فقال أبي، متظاهرا بالنهوض عن مقعده: «هل علي أن أجلب سوط التأديب؟!»
كانت هذه اللحظة سحرية، فكأن ألفريدا قد حولتنا جميعا فصرنا أشخاصا جددا. في الأحوال العادية كانت أمي ستقول إنها لم يكن يعجبها أن ترى امرأة ما تدخن. لم تكن تقول إن هذا يعد فعلا بذيئا، أو لا يليق بالسيدات؛ فقط إنه لم يعجبها. وحين كانت تقول بنبرة محددة إن أمرا ما لم يعجبها فلا يبدو عليها أنها تقدم اعترافا، بل كأنها تستمد معرفة من مصدر حكمة خاص بها، مصدر مسلم به ويكاد يكون مقدسا. وحين كانت تتحدث بهذه النبرة، مع التعبير المصاحب لها الذي يوحي بأنها تنصت إلى أصوات بداخلها، كنت أكرهها للغاية.
أما عن أبي، فقد كان يضربني، في هذه الغرفة ذاتها، ولكن ليس بالسوط كما قال بل بحزامه، لمخالفتي تعليمات أمي وجرح مشاعرها، ولردي عليها الكلمة بالكلمة. الآن بدت تلك الضربات كما لو أنها حدثت فقط في عالم آخر غير هذا.
كانت ألفريدا قد حاصرت والدي وحجمت نفوذهما - وأنا أيضا فعلت مثلها - ولكن رد فعلهما على ما حدث كان لعوبا ودمثا كما لو أن ثلاثتنا حقا - أنا وأبي وأمي - قد سمونا إلى مستوى جديد من الارتياح والثقة. في تلك اللحظة العابرة كان بوسعي أن أراهما - وعلى الخصوص أمي - قادرين على عيش هذه الحالة من خفة الروح وانشراح القلب، حالة نادرا ما كنت أراهما عليها.
كل ذلك بفضل ألفريدا.
دائما ما كان يشار إلى ألفريدا بوصفها فتاة عاملة. جعلها هذا تبدو أصغر سنا من والدي، على الرغم من أنه كان من المعروف أنها في نفس عمريهما تقريبا. وكان يقال أيضا إنها من قاطني المدينة. والمدينة، عند الحديث عنها بهذه الطريقة، يقصد بها المدينة التي عاشت هي واشتغلت فيها. ولكنها كانت تعني شيئا آخر كذلك؛ ليس مجرد تجمع مميز من المباني وأرصفة المشاة وخطوط الترام أو حتى احتشاد الناس معا في الزحام. كان يقصد بها شيء أكثر تجريدا بحيث يمكن الإشارة إليه مرارا وتكرارا، شيء مثل خلية النحل، هائج ولكن منظم، لا يمكن القول إنه غير مجد أو مخادع، بل مقلق وأحيانا يكون خطيرا؛ فالناس لا يذهبون إلى مكان كهذا إلا مضطرين ويكونون سعداء بالخروج منه. وعلى الرغم من ذلك، فالبعض ينجذب إليه، كما انجذبت ألفريدا بالتأكيد منذ وقت طويل، وكما أنجذب أنا الآن، بينما أنفخ دخان سيجارتي وأحاول أن أمسك بها بطريقة غير مبالية، على الرغم من أنها بدت وكأن حجمها راح يتضخم حتى صارت مثل مضرب البيسبول بين أصابعي. •••
لم تكن لأسرتي حياة اجتماعية اعتيادية؛ فلم يأت أشخاص إلى منزلنا لتناول العشاء، فضلا عن الحفلات؛ لعلها كانت مسألة طبقية. أما والدا الشاب الذي تزوجت منه، بعد نحو خمس سنوات من هذا المشهد على مائدة العشاء، فكانا يدعوان إلى حفلات عشاء أشخاصا لا يمتون لهما بصلة قرابة، وكانا هما أنفسهما يذهبان إلى حفلات ما بعد الظهر التي كانا يسميانها، دون أن يحرجهما هذا، حفلات الكوكتيل. كانت حياة تشبه تلك التي كنت أقرأ عنها في القصص بالمجلات، وبدت لي كأنها تضع حموي في عالم يشبه العالم المصور في كتب الحكايات.
ما كانت أسرتي تفعله هو وضع الأطعمة الوافرة على مائدة غرفة الطعام مرتين أو ثلاث مرات كل سنة لضيافة جدتي وعماتي - الشقيقات الكبيرات لأبي - وأزواجهن. كنا نفعل هذا في عيد الميلاد أو عيد الشكر، حين يأتي دورنا في الاستضافة، وربما أيضا كلما أتى لزيارتنا أحد الأقارب المقيمين في جزء آخر من الإقليم، ودائما كان هذا الزائر شخصا أشبه بعمتي وزوجيهما، ولم يكن يشبه - ولو بأهون درجة - ألفريدا.
كنت أنا وأمي نبدأ في إعداد وجبات العشاء تلك قبل موعد الزيارة بيومين؛ فنكوي مفرش المائدة الجيد، الذي كان ثقيلا كأنه لحاف، ونغسل أطقم الصحون الجيدة، التي كانت مستكينة في خزانة الأطقم الصينية فريسة الغبار، ونلمع أقدام مقاعد السفرة، إلى جانب إعداد سلطات الهلام، والفطائر والكعك، التي يجب أن تقدم إلى جانب ديك الحبش المشوي في مركز المائدة، أو لحم الخنزير المطبوخ وأوعية من الخضراوات. كان لا بد من توافر الطعام أكثر مما يمكن أكله بكثير، وأغلب الحديث على المائدة كان يتعلق بالطعام، حيث يبدي الضيوف الثناء على مقدار جودته، وحيث يحثهم المستضيف على تناول المزيد، فيتمنعون هم قائلين إنهم لن يستطيعوا ذلك، فقد أتخمت بطونهم، وعندئذ يلين زوجا العمتين للإلحاح، فيأخذان المزيد، أما العمتان فتأخذان أقل القليل وهما تقولان إنه ينبغي عليهما ألا تفعلا ذلك؛ لأنهما على وشك الانفجار.
ثم بعد ذلك هناك الحلوى.
صفحة غير معروفة