الجزء الأول
[القسم الأول]
ترجمة الإربلي
السيد أحمد الحسيني
نسبه ونسبته
الصاحب بهاء الدين، أبو الحسن علي بن عيسى فخر الدين [1] بن أبي الفتح بن هندي الشيباني الإربلي الهكاري.
«الشيباني» لم نعرف وجه نسبة الإربلي إلى «شيبان» بطون من قبائل عربية كانت تسكن في اليمن والحجاز والعراق [2]، في حين أنه كان ينحدر ظاهرا من قبائل كردية تسكن في نواحي إربل. ويمكن القول بأنه عربي الأصل سكن آباؤه في هذه المنطقة، فالنسبة جاءته من سلفه.
«الإربلي» نسبة إلى إربل بكسر الهمزة وسكون الراء المهملة وكسر الباء الموحدة، وهي مدينة معروفة بشمال العراق، كان بجنبها قلعة حصينة، أكثر أهلها أكراد قد استعربوا، وهي الآن اسم لإحدى محافظات العراق مركزها هذه المدينة المسماة بنفس الاسم [3].
قال الأفندي بعد نقل ضبط «الإربلي» كما قلنا: الدائر على الألسنة في الإربلي بفتح الهمزة وسكون الراء المهملة وضم الباء الموحدة [4].
«الهكاري» نسبة إلى جبل الهكارية، بفتح الهاء وتشديد الكاف وراء ثم ياء نسبة. وهي بلدة وناحية وقرى فوق الموصل في بلد جزيرة ابن عمر، يسكنها أكراد يقال لهم «الهكارية» [5].
صفحة ٥
كناه في الروضات ب «ابن الفخر» نسبة إلى لقب أبيه أو جده، وقال أنه مشهور بذلك [1].
بيته
أبوه فخر الدين عيسى الإربلي، يعرف ب «ابن ججني»، كان حاكما على إربل ونواحيها أيام الصاحب تاج الدين أبي المعالي محمد بن الصلايا الحسيني، وإليه رئاسة البلد، وكان من أعيان عصره عقلا وحكمة وعلما. توفي بإربل في سلخ جمادى الآخرة سنة 664، ورثاه جماعة من أهل بغداد، منهم شمس الدين أبو المناقب محمد ابن أحمد الحارثي الهاشمي الكوفي- من شيوخ ابن الفوطي- بقوله من قصيدة:
لقد كان فخر الدين بحر فضائل
ولم نر بحرا قبله ضمه القبر
كريم السجايا هذب الجود نفسه
إلى أن تساوى عنده الترب والتبر [2]
وصفه ابن شاكر الكتبي بالولاية على إربل، ولقبه بالأمير [3] حفظ لنا التاريخ من أولاده وأحفاده:
الشيخ تاج الدين محمد، ابن الإربلي، الأديب الفاضل الشاعر، يروي عن أبيه كتابه «كشف الغمة» [4].
أبو الفتح، ابن الإربلي ، تسلم ثروة أبيه بعد موته وكانت تقدر بألفي ألف درهم، فمحقها ومات صعلوكا [5]. ذهب الاستاذ الجبوري إلى أنه متحد مع تاج الدين محمد، ولا بد من التحقيق فيه، إذ لم يكن تاج الدين بأبي الفتح في المصادر التي اطلعنا عليها.
شرف الدين أحمد بن الصدر تاج الدين محمد، حفيد الإربلي، فاضل شاعر أديب، يروي عن جده كتاب «كشف الغمة»، وله منه إجازة [6].
الشيخ عيسى بن محمد، حفيد الإربلي، الأديب الشاعر الفاضل، يروي عنه
صفحة ٦
كتابه «كشف الغمة» [1].
من هذه الإلمامة العابرة نستنتج أن البيت الذي نشأ فيه الإربلي كان بيت رئاسة وعلم، واتصل العلم في هذا البيت بعده لسنين طويلة، فأولاده وبعض أحفاده علماء لهم نصيب في الرواية والنقل.
نشأته
لا نملك نصا تاريخيا يحدد تاريخ مولد الإربلي على التعيين، إلا أن الاستاذ عبد الله الجبوري يرجح أنه كان مولده بإربل بين سنتي 620- 625، فيقول:
«الأرجح عندنا أنه ولد بإربل، وفي حدود سنتي 620- 625، وحجتنا فيما نذهب إليه أنه تولى رئاسة الكتاب في ديوان متولي إربل تاج الدين ابن الصلايا قبل هجرته إلى بغداد، ونرجح أنه تولاها في أخريات سنة 653، أي له من العمر ثمان وعشرون سنة، وهذا أقل احتمال حيث يتولى رئاسة الكتاب في ديوان متولي إربل في مثل هذا العمر» [2].
أقول: يستشف من بيت في الديوان أن الإربلي ولد نحو سنة 612، فإنه يقول:
ولو لا معان فيك أوجبن صبوتي
لما كنت من بعد الثمانين مغرما
إذا أخذنا بنسخة «الثمانين» لا «الثلاثين» كما رجحنا ذلك في التعليق على البيت، وإذا أراد الحقيقة من هذه اللفظة لا المبالغة الشعرية، وكانت القصيدة قالها في أواخر عمره.
أما نشأته الثقافية فلم نجد من مترجميه تفصيل ما يدلنا على سيره الدراسي وممن أخذ العلم وعلى من تتلمذ في مراحل الطلب المختلفة، ولا بد من الاكتفاء بالإجمال في هذا الشأن، فنقول:
يستفاد من آثاره الواصلة إلينا ومن تقاريظ العلماء والمؤرخين له، واستعراض نقولاته الأدبية وغيرها، أنه نشأ نشأة علمية صالحة وقرأ على أساتذة وشيوخ أصحاب الشهرة الأدبية والمكانة العلمية في عصر هم، فمساجلاته الشعرية ومناقشاته التي
صفحة ٧
يتطرق إليها عرضا فيما يكتبه، تنم عن دراسة واعية في أيام التحصيل والأخذ، كما تكشف عن طول باع في العلوم المتداولة في عصره وبيئته.
وهو بالإضافة إلى مكانته في العلم والأدب، متتبع كثير القراءة في الكتب والمصادر التاريخية لكبار قدامى العلماء، واسع المعرفة بالتفسير والحديث وتاريخ العصر الإسلامي الأول، يظهر ذلك جليا لمن قرأ كتابه السائر الممتاز «كشف الغمة»، فإنه عند ما ينقل حديثا في فضل أهل البيت (عليهم السلام) يسرد أسماء مصادر وفيرة كثير منها غير موجودة في عصرنا أو لم نطلع على وجودها في مكتباتنا التي عرفنا ما فيها.
كل هذا يدل على أنه كان يتمتع بمواهب ممتازة، استقلها عند نشأته الاولى ولم يشغله موقع أبيه من الولاية والرئاسة، وقد ضل ينميها بعد أن ترعرع وشب بمداومة القراءة ودقة النظر، وحتى بعد أن أصبح ذا مكانة مرموقة في الدولة ببغداد وأشغل منصب كتابة الإنشاء.
أساتذته ومشايخه
الإربلي كثير النقل في كتبه عن العلماء والادباء والشعراء المعاصرين له، التقى بهم في أندية علمية وأدبية ضمته إليهم أو راسلهم وكاتبهم، ومن الصعوبة بمكان معرفة شيوخه (الذين أخذ منهم العلم أو روى عنهم) وتمييزهم عن غيرهم على الدقة.
وفيما يلي نذكر الشيوخ الذين ذكر روايته عنهم في أول كتابه «كشف الغمة» أو في غضونه، أو ذكر هم في مؤلفاته الأخرى، أو صرح آخرون أنهم من الشيوخ المجيزين له:
1- الشيخ برهان الدين أحمد بن علي الغزنوي [1].
2- السيد جلال الدين عبد الحميد بن فخار الموسوي [2]، يروي عنه في مواضع من «كشف الغمة»، أجازه في ذي الحجة سنة 676 [3].
3- تاج الدين أبو طالب علي بن أنجب بن عثمان الشهير بابن الساعي البغدادي
صفحة ٨
السلامي، يروي الإربلي عنه كتاب «معالم العترة النبوية» لابن الأخضر الجنابذي [1].
4- رضي الدين ابو الهيجاء علي بن حسن بن منصور بن موسى الإربلي الأنصاري الأوسي، قرأ عليه «اللمع» لابن جني وقطعة صالحة في «الإيضاح»، وأجازه أن يروي عنه عن مشايخه كلما قرأه عليهم ورواه عنهم بشروطه [2].
5- السيد رضي الدين علي بن طاوس الحلي، يروي عنه في مواضع من كتابه «كشف الغمة» [3].
6- كمال الدين أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن وضاح الحنبلي الشهرآباني، أجازه أن يروي عنه كلما يروي عن مشايخه [4]، ومنها كتاب «الذرية الطاهرة» لأبي بشر الدولابي.
7- رشيد الدين أبو عبد الله محمد بن أبي القاسم بن عمر بن أبي القاسم، قرأ عليه كتاب «المستغيثين» في شعبان سنة 686 في داره المطلة على دجلة ببغداد [5].
8- أبو عبد الله محمد بن يوسف بن محمد الكنجي الشافعي، قرأ عليه بإربل في مجلسين كتاب «كفاية الطالب في مناقب علي بن أبي طالب»، آخرهما في يوم الخميس 26 جمادى الآخرة سنة 648 وأجاز له روايته [6]، وقرأ عليه أيضا كتابه «البيان في أخبار صاحب الزمان».
9- السيد محيي الدين يوسف بن يوسف بن يوسف بن زيلاق الكاتب الهاشمي الموصلي، أجازه رواية المعقول والمنقول وكتب إليه بذلك [7].
تلامذته والراوون عنه
قرأ جماعة كتاب «كشف الغمة» وسمعوه من مؤلفه الإربلي، فأجازهم روايته
صفحة ٩
عنه في ثالث شهر شعبان سنة 691، والإجازة منسوخة في بعض نسخ الكتاب المخطوطة القديمة، رأى صورتها الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي فوزع أسماء الشيعة منهم في كتابه «أمل الآمل»، كما نقل صورتها أيضا الشيخ آقا بزرك الطهراني في الذريعة 18/ 48، وهم:
1- تقي الدين إبراهيم بن محمد بن سالم.
2- تاج الدين أبو الفتح بن حسين بن أبي بكر الإربلي.
3- شرف الدين أحمد بن عثمان النصيبي المدرس المالكي.
4- شرف الدين أحمد ابن الصدر تاج الدين محمد بن علي بن عيسى، حفيد بهاء الدين الإربلي صاحب الترجمة.
5- عز الدين أبو علي الحسن [1] بن أبي الهيجاء الإربلي.
6- حسن بن إسحاق بن إبراهيم بن عباس الموصلي.
7- جمال الدين الحسن بن يوسف بن المطهر العلامة الحلي.
8- رضي الدين ابن المطهر [2]، وهو علي بن يوسف بن المطهر أخو العلامة الحلي [3].
9- أمين الدين عبد الرحمن بن علي بن الحسين بن الحريري الموصلي [4].
10- كمال الدين عبد الرزاق بن أحمد المعروف بابن الفوطي [5].
11- شمس الدين (عماد الدين) عبد الله بن محمد بن مكي.
12- عيسى بن محمد بن علي بن عيسى الإبلي، حفيد بهاء الدين.
13- مجد الدين الفضل بن يحيى [6] بن علي بن المظفر الطيبي الكاتب بواسط.
14- الصدر تاج الدين محمد بن علي بن عيسى الإربلي، ابن بهاء الدين.
15- السيد شمس الدين محمد بن الفضل العلوي الحسيني.
صفحة ١٠
16- الشيخ محمود بن علي بن [أبي] القاسم.
17- مجد الدين أبو الفضل يحيى بن علي بن المظفر الطيبي [1].
في الوظائف الحكومية
كتب في بداية أمره لمتولي إربل ابن الصلايا [2]، وبعد هجرته منها كان يتردد عليها، فكان بها في ذي القعدة سنة 662 [3].
وصل إلى بغداد في شهر رجب سنة 660 [4]، واتصل بعلاء الدين عطا ملك بن بهاء الدين محمد الجويني، واشتغل لديه بكتابة الإنشاء، فحصل عنده وعند أخيه شمس الدين محمد متسعا من الجاه والمال، وتعرف من طريقهما على فخر الدولة منوجهر بن أبي الكرم الهمذاني، وبطلب من الأخير جمع كتابه «التذكرة الفخرية» [5].
قالوا: فتر سوقه في دولة اليهود، ثم تراجع بعدهم وسلم ولم ينكب إلى أن مات [6].
صرح بعض- وسرى ذلك إلى جملة من الكتب التي ترجمت للإربلي- أنه كان وزيرا لبعض الخلفاء العباسيين، وليس في التواريخ المشهورة حكاية وزارته، والظاهر أنه من باب الاشتباه بالوزير علي بن عيسى بن داود الجراح وزير المقتدر بالله العباسي [7].
وصف في جملة من المصادر ب «الصدر»، ووجد هذا اللقب على نسخة من كتاب «كشف الغمة» مقروءة عليه وعليها خطه [8]، كما ذكره بعض المترجمين له بلقب
صفحة ١١
«الصاحب» [1]، وهذان اللقبان يطلقان على كبار أرباب الدولة ولا يعنيان الوزارة بالذات.
في سنة 678 تولى تعمير «مسجد معروف» الذي عمره ضياء الدين خال الصاحب علاء الدين عطا ملك، وتممه الصاحب شمس الدين الجويني، ومسجد معروف هذا هو «جامع باب السيف» المشهور على ما حققه الدكتور مصطفى جواد، وهدم في عام 1964 م [2].
في عام 687 تولى الوزارة سعد الدين بن الصفي اليهودي، وأعيد إليه أمر الأشراف بالعراق، وفي ذات يوم وصل إلى بغداد جماعة من اليهود من أهل تفليس وقد رتبوا ولاة على تركات المسلمين. في هذا العام ترك الإربلي كتابة الإنشاء وانزوى في داره. وهذه الفترة عنيت ب «فتر سوقه في دولة اليهود ثم تراجع بعدهم وسلم» في كلام ابن شاكر الكتبي [3].
شيء عن مذهبه
قال ميرزا عبد الله أفندي:
ثم كون هذا الفاضل من الشيعة الإمامية مما لا شك فيه، ولكن السيد الداماد قال في «شرعة التسمية» في شأنه: والشيخ الناصر لدين الشيعة، وكتب بعض تلامذته في الهامش: إشارة إلى توقفه دام ظله في تبصره، فإنه كان زيديا وزعم بعض أنه تبصر.
وقد رد الصدر الكبير امير رفيع الدين في رد شرعة التسمية المذكور [على هذا الزعم] بأحسن وجه.
أقول: والحق تشيعه، لتصريحه في كتاب كشف الغمة بذلك، وقد قال فيه أيضا في أحوال المهدي (عليه السلام): قال علي بن عيسى عفى الله عنه: أما أصحابنا الشيعة فلا يصححون- الخ. نعم رأيت نسخة من كتاب «كشف الغمة» في تبريز وكان من مؤلفات
صفحة ١٢
علماء الزيدية، فالاشتباه نشأ من اتحاد اسم الكتاب [1].
قال العلامة المجلسي:
كتاب «كشف الغمة» للشيخ الزكي علي بن عيسى الإربلي .. من أشهر الكتب، ومؤلفه من علماء الإمامية المذكورين في سند الإجازات [2].
قال الأدفوي:
كان شيعيا، إلا أنه متأدب مع علماء السنة ويوافقهم في عقائدهم [3].
أقول: فلنستمع إلى الإربلي نفسه- بعد أن ترجم للأئمة إلى الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)- حيث يقول في قصيدته الرائية التي أوردها في آخر كتابه «كشف الغمة» مجاهرا بحبه لأهل البيت (عليهم السلام) ومصرحا بأنه متبع لهم وهو على علم أنه مصيب بعقيدته فيهم:
أنا عبد لكم أدين بحبي
لكم الله ذا الجلال الكبيرا
عالم بأنني أصبت وأن الله
يؤلي لطفا وطرفا قريرا
مال قلبي إليكم في الصبى
الغض وأحببتكم وكنت صغيرا
وتوليتكم وما كان في أهلي
ولي مثلي فجئت شهيرا
أظهر الله نوركم فأضاء الأفق
لما بدا وكنت بصيرا
فهداني إليكم الله لطفا بي
وما زال لي وليا نصيرا
* * *
هذه القصيدة، وهذه الأبيات خاصة، هي القول الفصل في مذهب الرجل، وليس وراءها قول.
ولعله يشير بقوله «وما كان في أهلي ولي مثلي» إلى أن عشيرته لم تتمذهب بمذهب الإمامية، ومنه نشأ القول بكونه من الزيدية ثم استبصر.
قالوا فيه
اتفق مترجمو الإربلي على الثناء عليه والإشادة بعلمه وأدبه وفضله، ووصفوه
صفحة ١٣
بأوصاف تنم عن مكانته الرفيعة عند معاصريه ومنزلته السامية عند من أتى بعده من أصحاب التراجم، فلم تر من يخدش في علمه ودينه ورفيع خلقه، ولم تجد من يغمز في سلوكه الفردي والاجتماعي، وهذا يدل على عقله الوافر ومحافظته على الآداب مع من كان يعاشره، كما يدل على قيمة ما خلفه من المؤلفات والكتب التي اعتنى بها العلماء من بعده.
قال بدر الدين يوسف الذهبي الدمشقي يمدحه:
لو لا غرامك بالألحاظ والمقل
وبالقدود التي تسبيك بالميل
ما بت ترعى السهى شوقا إلى قمر
بالقلب لا الطرف ثاو غير منتقل
والعيس تحت حدوج الغيد غادية
تشكو الكلال من الأحداج والكلل
وقد تغنى لها الحادي فأطربها
وهنا على هضبات الرمل بالرمل
يحملن كل هضيم الكشح ذي هيف
وكل أحوى رشيق القد معتدل
إذا سطى قلت شبل من بني أسد
وإن رنا قلت رام من بني ثعل
أبادني طرفه قبل العذول فقل
ت السبق للسيف ليس السبق للعذل
فعد يا صاح عن دمع الكئيب فما
أطله اليوم ما يهمي على طلل
واستعطف الريح من وادي الأراك فقد
ضنت على الصب بالإبلال والبلل [1]
* * *
وقال ابن شاكر الكتبي:
«الصاحب بهاء الدين ابن الأمير فخر الدين الإربلي، المنشئ الكاتب البارع، له شعر وترسل، كان رئيسا .. وكان صاحب تجمل وحشمة ومكارم، وفيه تشيع، وكان أبوه واليا بإربل .. وخلف لما مات تركة عظيمة نحو ألفي ألف درهم تسلمها ابنه أبو الفتح ومحقها ومات صعلوكا» [2].
وهكذا وصفه الصفدي، وأضاف عليه: «وقد أفرد له العز الاربلي ترجمة في جزء كبير» [3].
وقال الأدفوي جعفر بن ثعلب:
صفحة ١٤
«كان شيعيا، إلا أنه متأدب مع علماء السنة ويوافقهم في عقائدهم [1]، وكان كريما متواضعا، وله مجلس ببغداد يجلس فيه طرفي النهار ويجتمع عنده الفضلاء وتجري بينهم بحوث في أنواع من العلوم» [2].
وقال ابن العماد الحنبلي:
«الصدر الكبير المنشئ .. له الفضيلة التامة والنظم الرائق والنثر الفائق، صنف مقامات حسنة ورسالة الطيف» [3].
وقال الحر العاملي:
«كان عالما فاضلا محدثا ثقة شاعرا أديبا منشئا، جامعا للفضائل والمحاسن، له شعر كثير في مدائح الأئمة (عليهم السلام)» [4].
وقال ميرزا عبد الله أفندي:
«الوزير الكبير والشيخ الخبير ... صاحب الفضائل الجمة، والعالم الجليل الذي كشف الغمة، وأزال الحيرة عن الامة» [5].
وقال الفضل بن روزبهان:
«اتفق جميع الإمامية على أن علي بن عيسى من عظمائهم، والأوحدي النحرير من جملة علمائهم، لا يشق عباره ولا يتعدى آثاره، وهو المعتمد المأمون في النقل» [6].
وقال السيد الخوانساري:
«كان من أكابر محدثي الشيعة، وأعاظم علماء المائة السابعة، وله الرواية عن السيد رضي الدين .. وخلق كثير من أعاظم علماء الفريقين» [7].
وقال السيد حسن الصدر الكاظمي:
صفحة ١٥
«بهاء الدين، كان من أئمة الأدب والنحو واللغة والإنشاء» [1].
وقال خير الدين الزركلي:
«منشئ مترسل من الشعراء، كتب لمتولي إربل ثم خدم ببغداد في ديوان الإنشاء، له كتب أدبية» [2].
وقال الشيخ عباس القمي:
«بهاء الدين أبو الحسن، من كبار علماء الإمامية، العالم الفاضل الشاعر الأديب، المنشئ الحرير المحدث الخبير، الثقة الجليل، أبو الفضل والمحاسن الجمة، صاحب كتاب الغمة، كتاب نفيس جامع حسن، ولصاحبه بيان في تأويل ما نسب الأئمة (عليهم السلام) إلى أنفسهم المقدسة من الذنب والخطأ والعصيان مع عصمتهم» [3].
وقال الشيخ آقا بزرك الطهراني:
«الوزير الصاحب الكاتب الأديب .. المولى الصدر الكبير المعظم، مولى الأيادي ملك الفضلاء، واسطة العقد» [4].
وقال العلامة الأميني:
«فذ من أفذاذ الامة، وأوحدي من نياقد علمائها، بعلمه الناجع وأدبه الناصع يتبلج القرن السابع، وهو في أعاظم العلماء قبلة في أئمة الأدب، وإن كان به ينضد جمان الكتابة وتنظم عقود القريض. وبعد ذلك كله هو أحد ساسة عصره الزاهي، ترنحت به أعطاف الوزارة وأضاء دستها، كما ابتسم به ثغر الفقه والحديث، وحميت به ثغور المذهب» [5].
وقال الاستاذ عبد الله الجبوري:
«برع الإربلي في تدبيج كلم رسالته هذه (رسالة الطيف) براعة رفيعة، قامت دليلا على تمكنه في فن الإنشاء والترسل، وكأنه أراد أن يبين عن مكنون أدبه العالي وعن أصالته الفنية في الإنشاء، ويبرهن على عبقريته في صوغ الكلام، ومكنته في
صفحة ١٦
صناعة الحرف، وثروته الجبارة في المفردات» [1].
أدبه ونثره
الإربلي أديب ناضج الأدب، يمر على القصائد والأبيات التي ينقلها في مؤلفاته الأدبية مترويا فيها ومستخرجا ما أبدع الشاعر فيها من المعاني الطريفة والنكات المستملحة الظريفة، فيقرظها مع ذكر ما فيها من محاسن الإشارات ولطائف الكنايات، وربما ينقد بعضها بما يعن له من النقد الأدبي، وهو بالإضافة إلى ذلك يشرح ما يحتاج إلى الشرح والتوضيح من غريب اللغة وما دق معناه وخفي مرماه من مقاصد الشاعر، وبذلك يوجه قارئه إلى ما صح لديه مما ربما يخفى على القارئ [2].
هذا، ولا يخفي أديبنا شديد ابتهاجه ببعض ما ينقله من الشعر الجزل الرائع، فيقول مثلا: «هذا هو الشعر الذي تطرب له النفوس فرحا ومسرة، ويلوح على وجه المعاني الرائقة غرة، وما عسى أن يقال في شيخ الصناعة وفارس البراعة» [3].
وعند النقد يصارح صاحبه بنقده، وربما خالطته شدة في القول ولحن لا يخلو من السخرية والاستهزاء، فنراه يقول في بيت سعيد بن حميد الكاتب «دموع صب سفحت في خد»، يقول: لو قال «دموع حب» لكان أنسب وأدل على المعنى، إذ ليس من المعلوم المستعمل أن يشبه الصب بالورد، ولكن هذا يحتاج إلى ذهن نقاد وخاطر وقاد، فيضع الهناء مواضع النقب، ويفرق بين ذوي العمائم وذوات النقب [4].
وفي قول ابن الحنفي «لقتل الغمض في مقلتي وهنا» يقول: ولو قال «لقتل الغمض في مقلتي وسنى» كان أجود وأكثر ملائمة، وكأنه به قد خاف من أن يصف مقلته بأنها وسناء، وليت شعري لو أنها كذلك وإلا أي شيء كان يقتل البرق في جفنه، وفي قوله «الغمض» دليل على ما فر منه [5].
ويعارض أبا هلال العسكري، فيقول: هذه الأبيات قد استحسنها أبو هلال،
صفحة ١٧
والأقسام التي فيها يمجها طبعي وينفر عنها حتى يعافها نقدي [1].
قال محققا التذكرة: ويقدم لكل باب من أبوابه بمقدمة يظهر فيها براعته الفنية، وبأسلوب مسترسل وعبارات مسجوعة، وهي صورة لعصره الذي برع فيه أقطاب هذا الاتجاه، وتميز أدب الفترة بهذا الضرب الفني. وتأتي بعض إشاراته وهي تقف عند مسائل نقدية تتعلق باستخدام ألفاظ واستعمال مفردات وتقويم عبارات. ومن الطريف أن نجد المؤلف يخالف النقاد القدامى والبلاغيين في بعض آرائهم، فإذا استحسنوا أبياتا من الشعر وجدناه لا يجري مجراهم في الإعجاب أو المتابعة، وإنما يظهر رأيه بصراحة ويعبر عن موقفه بصورة معاكسة، فإذا ذكر أبياتا لزهير مثلا قال: إن هذه الأبيات قد استحسنها أبو هلال، والأقسام التي فيها يمجها طبعي وينفر عنها حتى يعافها نقدي، والمؤلف لا يقف عند حدود الاستشهاد، أو تنتهي مهمته عند حدود النقل غير الواعي، وإنما يجد في كل باب من أبوابه استجابة يغنيها بشعره، والتفاتة تحيط بما لم يعثر عليه عند شعراء الاستشهاد [2].
وبعد: فالإربلي أديب قوي العارضة، تذوق الأدب منذ نشأته الاولى، وقد مارسه طيلة حياته، ناظما وناثرا وناقدا ماهرا، لا يعوزه التعبير ولا يصد طريقه وعورة التقرير. تولى كتابة الإنشاء في ديوان السلطان سنين حتى عد من أجلاء المنشئين.
وفيما يلي ننقل سطورا من نثره الدارج في عصره، ليلمس القارئ قوة تعبيره وتمكنه في الأدب العربي:
«ولي طبيعة تصبو إلى زمن الربيع، وتتشوف إلى النبات المريع، أجد من نفسي نشاطا في أيامه، ويهيجني نشر رنده وخزامه، وأبتهج ببنانه وعراره، وأطرب لدرهمه وديناره، واستنشئ رياه ويشوقني محياه، ويروقني منظره ومخبره، ويرق لي أصيله وسحره، ما تفتقت أكمامه إلا تحرك وجد القلب وغرامه، ولا فتح نواره إلا وأضرم في الحشا ناره ...».
«ولم يكن عندي إذ ذاك باعث غرام، وليس هم في غلامة أو غلام، لا سبيل علي لسلطان البطالة، ولا طريق على قلبي لغزال ولو كان كالغزالة، أعجب ممن يهيم وجدا،
صفحة ١٨
وأستغرب متى شكا عاشق هجرا وصدا، وأفوق إلى توبة وجميل سهام كلام، وأسفه رأي قيس وعروة بن حزام، أعد ما نقل من أخبار هم زورا ومينا، وأستبعد من عاذل أن يجلب حينا ..» [1].
شعره وشاعريته
يستعرض الإربلي في أول مقدمة كتابه «التذكرة الفخرية» أهمية الشعر، ويعتبره من أعظم آداب العرب، ويأتي بنماذج طريفة من رفعة مكان بعض الناس أو سقوطها بسبب بيت أو أبيات قيل فيه مدحا أو ذما، فيسير ثناء الشخص على الألسن لمدح شاعر له أو تذمه العامة لقولة قالها فيه شاعر. كأنه بهذا الاستعراض يريد دفع القارئ إلى الاهتمام بهذه الميزة الأدبية وتشجيع ذوي القرائح لممارستها.
ويبدو من قراءة كتبه الأدبية أنه كان كثير المزاولة لشعر الشعراء- جاهليهم وإسلاميهم، قديمهم ومتأخريهم- له دأب على سبر دواوينهم وما أثر عنهم في الكتب الأدبية العامة، وعند الاستشهاد بأبياتهم يصرح برأيه فيها وربما نقدها بالنقد الأدبي الواعي. وكثيرا ما يذكر من أين أخذت المعاني، ويدل على السرقات الشعرية إن صح هذا التعبير، وذلك لمعرفته الجيدة بمواقع الإجادة فيها والمعاني المسبوقة في شعر المتقدمين، وهذا يدل على خبرته التامة بهذه الصنعة ومعالجته الطويلة لها وذوقه المرهف فيها.
عانى نظم الشعر منذ أيام الصبا كما كرر التصريح بذلك في أكثر من موضع من مؤلفاته [2]، ولطول مدة شاعريته نراه مكثرا له نظم وافر في مختلف الأغراض الشعرية التي اعتاد الشعراء تطرقها والنظم فيها.
اقتصر في كتبه على الأكثر من شعره بنقل أبيات يسيرة من قصائد ومقاطيع نظمها في مختلف المناسبات، وبهذا فوت علينا جانبا كبيرا من شعره ولم نطلع إلا على النزر اليسير منه.
له اهتمام ملحوظ بالتغزل في الشعر، فإن القسم الأوفر مما أورده من شعره في
صفحة ١٩
كتابه «التذكرة الفخرية» هو الغزل، ولعل ذلك لأن السائد في عصره أن يبدأ الشعراء قصائدهم- وخاصة ما يقولونه في المديح- بالغزل والتشبيب بحسان الوجوه وهيفاء القدود، ولهذا يكثر في قصائدهم هذا النوع من الشعر. ولكن شاعرنا- مع هذا- كأنه يحتشم من نقل بعض ما قاله في الغزل، فتراه يعتذر بجملة «وقد اقتضت الحال ذلك» عند ما ينقل مقطوعته القافية التي أولها:
جارية من ساكني العراق
تضرم نار الهائم المشتاق
* * *
يقول الأستاذ عبد الله الجبوري: وشعره يمتاز بالأصالة والقوة في الوجدانيات، ويبدو نظما متكلفا أثر الصنعة والتكلف بين في مدحه لآل البيت (عليهم السلام) [1].
مؤلفاته
* كشف الغمة في حياة النبي الكريم والسادة المعصومين (عليهم السلام) وجانب من فضائلهم ومناقبهم، وهو من أهم المصادر المعروفة في هذا الصدد بما جمع من مختلف كتب المذاهب المعتنى بها، طبع في إيران وبيروت طبعات كثيرة، وهو الماثل بين يدي القارئ الكريم في طبعته الجديدة.
* رسالة الطيف في وصف الطيف وطول الليل للعاشقين ومعاناة السهد ومكابدة السهر، ووصف قصر ليل الوصال شعرا ونثرا. طبع في بغداد سنة 1388 بتحقيق الأستاذ عبد الله الجبوري، وطبع في بيروت بتحقيق الأستاذ محمد سعيد الطريحي ولم أره.
* التذكرة الفخرية كتاب أدبي قيم جمع بين دفتيه جملة صالحة من الطرائف والأشعار مع النقد الأدبي لها، ألفه لفخر الدولة والدين منوجهر بن أبي الكرم الهمذاني في سنة 671. طبع في بغداد سنة 1404 بتحقيق الدكتور نوري حمودي القيسي والدكتور حاتم صالح الضامن.
* المقامات الأربع
صفحة ٢٠
هي: البغدادية، الدمشقية، الحلبية، المصرية.
* ديوان شعره كان له ديوان مدون وفقد مع الأحداث، وجمع له الشيخ محمد السماوي ديوانا في سنة 1363 لا يتعدى عن قصائده الموجودة في «كشف الغمة»، ومنه نسخة بخط الجامع في مكتبة الإمام الحكيم بالنجف رقم (612 م) [1]. وجمعت أنا شعره من كتبه في ديوان ماثل للطبع يعتبر ثالث محاولة لجمع شعر الإربلي فيما نعلم.
* جلوة العشاق وخلوة المشتاق ذكره بروكلمان في تاريخ الأدب العربي 1/ 714 الطبعة الألمانية، ومنه نسخة في دار الكتب الوطنية بباريس رقم (3551).
سمي عند كحالة «العشاق وخلوة المشتاق» [2]، وهو خطأ بين.
* نزهة الأخيار في ابتداء الدنيا وقدر القوي الجبار ذكره الأستاذ عمر رضا كحالة [3].
* عدة رسائل ذكرت هكذا في جملة من المصادر ولم نعرف تفصيلها.
* حياة الإمامين زين العابدين ومحمد الباقر (عليهما السلام) مستل من «كشف الغمة»، وطبع في النجف الأشرف سنة 1951 م بتقديم الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء.
* حياة الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) مستل أيضا من «كشف الغمة»، وطبع في النجف سنة 1951 م.
نسب السيد حسين المجتهد الكركي إلى الإربلي كتابا باسم «الثاقب في المناقب»، وذكر ميرزا عبد الله أفندي أنه غير كتاب «كشف الغمة»، ثم استدرك في الهامش أن الثاقب من مؤلفات بعض تلامذة محمد بن الحسن، وهو قريب من عصر الشيخ الطوسي [4].
صفحة ٢١
قال الشيخ آقا بزرك الطهراني: «الثاقب في المناقب» للشيخ محمد بن علي الجرجاني معاصر ابن شهر اشوب .. نحتمل أنه «ثاقب المناقب» لمحمد بن علي بن حمزة الآتي. ثم قال: «ثاقب المناقب» للشيخ عماد الدين أبي جعفر محمد بن علي بن حمزة المشهدي الطوسي المعروف بابن حمزة [1].
ونسب الاستاذ عباس العزاوي إلى الإربلي كتاب «حدائق البيان في شرح التبيان في المعاني والبيان»، وهو وهم منه [2].
وفاته
توفي ببغداد سنة 692 وأقبر بداره المطلة على دجلة.
وذكر ابن العماد الحنبلي وفاته في حوادث سنة 683 [3]، وابن الفوطي أرخ وفاته بسنة 693 [4]، وهما وهم أو تحريف.
قال العلامة الأميني: وكون وفاته في بغداد ودفن بداره المطلة على دجلة في قرب الجسر الحديث، من المتسالم عليه، ولم يختلف فيه اثنان، وكان قبره معروفا يزار إلى أن ملك تلك الدار في هذه الآونة الأخيرة من قطع سبيل الوصول إليه وإلى زيارته [5].
وقال الأستاذ الجبوري: كانت داره تعرف ب «كارپردازخانه»، وكان يسكنها السفير الإيراني في بغداد، كما حدثني بذلك الشيخ العلامة آغا بزرك الطهراني والذي زارها في سنة 1345، وقد هدمت هذه الدار ولم يبق لها أثر في أيامنا هذه [6].
صفحة ٢٢
عملنا في الكتاب
قوبلت هذه النسخة مع عدة نسخ إليك ذكر أسمائها 1- المخطوطة التي اعتمدنا عليها اعتمادا كاملا مرقمة (1801) استان قدس رضوي. وتاريخ نسخها يوم الثلاثاء سلخ جمادى الأولى سنة 709 ه والموجودة في مركز إحياء التراث الإسلامي في قم المقدسة 2- النسخة المطبوعة في تبريز في سنة 1381 ه. ق وهي بدورها اعتمدت على نسخ عديدة منها:
أ- نسخة عتيقة مخطوطة لخزانة كتب سماحة العلامة آية الله السيد شهاب الدين المرعشي النجفي رضوان الله عليه.
ب- نسخة مخطوطة مصححة للعالم الجليل السيد جلال الدين الارموي المشتهر ب (محدث) تأريخ كتابتها سنة 1083 وهي نسخة ثمينة.
ج- النسخة المطبوعة بالطبع الحجري بطهران سنة 1294.
ولا يفوتني أن أشكر سماحة السيد أحمد الحسيني أدام الله عزه من مساعدته لنا بتهيئة المصورة للنسخة الأولى والمؤرخة بسنة 709 ه راجين له طول العمر لخدمة الطائفة الحقة المحقة.
ونشكر مركز إحياء التراث الإسلامي على ما أبدوه لنا من مساعدة في تصوير نسخة الأولى.
ونشكر الأخوين السيد علي ومحمد معلم لما بذلاه من جهد في ترصيف الحروف وإخراجه بالشكل الجميل.
الراجي عفو ربه محمد صادق كتبي
صفحة ٢٣
صورة الصفحة الاولى من نسخة استان قدس
صفحة ٢٤