المهمة للشارع اجتماع النفوس على هم واحد وطريقة واحدة وهي سلوك سبيل الله بسائر وجوه الأوامر والنواهي ولا يتم ذلك إلا بالتعاون والتعاضد بين أبناء النوع الإنساني وذلك يتوقف على اجتماع همهم وتصافي بواطنهم واجتماعهم على الألفة والمحبة حتى يكونوا بمنزلة عبد واحد في طاعة مولاه ولن يتم ذلك إلا بنفي الضغائن والأحقاد والحسد ونحوه وكانت الغيبة من كل منهم لأخيه مثيرة لضغنه ومستدعية منه لمثلها في حقه لا جرم
صفحة ١٢
كانت ضد المقصود الكلي للشارع وكانت مفسدة كلية فلذلك أكثر الله ورسوله من النهي عنها والوعيد عليها وبالله التوفيق وحيث أتينا على ما يحتاج إليه في المقدمة فلنشرع في الفصول
الفصل الأول في أقسامها
لما عرفت أن المراد منها ذكر أخيك بما يكرهه منه لو بلغه أو الإعلام به أو التنبيه عليه كان ذلك شاملا لما يتعلق بنقصان في بدنه أو نسبه أو خلقه أو فعله أو قوله أو دينه أو دنياه حتى في ثوبه وداره ودابته و# قد أشار الصادق(ع)إلى ذلك بقوله: وجوه الغيبة تقع بذكر عيب في الخلق والفعل والمعاملة والمذهب والجهل وأشباهه
فالبدن كذكرك فيه العمش والحول والعور والقرع والقصر والطول والسواد والصفرة وجميع ما يتصور أن يوصف به مما يكرهه وأما النسب بأن يقول أبوه فاسق أو خبيث أو خسيس أو إسكاف أو تاجر أو حائك أو جاهل أو نحو ذلك مما يكرهه كيف كان وأما الخلق بأن يقول إنه سيئ الخلق محيل متكبر مرائي شديد الغضب جبان ضعيف القلب ونحو ذلك وأما في أفعاله
صفحة ١٣
المتعلقة بالدين كقولك سارق كذاب شارب الخمر خائن ظالم متهاون للصلاة لا يحسن الركوع والسجود ولا يحترز من النجاسات ليس بارا بوالديه لا يحرس نفسه من الغيبة والتعرض لأعراض الناس وأما فعله المتعلق بالدنيا كقولك قليل الأدب متهاون بالناس لا يرى لأحد عليه حقا كثير الكلام كثير الأكل نئوم يجلس في غير موضعه ونحو ذلك وأما في ثوبه كقولك إنه واسع الكم طويل الذيل وسخ الثياب ونحو ذلك واعلم أن ذلك لا يقصر على اللسان بل التلفظ به إنما حرم لأن فيه تفهيم الغير نقصان أخيك وتعريفه بما يكرهه فالتعريض به كالتصريح والفعل فيه كالقول والإشارة والرمز والإيماء والغمز واللمز والكتابة والحركة وكل ما يفهم المقصود داخل في الغيبة مساوي للسان في المعنى الذي حرم التلفظ به لأجله ومن ذلك
ما روي عن عائشة أنها قالت دخلت علينا امرأة فلما ولت أومأت بيدي أي قصيرة قال(ع)اغتبتيها
ومن ذلك المحاكاة بأن يمشي متعارجا أو كما يمشي فهو غيبة بل أشد
صفحة ١٤
من الغيبة لأنه أعظم في التصوير والتفهيم وكذلك الغيبة بالكتاب فإن الكتاب كما قيل أحد اللسانين ومن ذلك ذكر المصنف شخصا معينا وتهجين كلامه في الكتاب إلا أن يقترن به شيء من الأعذار المحوجة إلى ذكره كمسائل الاجتهاد التي لا يتم الغرض من الفتوى وإقامة الدليل على المطلوب إلا بتزييف كلام الغير ونحو ذلك ويجب الاقتصار على ما يندفع به الحاجة في ذلك وليس منه قوله قال قوم كذا ما لم يصرح بشخص معين ومنها أن يقول الإنسان بعض من مر بنا اليوم أو بعض من رأيناه حاله كذا إذا كان المخاطب معهم ليفهم منه شخصا معينا لأن المحذور تفهيمه دون ما به التفهم فأما إذا لم يفهم عنه جاز
كان رسول الله(ع)إذا كره من إنسان شيئا قال: ما: بال أقوام يفعلون كذا وكذا ولا يعين
ومن أضر أنواع الغيبة غيبة المتسمين بالفهم والعلم المراءين فإنهم يفهمون المقصود على صفة أهل الصلاح والتقوى ليظهروا من أنفسهم التعفف عن الغيبة ويفهمون المقصود ولا يدرون بجهلهم أنهم جمعوا بين فاحشتين الرياء والغيبة و
صفحة ١٥
ذلك مثل أن يذكر عنده إنسان فيقول الحمد لله الذي لم يبتلنا بحب الرئاسة أو حب الدنيا أو بالتكيف بالكيفية الفلانية أو يقول نعوذ بالله من قلة الحياء أو من سوء التوفيق أو نسأل الله أن يعصمنا من كذا بل مجرد الحمد على شيء إذا علم منه اتصاف المحدث عنه بما ينافيه ونحو ذلك فإنه يغتابه بلفظ الدعاء وسمت أهل الصلاح وإنما قصده أن يذكر عيبه بضرب من الكلام المشتمل على الغيبة والرياء ودعوى الخلاص من الرذائل وهو عنوان الوقوع فيها بل في أفحشها ومن ذلك أنه قد يقدم مدح من يريد غيبته فيقول ما أحسن أحوال فلان ما كان يقصر في العبادات ولكن قد اعتراه فتور وابتلي بما يبتلى به كلنا وهو قلة الصبر فيذكر نفسه بالذم ومقصوده أن يذم غيره وأن يمدح نفسه بالتشبه بالصالحين في ذم أنفسهم فيكون مغتابا مرائيا مزكيا نفسه فيجمع بين ثلاث فواحش وهو يظن بجهله أنه من الصالحين المتعففين عن الغيبة هكذا يلعب الشيطان بأهل الجهل إذا اشتغلوا بالعلم أو العمل من غير أن
صفحة ١٦
يتقنوا الطريق فيتبعهم ويحبط بمكايده عملهم ويضحك عليهم ويسخر منهم ومن ذلك أن يذكر ذاكر عيب إنسان فلا ينتبه له بعض الحاضرين فيقول سبحان الله ما أعجب هذا حتى يصغى الغافل إلى المغتاب ويعلم ما يقوله فيذكر الله سبحانه ويستعمل اسمه آلة في تحقيق خبثه وباطله وهو يمن على الله بذكره جهلا وغرورا ومن ذلك أن يقول جرى من فلان كذا أو ابتلي بكذا بل يقول جرى لصاحبنا أو صديقنا كذا تاب الله عليه وعلينا يظهر الدعاء له والتألم والصداقة والصحبة والله مطلع على خبث سريرته وفساد ضميره وهو بجهله لا يدري أنه قد تعرض لمقت أعظم مما يتعرض له الجهال إذا جاهروا بالغيبة ومن أقسامها الخفية الإصغاء إلى الغيبة على سبيل التعجب فإنه أنما يظهر التعجب ليزيد نشاط المغتاب في الغيبة فيزيد فيها فكأنه يستخرج منه الغيبة بهذا الطريق فيقول عجبت مما ذكرته ما كنت أعلم بذلك إلى الآن ما كنت أعرف من فلان ذلك يريد بذلك تصديق المغتاب واستدعاء الزيادة منه باللطف
صفحة ١٧
والتصديق لها غيبة بل الإصغاء إليها
[حرمة الاستماع إلى الغيبة ولزوم ردها]
بل السكوت عند سماعها
قال رسول الله(ع)المستمع أحد المغتابين
وقال علي(ع)السامع للغيبة أحد المغتابين
ومراده السامع على قصد الرضا والإيثار لا على وجه الاتفاق أو مع القدرة على الإنكار ولم يفعل ووجه كون المستمع والسامع على ذلك الوجه مغتابين مشاركتهما للمغتاب في الرضا وتكيف ذهنهما بالتصورات المذمومة التي لا ينبغي وإن اختلفا في أن أحدهما قائل والآخر قابل لكن كل واحد منهما صاحب آلة عليه أما أحدهما فذو لسان يعبر عن نفس قد تنجست بتصور الكذب والحرام والعزم عليه وأما الآخر فذو سمع تقبل عنه النفس تلك الآثار عن إيثار وسوء اختيار فتألفها وتعتادها فتمكن من جوهرها سموم عقارب الباطل ومن ذلك قيل السامع شريك القائل وقد تقدم في الخبر السالف ما يدل عليه
حيث قال للرجلين اللذين قال أحدهما أقعص الرجل كما يقعص الكلب انهشا من هذه الجيفة
فجمع بينهما مع أن أحدهما قائل والآخر
صفحة ١٨
سامع فالمستمع لا يخرج من إثم الغيبة إلا بأن ينكر بلسانه فإن خاف فبقلبه وإن قدر على القيام أو قطع الكلام بكلام غيره فلم يفعله لزمه ولو قال بلسانه اسكت وهو يشتهي ذلك بقلبه فذلك نفاق وفاحشة أخرى زائدة لا يخرجه عن الإثم ما لم يكرهه بقلبه
وقد روي عن النبي(ع)أنه قال من أذل عنده مؤمن وهو يقدر على أن ينصره أذله الله يوم القيامة على رءوس الخلائق
وعن أبي الدرداء قال قال رسول الله(ع)من رد الخلائق عن عرض أخيه بالغيب كان حقا على الله أن يرد عن عرضه يوم القيامة
وقال أيضا من رد عن عرض أخيه بالغيبة كان حقا على الله أن يعتقه من النار
وروى الصدوق بإسناده إلى رسول الله(ع)أنه قال من تطول على أخيه في غيبة سمعها عنه في مجلس فردها عنه رد الله عنه ألف باب من الشر في الدنيا والآخرة وإن هو لم يردها وهو قادر على ردها كان عليه كوزر من اغتابه سبعين مرة
وبإسناده إلى الباقر(ع)أنه قال من اغتيب عنده أخوه المؤمن
صفحة ١٩
فنصره وأعانه نصره الله في الدنيا والآخرة ومن لم ينصره ولم يدفع عنه وهو يقدر على نصرته وعونه حفظه الله في الدنيا والآخرة
[حرمة سوء الظن بالمؤمن وثمراته]
واعلم أنه كما يحرم على الإنسان سوء القول في المؤمن وأن يحدث غيره بلسانه بمساوئ الغير كذلك يحرم عليه سوء الظن وأن يحدث نفسه بذلك والمراد من سوء الظن المحرم عقد القلب وحكمه عليه بالسوء من غير يقين وأما الخواطر وحديث النفس فهو معفو عنه كما أن الشك أيضا معفو عنه قال الله تعالى اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم فليس لك أن تعتقد في غيرك سوء إلا إذا انكشف لك بعيان لا يحتمل التأويل وما لم تعلمه ثم وقع في قلبك فالشيطان يلقيه إليك فينبغي أن تكذبه فإنه أفسق الفساق وقد قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فلا يجوز تصديق إبليس ومن هنا جاء في الشرع أن من علمت في فيه رائحة الخمر لا يجوز أن يحكم عليه بشربها ولا يحده عليه لإمكان أن يكون تمضمض به ومجه أو حمل عليه
صفحة ٢٠
قهرا وذلك أمر ممكن فلا يجوز إساءة الظن بالمسلم
وقد قال النبي(ع)إن الله تعالى حرم من المسلم دمه وماله وأن يظن به ظن السوء
فلا يستباح ظن السوء إلا بما يستباح به الدم والمال وهو متيقن مشاهدة أو بينة عادلة أو ما جرى مجراهما من الأمور المفيدة لليقين أو الثبوت الشرعي
وعن أبي عبد الله(ع)إذا اتهم المؤمن أخاه ينماث الإيمان من قلبه كما ينماث الملح في الماء
وعنه من اتهم أخاه في دينه فلا حرمة بينهما
وعنه(ع)قال قال أمير المؤمنين في كلام له ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يغلبك منه ولا تظن بكلمة خرجت من أخيك سوءا وأنت تجد لها في الخير محملا
وطريق معرفة ما يخطر في قلب من ذلك هل هو ظن سوء أو اختلاج وشك أن تختبر نفسك فإن كانت قد تغيرت ونفر قلبك عنه نفورا واستثقلته وفترت عن مراعاته وتفقده وإكرامه والاهتمام بحاله والاغتمام بسببه غير ما كان أولا فهو أمارة عقد الظن
وقد قال(ع)ثلاثة في المؤمن وله منها مخرج فمخرجه من سوء الظن
صفحة ٢١