وكان أبو بكر كثيرا ما يستأذن النبي في الهجرة، وهو يقول (96) له: «لا تعجل، لعل الله يجعل لك صاحبا».
ثم إن أبا بكر خرج من مكة، يريد أرض الحبشة مهاجرا، حتى إذا بلغ ترك العماد1)، لقى ابن الدعنة، وهو سيد القادة، فقال له: إلى أين تريد يا أبا بكر? قال: أخرجنى قومي، أريد أن أسيح في الأرض، أعبد ربي، فقال ابن الدغنة: إن مثلك لا يخرج، إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فأنا لك جار، فارجع، فاعبد ربك ببلدك.
فرجع أبو بكر، وارتحل معه ابن الدغنة، فطاف عشيته في أشراف فريش، فقال: إن أبا بكر مثله لا يخرج، أتخرجون رجلا يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق، ووفى ابن الدغنة لأبى بكر بالذمة، فلبث أبو بكر يعبد ربه في داره، ولا يشتغل بغير صلاته وقراءته، ثم بدا له، فبنى مسجدا بفناء داره، فكان يصلي فيه، ويقرا القرآن، فيزدحمن عليه نساء المشركين، وأبناؤهم يتعجبون، وينظرون إليه، وكان ل ه، بكاء لا يملك عينيه إذا قرأ، فغاظ من ذلك أشراف قريش، فأرسلوا إلى أبى الدغنة، وقالوا: إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك، على أن يعبد ربه في بيته، فقد تجاوز ذلك، وبنى مسجدا بفناء داره، فأعلن فيه بالصلاة والقراءة، وإنا قد خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا، فانهه، فإن أحب أن يقتصر على عبادة ربه سرا فعل، وإن أبى إلا أن يعلن بذلك، فاسأله، فليرد عليك جوارك، فإنا كرهنا أن نخفرك في ذمتك، ولسنا مقرين أبا بكر على الاستعلان في بلدنا.
صفحة ٢٧٤