[بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا]
كشف الكربة
في
وصف أهل الغربة للإمام الحافظ أبي الفرج ابن رجب الحنبلي
صفحة غير معروفة
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله رب العالمين حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
خرج مسلم في " صحيحه " من حديث أبي هريرة ﵁ عن النبي ﷺ قال: «بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء» .
وخرجه الإمام أحمد وابن ماجه من حديث ابن مسعود بزيادة في آخره وهي: «قيل: يا رسول الله! ومن الغرباء؟ قال: النزاع من القبائل» .
وخرجه أبو بكر الآجري وعنده: «قيل: ومن هم يا رسول الله؟ قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس» .
وخرجه غيره وعنده: «قال: الذين يفرون بدينهم من الفتن» .
1 / 315
وخرجه الترمذي من حديث كثير بن عبد الله المزني عن أبيه عن جده عن النبي ﷺ: «إن الدين بدأ غريبًا، وسيرجع غريبًا، فطوبى للغرباء الذين يصلحون ما أفسد الناس من سنتي» .
وخرجه الطبراني من حديث جابر عن النبي ﷺ، وفي حديثه: «قيل: ومن هم يا رسول الله؟ قال: الذين يصلحون حين فساد الناس» .
وخرجه أيضًا من حديث سهل بن سعد بنحوه.
وخرجه الإمام أحمد من حديث سعد بن أبي وقاص عن النبي ﷺ وفي حديثه: «فطوبى يومئذ للغرباء إذا فسد الناس» .
وخرج الإمام أحمد والطبراني من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي ﷺ قال: «طوبى للغرباء، قلنا: ومن الغرباء؟ قال: قوم قليل في ناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم» .
وروي عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا وموقوفًا في هذا الحديث: «قيل: ومن الغرباء؟ قال: الفرارون بدينهم يبعثهم الله تعالى مع عيسى ابن مريم ﵇» .
قوله: «بدأ الإسلام غريبًا» يريد به أن الناس كانوا قبل مبعثه على ضلالة عامة كما قال النبي ﷺ في حديث عياض بن حمار الذي أخرجه مسلم: «إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم، عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب» .
1 / 316
[تحول الإسلام من ضعف إلى قوة]
فلما بعث النبي ﷺ ودعا إلى الإسلام لم يستجب له في أول الأمر إلا الواحد بعد الواحد من كل قبيلة، وكان المستجيب له خائفًا من عشيرته وقبيلته، يؤذى غاية الأذى، وينال منه وهو صابر على ذلك في الله ﷿، وكان المسلمون إذ ذاك مستضعفين يشردون كل مشرد ويهربون بدينهم إلى البلاد النائية كما هاجروا إلى الحبشة مرتين ثم هاجروا إلى المدينة، وكان منهم من يعذب في الله ومنهم من يقتل، فكان الداخلون في الإسلام حينئذ غرباء، ثم ظهر الإسلام بعد الهجرة إلى المدينة وعز وصار أهله ظاهرين كل الظهور، ودخل الناس بعد ذلك في دين الله أفواجا، وأكمل الله لهم الدين وأتم عليهم النعمة.
وتوفي رسول الله ﷺ والأمر على ذلك، وأهل الإسلام على غاية من الاستقامة في دينهم، وهم متعاضدون متناصرون، وكانوا على ذلك في زمن أبي بكر وعمر ﵄.
[فتنتا الشبهات والشهوات]
ثم أعمل الشيطان مكائده على المسلمين وألقى بأسهم بينهم، وأفشى بينهم فتنة الشبهات والشهوات، ولم تزل هاتان الفتنتان تتزايدان شيئا فشيئا حتى استحكمت مكيدة الشيطان وأطاعه أكثر الخلق، فمنهم من دخل في طاعته في فتنة الشبهات، ومنهم من دخل في فتنة الشهوات، ومنهم من جمع بينهما، وكل ذلك مما أخبر النبي ﷺ بوقوعه.
فأما فتنة الشبهات: فقد روي عن النبي ﷺ من غير وجه أن أُمته ستفترق على أزيد من سبعين فرقة على اختلاف في الروايات في عدد الزيادات على السبعين، وأن جميع تلك الفرق في النار إلا فرقة واحدة، وهي ما كانت على ما هو عليه وأصحابه ﷺ.
وأما فتنة الشهوات: ففي " صحيح مسلم " عن عبد الله بن عمرو عن النبي ﷺ قال: «كيف أنتم إذا فتحت عليكم خزائن فارس والروم. أي قوم
1 / 317
أنتم؟ قال عبد الرحمن بن عوف: نقول كما أمرنا الله. قال: أو غير ذلك؟ تتنافسون ثم تتحاسدون ثم تتدابرون» .
وفي " صحيح البخاري " عن عمرو بن عوف عن النبي ﷺ قال: «والله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم» .
وفي " الصحيحين " من حديث عقبة بن عامر عن النبي ﷺ معناه أيضا.
ولما فتحت كنوز كسرى على عمر بن الخطاب ﵁ بكى فقال: إن هذا لم يفتح على قوم قط إلا جعل الله بأسهم بينهم. أو كما قال.
وكان النبي ﷺ يخشى على أمته هاتين الفتنتين كما في " مسند الإمام أحمد بن حنبل " عن أبي برزة عن النبي ﷺ قال: «إنما أخشى عليكم الشهوات التي في بطونكم وفروجكم ومضلات الفتن» . وفي رواية: «ومضلات الفتن» .
فلما دخل أكثر الناس في هاتين الفتنتين أو إحداهما أصبحوا متقاطعين متباغضين بعد أن كانوا إخوانا متحابين متواصلين، فإن فتنة الشهوات عمت غالب الخلق ففتنوا بالدنيا وزهرتها وصارت غاية قصدهم، لها يطلبون، وبها يرضون، ولها يغضبون، ولها يوالون، وعليها يعادون، فتقطعوا لذلك أرحامهم وسفكوا دماءهم وارتكبوا معاصي الله بسبب ذلك.
1 / 318
وأما فتنة الشبهات والأهواء المضلة فبسببها تفرق أهل القبلة وصاروا شيعا وكفر بعضهم بعضا، وأصبحوا أعداءً وفرقا وأحزابا بعد أن كانوا إخوانا قلوبهم على قلب رجل واحد، فلم ينج من هذه الفرق إلا الفرقة الواحدة الناجية، وهم المذكورون في قوله ﷺ: «لا تزال طائفة من أُمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك» .
وهم في آخر الزمان الغرباء المذكورون في هذه الأحاديث: «الذين يُصلحون إذا فسد الناس»، وهم «الذين يُصلحون ما أفسد الناس من السنة»، وهم «الذين يفرون بدينهم من الفتن»، وهم «النزاع من القبائل»، لأنهم قلوا، فلا يوجد في كل قبيلة منهم إلا الواحد والاثنان، وقد لا يوجد في بعض القبائل منهم أحدٌ كما كان الداخلون إلى الإسلام في أول الأمر كذلك، وبهذا فسر الأئمة هذا الحديث.
[الإسلام لا يذهب ولكن يذهب أهل السنة]
قال الأوزاعي في قوله ﷺ: «بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ»: أما إنه ما يذهب الإسلام ولكن يذهب أهل السنة حتى ما يبقى في البلد منهم إلا رجل واحد.
ولهذا المعنى يوجد في كلام السلف كثيرا مدح السنة ووصفها بالغربة ووصف أهلها بالقلة، فكان الحسن ﵀ يقول لأصحابه: يا أهل السنة! ترفقوا - رحمكم الله - فإنكم من أقل الناس.
وقال يونس بن عبيد: ليس شيء أغرب من السنة وأغرب منها من يعرفها.
وروي عنه أنه قال: أصبح من إذا عرف السنة فعرفها غريبا وأغرب منه من يعرفها.
وعن سفيان الثوري قال: استوصوا بأهل السنة فإنهم غرباء.
ومراد هؤلاء الأئمة بالسنة: طريقة النبي ﷺ التي كان عليها هو وأصحابه السالمة من الشبهات والشهوات.
1 / 319
ولهذا كان الفضيل بن عياض يقول: أهل السنة من عرف ما يدخل في بطنه من حلال.
وذلك لأن أكل الحلال من أعظم خصائل السنة التي كان عليها النبي ﷺ وأصحابه ﵃.
ثم صار في عرف كثير من العلماء المتأخرين من أهل الحديث وغيرهم السنة عبارة عما سَلِمَ من الشبهات في الاعتقادات خاصة في مسائل الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وكذلك في مسائل القدر وفضائل الصحابة، وصنفوا في هذا العلم باسم السنة لأن خطره عظيم والمخالف فيه على شفا هلكة.
[السنة الكاملة هي الطريق السالمة من الشبهات والشهوات]
وأما السنة الكاملة فهي الطريق السالمة من الشبهات والشهوات كما قال الحسن ويونس بن عبيد وسفيان والفضيل وغيرهم، ولهذا وُصِفَ أهلُها بالغربة في آخر الزمان لقلتهم وغربتهم فيه، ولهذا ورد في بعض الروايات كما سبق في تفسير الغرباء: «قوم صالحون قليل في قوم سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم» وفي هذا إشارة إلى قلة عددهم وقلة المستجيبين لهم والقابلين منهم وكثرة المخالفين لهم والعاصين لهم.
ولهذا جاء في أحاديث متعددة مدح المتمسك بدينه في آخر الزمان وأنه كالقابض على الجمر، وأن للعامل منهم أجر خمسين ممن قبلهم، لأنهم لا يجدون أعوانا في الخير.
وهؤلاء الغرباء قسمان: أحدهما من يُصلح نفسه عند فساد الناس، والثاني من يُصلح ما أفسد الناس وهو أعلى القسمين وهو أفضلهما.
وقد خرج الطبراني وغيره بإسناد فيه نظر من حديث أبي أمامة عن النبي ﷺ: «إن لكل شيء إقبالا وإدبارا، وإن من إقبال هذا الدين ما كنتم عليه من العمى والجهالة وما بعثني الله به، وإن من
1 / 320
إقبال هذا الدين أن تفقه القبيلة بأسرها حتى لا يوجد فيها إلا الفاسق والفاسقان فهما مقهوران ذليلان، إن تكلما قُمِعَا وقُهِرَا واضطُهدا، وإن من إدبار هذا الدين أن تجفو القبيلة بأسرها حتى لا يُرى فيها إلا الفقيه والفقيهان فهما مقهوران ذليلان، إن تكلما فأمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر قُمعا واضطُهدا، فهما مقهوران ذليلان لا يجدان على ذلك أعوانا ولا أنصارا» .
فوصف في هذا الحديث المؤمن العالم بالسنة الفقيه في الدين بأنه سيكون في آخر الزمان عند فساده مقهورا ذليلا لا يجد أعوانا ولا أنصارا.
وخرج الطبراني بإسناد فيه ضعف عن ابن مسعود عن النبي ﷺ في حديث طويل في ذكر أشراط الساعة قال: «وإن من أشراطها أن يكون المؤمن في القبيلة أذل من النقد» . والنقد: هم الغنم الصغار.
وفي " مسند الإمام أحمد " عن عبادة بن الصامت أنه قال لرجلٍ من أصحابه: يُوشك إن طالت بك الحياة أن ترى الرجل قد قرأ القرآن على لسان محمد ﷺ فأعاده وأبدأه وأحل حلاله وحرم حرامه ونزل عند منازله لا يحور فيكم إلا كما يحور رأس الحمار الميت.
ومثله قول ابن مسعود: يأتي على الناس زمان يكون المؤمن فيه أذل من الأمة.
وإنما ذل المؤمن آخر الزمان لغربته بين أهل الفساد من أهل الشبهات والشهوات، فكلهم يكرهه ويؤذيه لمخالفة طريقته لطريقتهم ومقصوده لمقصودهم ومباينته لما هم عليه.
ولما مات داود الطائي قال ابن السماك: إن داود نظر بقلبه إلى ما بين يديه
1 / 321
فأعشى بقلبه بصر العيون فكأنه لم ينظر إلى ما أنتم إليه تنظرون وكأنكم لا تنظرون إلى ما إليه ينظر، فأنتم منه تعجبون، وهو منكم يعجب، استوحش منكم، إنه كان حيًّا وسط موتى.
ومنهم من كان يكرهه أهله وولده لاستنكار حاله، سمع عمر بن عبد العزيز امرأته مرة تقول: أراحنا الله منك. قال: آمين.
وقد كان السلف قديما يصفون المؤمن بالغربة في زمانهم كما سبق مثله عن الحسن والأوزاعي وسفيان وغيرهم.
ومن كلام أحمد بن عاصم الأنطاكي - وكان من كبار العارفين في زمان أبي سليمان الداراني - يقول: إني أدركت من الأزمنة زمانا عاد فيه الإسلام غريبا كما بدأ، وعاد وصفُ الحق فيه غريبا كما بدأ، إن ترغب فيه إلى عالم وجدته مفتونا بحب الدنيا، يُحب التعظيم والرئاسة، وإن ترغب فيه إلى عابد وجدته جاهلا في عبادته مخدوعا صريعا غدره إبليس، وقد صعد به إلى أعلى درجة من العبادة وهو جاهل بأدناها فكيف له بأعلاها؟ وسائر ذلك من الرعاع، همج عوج وذئاب مختلسة، وسباع ضارية وثعالب ضوار، هذا وصف عيون أهل زمانك من حملة العلم والقرآن ودعاة الحكمة. خرجه أبو نعيم في " الحلية ".
فهذا وصف أهل زمانه فكيف بما حدث بعده من العظائم والدواهي التي لم تخطر بباله ولم تدر في خياله؟
وخرج الطبراني من حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ: «المتمسك بسنتي عند فساد أمتي له أجر شهيد» .
1 / 322
وخرج أبو الشيخ الأصبهاني بإسناده عن الحسن قال: لو أن رجلا من الصدر الأول بُعِثَ اليوم ما عرف من الإسلام شيئا إلا هذه الصلاة. ثم قال: أما والله لئن عاش إلى المنكرات فرأى صاحب بدعة يدعو إلى بدعته أو صاحب دنيا يدعو إلى دنياه فعصمه الله ﷿ وقلبه يحن إلى السلف الصالح فيتبع آثارهم ويستن بسنتهم ويتبع سبيلهم كان له أجر عظيم.
وروى ابن المبارك عن الفضيل عن الحسن أنه ذكر الغني المترف الذي له سلطان يأخذ المال ويدعي أنه لا عقاب فيه، وذكر الضال الذي خرج بسيفه على المسلمين ثم قال: سنتكم - والذي لا إله إلا هو - بين الغالي والجافي والمترف والجاهل فاصبروا عليها، فإن أهل السنة كانوا أقل الناس، الذين لم يأخذوا مع أهل الأتراف في أترافهم، ولا مع أهل البدع في أهوائهم، وصبروا على سنتهم حتى أتوا ربهم، فكذلك إن شاء الله فكونوا. ثم قال: والله لو أن رجلا أدرك هذه المنكرات يقول هذا: هلم إليَّ، ويقول هذا: هلم إليَّ، فيقول: لا أريد إلا سنة محمد ﷺ يطلبها ويسأل عنها، إن هذا ليعرض له أجر عظيم، فكذلك فكونوا إن شاء الله تعالى.
[تقسيم حملة العلم]
ومن هذا المعنى ما رواه أبو نعيم وغيره عن كميل بن زياد عن علي بن أبي طالب ﵁ أنه قال: الناس ثلاثة: عالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق يميلون مع كل صائح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجئوا إلى ركن وثيق. . . ثم ذكر كلاما في فضل العلم إلى أن قال: هاه إن ههنا لعلما جما - وأشار بيده إلى صدره - لو أصبت له حمله، بل أصيب لَقِنا غير مأمون عليه مستعملا آلة الدين للدنيا، ومستظهرا بنعم الله على عباده وبحججه على أوليائه أو منقادا لحملة الحق لا بصيرة في أحنائه، ينقدح الشك في قلبه لأول عارض من شبهة، ألا لا ذا ولا ذلك، أو منهوما باللذة سلس القيادة للشهوة، أو مغرما بالجمع شيء شبها بهما الأنعام السائمة، كذلك يموت العلم بموت حامليه، اللهم بلى لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة إما ظاهرا مشهورا أو خائفا مغمورا لئلا تبطل حجج الله وبيناته، وكم ذا وأين أولئك؟ والله الأقلون عددا والأعظمون عند الله قدرا، يحفظ الله بهم حججه وبيناته حتى يودعوها نظراءهم ويزرعوها في قلوب أشباههم، هَجَم بهم العلم على حقيقة البصيرة، وباشروا روح اليقين واستلانوا ما استوعره المترفون، وأنسوا بما أستوحش منه الجاهلون، وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها متعلقة بالمحل الأعلى، أولئك خلفاء الله في أرضه والدعاة إلى دينه، آه آه شوقا إلى رؤيتهم. انصرف إذا شئت.
فقسم أمير المؤمنين ﵁ حملة العلم إلى ثلاثة أقسام: قسم هم أهل الشبهات وهم من لا بصيرة له من حملة العلم ينقدح الشك في قلبه
1 / 323
بأول عارض من شبهة، فتأخذه الشبهة فيقع في الحيرة والشكوك، ويخرج من ذلك إلى البدع والضلالات.
وقسم هم أهل الشهوات وحظهم نوعان: أحدهما من يطلب الدنيا بنفس العلم، فيجعل العلم آلة لكسب الدنيا، والثاني من همه جمع الدنيا واكتنازها وادخارها، وكل أولئك ليسوا من رعاة الدين وإنما هم كالأنعام، ولهذا شبه الله تعالى من حُمَّل التوراة ثم لم يحملها بالحمار الذي يحمل أسفارا، وشبه عالم السوء الذي انسلخ من آيات الله وأخلد إلى الأرض واتبع هواه بالكلب، والكلب والحمار أخس الأنعام وأضل سبيلا.
1 / 324
والقسم الثالث من حملة العلم هم أهله وحملته ورعاته والقائمون بحجج الله وبيناته، وذكر أنهم الأقلون عددا، الأعظمون عند الله قدرا، إشارة إلى قلة هذا القسم وغربته من حملة أهل العلم.
وقد قسم الحسن البصري ﵁ حملة القرآن إلى قريب من هذا التقسيم الذي قسمه علي ﵁ لحملة القرآن.
قال الحسن: قُراء القرآن ثلاثة أصناف: صنف اتخذوه بضاعة فيتأكلون به، وصنف أقاموا حروفه وضيعوا حدوده واستطالوا به على أهل بلادهم واستندوا به لطلب الولاية، أكثر هذا الضرب من حملة القرآن لا كثرهم الله، وضرب عمدوا إلى دواء القرآن فوضعوه على داء قلوبهم فركدوا به في محاريبهم وحنوا به برانسهم واستشعروا الخوف، وارتدوا الحزن، فأولئك الذين يسقي الله بهم الغيث وينصر بهم على الأعداء، والله لهؤلاء الضرب في حملة القرآن أعز من الكبريت الأحمر بين قراء القرآن.
فأخبر أن هذا القسم - وهم قراء القرآن - جعلوه دواء لقلوبهم فأثار لهم الخوف والحزن وأعز من الكبريت الأحمر بين قراء القرآن.
[من صفات حملة العلم]
ووصف أمير المؤمنين ﵁ هذا القسم من حملة العلم بصفاتٍ منها أنه هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة، ومعنى ذلك أن العلم دلهم على المقصود الأعظم وهو معرفة الله فخافوه وأحبوه حتى سهل ذلك عليهم كما ما تعسر على غيرهم، فلم يصل إلى ما وصلوا إليه ممن وقف مع الدنيا وزينتها وزهرتها واغتر بها ولم يباشر قلبه معرفة الله وعظمته وإجلاله،
1 / 325
واستلانوا ما استوعر منه المترفون، فإن المترف الواقع مع شهوات الدنيا ولذاتها يصعب عليه ترك لذاتها وشهواتها لأنه لا عوض عنده من لذات الدنيا إذا تركها، فهو لا يصبر على تركها، فهؤلاء في قلوبهم العوض الأكبر بما وصلوا إليه من لذة معرفة الله ومحبته وإجلاله كما كان الحسن يقول: إن أحباء الله هم الذين ورثوا طيب الحياة وذاقوا نعيمها بما وصلوا إليه من مناجاة حبيبهم وبما وجدوا من لذة حبه في قلوبهم. . . من كلامٍ يطول ذكره في هذا المعنى، وإنما أنس هؤلاء بما استوحش منه الجاهلون لأن الجاهلين بالله يستوحشون من ترك الدنيا وشهواتها لأنهم لا يعرفون سواها، فهي أًنسهم، وهؤلاء يستوحشون من ذلك ويستأنسون بالله وبذكره ومعرفته ومحبته وتلاوة كتابه، والجاهلون بالله يستوحشون من ذلك ولا يجدون الأنس به. ومن صفاتهم التي وصفهم بها أمير المؤمنين علي ﵁ أنهم صحبوا الدينا بأبدان أرواحها معلقة بالنظر الأعلى، وهذا إشارة إلى أنهم لم يتخذوها وطنا ولا رضوا بها إقامة ولا مسكنا، إنما اتخذوها ممرا ولم يجعلوها مقرا، وجميع الكتب والرسل أوصت بهذا، وقد أخبر الله تعالى في كتابه عن مؤمن آل فرعون أنه قال لقومه في وعظه لهم: ﴿يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ﴾ [غافر: ٣٩] وقال النبي ﷺ لابن عمر: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل، فكأنك بالدنيا ولم تكن، وبالآخرة ولم تزل» .
وفي رواية: «وعد نفسك من أهل القبور» .
1 / 326
ومن وصايا المسيح المروية عنه ﵇ أنه قال لأصحابه: اعبروها ولا تعمروها.
وعنه ﵇ أنه قال: من الذي يبني على موج البحر دارا؟! تلك الدنيا فلا تتخذوها قرارا.
فالمؤمن في الدنيا كالغريب المجتاز ببلدة غير مستوطن فيها، فهو يشتاق إلى بلده وهمه الرجوع إليه والتزود بما يوصله في طريقه إلى وطنه، ولا يُنافس أهل ذلك البلد المستوطنين فيه في عزهم، ولا يجزع مما أصابه عندهم من الذل.
قال الفضيل بن عياض: المؤمن في الدنيا مهموم حزين همه مرمة جهازه.
وقال الحسن: المؤمن في الدنيا كالغريب لا يجزع من ذلها، ولا ينافس في عزها، له شأن وللناس شأن.
وفي الحقيقة فالمؤمن في الدنيا غريب لأن أباه لما كان في دار البقاء ثم خرج منها فهمه الرجوع إلى مسكنه الأول، فهو أبدا يحن إلى وطنه الذي أُخرج منه كما يقال: " حب الوطن من الإيمان " وكما قيل:
كم منزل في الأرض يألفه الفتى ... وحنينه أبدا لأول منزل
ولبعض شيوخنا في هذا المعنى:
فحي على جنات عدن فإنها ... منازلك الأولى وفيهم المخيم
ولكننا سبي العدو فهل ترى ... نعود إلى أوطاننا ونسلم
وقد زعموا أن الغريب إذا نأى ... وشطت به أوطانه فهو مغرم
فأي اغتراب فوق غربتنا التي ... لها أضحت الأعداء فينا تحكم
1 / 327
والمؤمنون في هذا القسم أقسام: منهم من قلبه معلق بالجنة، ومنهم من قلبه معلق عند خالقه وهم العارفون، ولعل أمير المؤمنين ﵁ إنما أشار إلى هذا القسم. فالعارفون أبدانهم في الدنيا وقلوبهم عند المولى.
[الغربة عند أهل الطريقة]
وفي مراسيل الحسن عن النبي ﷺ يرويه عن ربه: (علامة الطهر أن يكون قلب العبد عندي معلقا، فإذا كان كذلك لم ينسني على كل حال، وإن كان كذلك مننت عليه بالاشتغال بي كي لا ينساني، فإذا لم ينسني حركت قلبه، فإذا تكلم تكلم بي، وإذا سكت سكت بي، فذلك الذي تأتيه المعونة من عندي) .
وأهل هذا الشأن هم غرباء الغرباء، غربتهم أعز الغربة، فإن الغربة عند أهل الطريقة غربتان: ظاهرة وباطنة.
فالظاهرة: غُربة أهل الصلاح بين الفساق، وغربة الصادقين بين أهل الرياء والنفاق، وغربة العلماء بين أهل الجهل وسوء الأخلاق، وغربة علماء الآخرة بين علماء الدنيا الذين سُلبوا الخشية والإشفاق، وغربة الزاهدين بين الراغبين فيما ينفد وليس بباق.
وأما الغربة الباطنة: فغربة الهمة، وهي غربة العارفين بين الخلق كلهم حتى العلماء والعباد والزهاد، فإن أولئك واقفون مع علمهم وعبادتهم وزهدهم، وهؤلاء واقفون مع معبودهم لا يعرجون بقلوبهم عنه.
فكان أبو سليمان الداراني يقول في صفتهم: وهمتهم غير همة الناس وإرادتهم الآخرة غير إرادة الناس، ودعاؤهم غير دعاء الناس.
وسُئل عن أفضل الأعمال فبكى وقال: أن يطلع على قلبك فلا يراك تريد من الدنيا والآخرة غيره.
1 / 328
وقال يحيى بن معاذ: الزاهد غريب الدنيا، والعارف غريب الآخرة.
يشير إلى أن الزهد غريب بين أهل الدنيا، والعارف غريب بين أهل الآخرة، لا يعرفه العباد ولا الزهاد، وإنما يعرفه من هو مثله وهمته كهمته.
وربما اجتمعت للعارف هذه الغربات كلها أو كثير منها أو بعضها فلا يسأل عن غربته، فالعارفون ظاهرون لأهل الدنيا والآخرة.
قال يحيى بن معاذ: العابد مشهور والعارف مستور، وربما خفي حال العارف على نفسه لخفاء حالته وإساءة الظن بنفسه.
وفي حديث سعد عن النبي ﷺ: «إن الله يحب العبد الخفي التقي» .
وفي حديث معاذ عن النبي ﷺ: «إن الله يحب من عباده الأخفياء الأتقياء، الذين إذا حضروا لم يعرفوا، وإذا غابوا لم يفتقدوا، أولئك أئمة الهدى ومصابيح العلم» .
وعن علي بن أبي طالب ﵁: طوبى لكل عبد لم يعرف الناس ولم تعرفه الناس، وعرفه الله منه برضوان، أولئك مصابيح الهدى، تجلى عنهم كل فتنة مظلمة.
وقال ابن مسعود ﵁: كونوا جدد القلوب، خلقان الثياب، مصابيح الظلام، تخفون على أهل الأرض وتعرفون في أهل السماء.
فهؤلاء أخص أهل الغربة، وهم الفرارون بدينهم من الفتن، وهم النزاع من القبائل الذين يُحشرون مع عيسى ﵇، وهم بين أهل
1 / 329
الآخرة أعز من الكبريت الأحمر، فكيف يكون حالهم بين أهل الدنيا، وتخفى حالهم غالبا على الفرقتين كما قال:
تواريت عن دهري بظل جناحه ... فعيني ترى دهري وليس يراني
ولو تسئل الأيام ما اسمي لما درت ... وأين مكاني ما فرعن مكاني
ومن ظهر منهم للناس فهو بينهم ببدنه، وقلبه معلق بالنظر الأعلى كما قال أمير المؤمنين ﵁ في وصفهم:
جسمي معي غير أن الروح عندكم ... فالجسم في غربة والروح في وطن
وكانت رابعة العدوية - رحمها الله تعالى - تنشد في هذا المعنى:
ولقد جعلتك في الفؤاد محدثي ... وأبحت جسمي من أراد جلوسي
فالجسم مني للحبيب مؤانس ... وحبيب قلبي في الفؤاد أنيسي
وأكثرهم لا يقوى على مخالطة الخلق فهو يفر إلى الخلوة ليستأنس بحبيبه، ولهذا كان أكثرهم يطيل الوحدة.
وقيل لبعضهم: ألا تستوحش؟ قال: كيف أستوحش وهو يقول: أنا جليس من ذكرني؟ .
وقال آخر: وهل يستوحش مع الله أحد؟ .
وعن بعضهم: من استوحش من وحدته فذلك لقلة أنسه بربه.
وكان يحيى بن معاذ كثير العزلة والانفراد فعاتبه أخوه فقال له: إن كنت من الناس فلا بد لك من الناس، فقال: يحيى: إن كنت من الناس فلا بد لك من الله.
وقيل له: إذا هجرت الخلق مع من تعيش؟ قال: مع من هجرتُهم له.
وأنشد إبراهيم بن أدهم:
هجرت الخلق طرًّا في هواكا ... وأيتمت العيال لكي أراكا
فلو قطعتني في الحب إربا ... لما حن الفؤاد إلى سوكا
1 / 330
وعوتب ابن غزوان على خلوته فقال: إني أصبت راحة قلبي في مجالسة من لديه حاجتي.
ولغربتهم من الناس ربما نُسب بعضهم إلى الجنون لبعد حاله من أحوال الناس كما كان أويس يُقال ذلك عنه.
وكان أبو مسلم الخولاني كثير اللهج بالذكر لا يفتر لسانه فقال رجل لجلسائه: أمجنون صاحبكم؟ وقال: أبو مسلم: يا ابن أخي! لكن هذا دواء الجنون.
وفي حديث عن النبي ﷺ: «اذكروا الله حتى يقولوا مجنون» .
وقال الحسن في وصفهم: إذا نظر إليهم الجاهل حسبهم مرضى وما بالقوم من مرض. ويقول: قد خولطوا وقد خالط القوم أمر عظيم، هيهات، والله مشغول عن دنياكم.
وفي هذا المعنى قال:
وحرمة الود ما لي عنكم عوض ... وليس لي في سواكم سادتي غرض
وقد شرطت على قوم صبحتهم ... بأن قلبي لكم من دونهم فرضوا
ومن حديثي بهم قالوا به مرض ... فقلت لا زال عني ذلك المرض
وفي الحديث أن النبي ﷺ أوصى إلى رجل فقال: «استحي من الله كما تستحي من رجلين من صالحي عشيرتك لا يفارقانك» .
وفي حديث آخر عنه ﷺ قال: «أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيثما كنت» .
1 / 331
وفي حديث آخر أنه «سئل ﷺ: ما تزكية النفس؟ قال: (أن يعلم أن الله معه حيث كان)» .
وفي حديث آخر عنه ﷺ قال: «ثلاثة في ظل الله يظلهم في ظله يوم لا ظل إلا ظله» . . . فذكر منهم رجلا حيث توجه علم أن الله معه) .
وثبت عنه ﷺ أنه «سئل عن الإحسان فقال: (أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك)» .
ولأبي عبادي في هذا المعنى أبيات حسنة أساء بقولها في مخلوق، وقد أصلحت منها أبياتا حتى استقامت على الطريقة:
كأن رقيبا منك يرعى خواطري ... وآخر يرعى ناظري ولساني
فما بصرت عيناي بعدك منظرا ... يسؤك إلا قلت قدره نفاني
ولا بدرت من في بعدك لفظة ... لغيرك إلا قلت قد سمعاني
ولا خطرت من ذكر غيرك خطرة ... على القلب إلا عرجا بعناني
إذا ما تسلى القاعدون على الهوى ... بذكر فلان أو كلام فلان
وجدت الذي يسلي سواي يشوقني ... إلى قربكم حتى أمل مكاني
وإخوان صدق قد سئمت لقاءهم ... وأغضيت طرفي عنهم ولساني
وما الغض أسلى عنهم غير أنني ... أراك كما كل الجهات تراني
انتهى الكتاب
والله أعلم
1 / 332