كراهية وصداقة وغزل وحب وزواج

محمد عبد النبي ت. 1450 هجري
70

كراهية وصداقة وغزل وحب وزواج

تصانيف

كانت ألفريدا تتحدث إلى أبي بشأن الأمور التي تجري في العالم من حولنا، بشأن السياسة. كان أبي يقرأ الصحف، ويستمع إلى الراديو، وله آراؤه الخاصة في تلك الأمور، ولكنه نادرا ما أتيحت له الفرصة ليتكلم عنها. أزواج العمات كانت لهم آراؤهم أيضا، ولكنها كانت مقتضبة وثابتة ومعربة عن شك أبدي في كل الشخصيات العامة، وعلى الخصوص جميع الأجانب. وهكذا، طوال الوقت لا يمكن أن تستخلص منهم أكثر من أصوات أنفية مزدرية. كانت جدتي صماء، ولا أحد يعرف مقدار ما كانت تعرف أو ما رأيها في أي شيء، أما العمات أنفسهن فقد كن فخورات تماما بمقدار عدم اطلاعهن أو عدم إبدائهن لأي اهتمام بتلك الشئون العامة. كانت أمي معلمة في مدرسة، وكانت على استعداد لأن تحدد مواقع جميع دول القارة الأوروبية على الخريطة، ولكنها كانت ترى كل شيء من خلال غلالتها الشخصية المسدلة على عينيها، حيث يتم تضخيم شأن الإمبراطورية البريطانية والعائلة الملكية لأقصى حد بحيث يبدو كل ما عدا هذا تافها بلا قيمة، ويلقى به إلى كومة أشياء مختلطة يسهل عليها أن تتجاهل وجودها.

لم تكن وجهات نظر ألفريدا تبتعد كثيرا عن تلك الخاصة بزوجي عمتي، أو هكذا بدا الأمر. ولكنها بدلا من إطلاق نخرات الاستهانة من أنفها وترك الموضوع يمر مر الكرام، كانت تطلق ضحكتها المستهزئة، وتروي نوادر بشأن رؤساء الوزراء والرئيس الأمريكي وجون إل لويس وعمدة مونتريال؛ نوادر كانوا يظهرون فيها جميعا بصورة سيئة. كانت تروي نوادر بشأن العائلة الملكية كذلك، ولكن هنا كانت تميز ما بين الأخيار مثل الملك والملكة والسيدة الجميلة دوقة كنت، وبين الأشرار مثل آل ويندسور والملك العجوز إيدي، الذي - كما قالت - يعاني داء ما، وقد ترك على عنق زوجته علامات من أثر محاولته لخنقها، وهو سر ارتدائها لعقود اللآلئ دائما وأبدا. كان هذا التمييز بين الأخيار والأشرار منهم يتفق إلى حد كبير مع آراء أمي، ولكنها نادرا ما كانت تتحدث بشأنها، ولهذا فلم تكن تعترض، على الرغم من أن الإشارة الضمنية إلى مرض الزهري جعلتها تجفل مرتاعة.

أما أنا فكنت أبتسم لهذا التلميح، عن دراية، بثقة طائشة.

كانت ألفريدا تطلق على الروسيين أسماء مضحكة؛ ميكويان-سكاي، والعم جوي- سكاي. كانت تؤمن بأنهم كانوا يخدعون الجميع لإلهائهم، وأن الأمم المتحدة مهزلة لن تفلح أبدا، وأن اليابان ستنهض من جديد، وأنه يجب الإجهاز عليها تماما عندما تسنح الفرصة. لم تكن تثق في مقاطعة كيبيك كذلك، أو في البابا. كانت لديها مشكلة مع السيناتور مكارثي؛ كانت تود أن تقف في جانبه، ولكن كونه كاثوليكيا كان عقبة أمامها. كانت تسخر من البابا، وكانت تستمتع بالتفكير في كل هؤلاء اللصوص والأنذال الذين يملئون العالم.

في بعض الأحيان كانت تبدو كما لو أنها تقدم مشهدا مسرحيا؛ استعراضا، ربما بغرض إغاظة أبي؛ لتكدير صفائه - كما قال هو نفسه - وإذكاء نيرانه، ولكن ليس لأنها لم تكن تحبه أو حتى أرادت مضايقته، بل على العكس تماما، فلعلها كانت تشاكسه كما تشاكس الفتيات الصغيرات الشبان في المدرسة، حين تصير الخلافات مصدرا غريبا للسرور لكلا الجانبين، والإساءات تتخذ سمت المغازلة. كان أبي يجادلها، بصوت لطيف وثابت على الدوام، ومع ذلك كان واضحا أنه كان يقصد استفزازها. أحيانا كان يتراجع ويحول مساره، ويقول إنها ربما تكون على صواب؛ فمع اعتبار عملها في صحيفة، قد يكون لديها من مصادر المعلومات ما لا يملكه هو. كان يقول لها: لقد صححت أفكاري، وإن كان لدي عقل فلا بد أن أكون ممتنا لك. فترد هي قائلة: لا تصب علي حمولة الهراء تلك. «آه منكما أنتما الاثنتين!» هكذا قالت أمي، بيأس متهكم وربما بقوى مستنزفة حقا، فتخبرها ألفريدا بأن تذهب وترقد قليلا، فهي تستحق ذلك بعد هذا العشاء الفاخر، على أن أعتني أنا وهي بغسل الصحون. كانت أمي معرضة للإصابة برعشة في ذراعها اليمنى، وتصلب في أصابعها، وكانت تعتقد أن هذا لا يصيبها إلا حين تكون منهكة تماما.

بينما كنا نعمل في المطبخ حدثتني ألفريدا عن المشاهير؛ الممثلين، وحتى نجوم السينما الثانويين، الذين اعتلوا خشبة المسرح في المدينة التي تعيش فيها. وبصوت خفيض، ومع ذلك تقطعه ضحكاتها المجلجلة المستهترة، كانت تروي لي حكايات عن سلوكياتهم السيئة، عن الشائعات التي تدور حول فضائحهم الخاصة التي لا تتسرب أبدا في المجلات. أتت على ذكر رجال لوطيين، وآخرين يصطنعون لهم نهودا، ومثلث من امرأة ورجلين يعيشون حياة منزلية عادية؛ كل تلك الأمور التي كنت أجد تلميحات إليها في قراءتي، ولكني أصاب بالدوار إذا سمعت عنها في الحياة الحقيقية، حتى ولو من مصدر غير مباشر.

دائما ما لفتت أسنان ألفريدا انتباهي؛ لذلك أحيانا ما كنت أشرد عما تقوله، حتى في أثناء روايتها لتلك الحكايات السرية. كان لكل سن من تلك الأسنان المتبقية في فمها، عند المقدمة، لون مختلف عن لون الأخرى اختلافا هينا، فما من اثنتين متماثلتين. بعضها بلون المينا القوي مع ميل نحو ظلال العاج الداكن، وبعضها كان براقا، مظللا بلون الليلك، ويشع بومضات سريعة من حواف فضية، وبين الحين والآخر بوميض ذهبي. نادرا ما كانت أسنان الناس في تلك الأيام تظهر متينة ومتناسقة كما هو الحال الآن، إلا إذا كانت أسنانا صناعية. ولكن أسنان ألفريدا تلك كانت ذات تفرد استثنائي، منفصلة بوضوح، وكبيرة الحجم. حين كانت ألفريدا تطلق إحدى تهكماتها، وخصوصا تلك المعيبة عن قصد، كانت أسنانها تبدو كما لو أنها تقفز إلى صدارة المشهد مثل حراس القصر، أو محاربين بالرماح ولكن ظرفاء.

قالت العمتان: «دائما ما كانت تعاني مشكلة مع أسنانها، لقد أصابها ذلك الخراج، تذكرن؟ سرى سمه في بدنها كله.»

وكنت أنا أفكر كيف لهن أن يضعن جانبا بضربة واحدة ذكاء ألفريدا وأناقتها، ثم يحولن أسنانها إلى أزمة مؤسفة.

قالتا: «لماذا لا تتخلص منها جميعا وترتاح؟» «غالبا لأنها لا تملك المال الكافي.» هكذا قالت جدتي، لتفاجئ جميع الحاضرين كما كانت تفعل أحيانا بإعلان أنها كانت تتابع الحديث طوال الوقت.

صفحة غير معروفة