وكان من الممكن قبل أن تلتقي عيناه بعيني خديجة أن يمر الحدث وينطوي كغيره من الأحداث التي مرت وانطوت، لكنه في اللحظة التي التقت عيناه بعيني خديجة، كأنما سقطت عن عينيه غشاوة، وكأنما أفاق لنفسه وأصبح يحس بوطأة ما حدث. لم يدرك أنه تنازل عن شيء كبير فحسب، وإنما هو قد تنازل عن أكبر شيء في نفسه، وأن كيانه كله قد انسحق. لم يكن ثقلا واحدا ذلك الذي سحقه، لم يكن هو ثقل السيد الوكيل وحده وإنما هو ثقل كل المديرين والرؤساء الذين عمل معهم، كل ثقلهم بأجسادهم الضخمة وأوزانهم الثقيلة، كل ثقلهم بمكاتبهم الكبيرة وسجاجيدهم العجمي، وتليفوناتهم الكثيرة السوداء والملونة، وعرباتهم السوداء الطويلة، ولمباتهم الحمراء، وأبوابهم المغلفة بالجوخ الأخضر، والمشايات الحمراء فوق السلالم الرخامية البيضاء، والجدران المتينة العالية والصور المعلقة فوق الجدران بإطاراتها السميكة المذهبة، والمرايات والشماعات والدفايات والقاعات المعبأة بالدخان والطفايات والنجف والدوسيهات واللوائح والدرجات والكادرات والتقارير السرية والبدلات والجزاءات، كلها كلها مجتمعة متراصة في ثقل واحد تدوس وتضغط على كيانه النحيل، وتسحقه وتبططه كرقاقة من صفيح أو كورقة سيجارة. •••
وكانت خديجة لا تزال تحملق في عشماوي، الذي ظل في مكانه يخفي وجهه في بطن السجادة العجمي، وجسده النحيل ممدود في محاذاة المكتب الضخم الذي ارتفع في الحجرة حتى منتصف الجدار، تعلوه بنورة من تحتها جوخ أخضر ومن فوقها لوحة خشبية طويلة نقشت عليها:
ورفع بعضكم فوق بعض درجات
ومن الخلف المكتب يبرز مسند الكرسي الجلدي الكبير.
وربما لم تكن خديجة حتى هذه اللحظة قد تنبهت تماما إلى وجودها أو إلى حقيقة ما حدث، لكنها أفاقت على صوت غريب، نهنهة مكتومة بدأت تعلو لتصبح كنحيب امرأة؛ عشماوي ينتحب ولم تعرف خديجة ما الذي حدث لها، أصبحت وكأنما كانت نائمة وحلمت بكابوس ثم استيقظت، ووجدت نفسها راكعة إلى جوار عشماوي، تربت بيدها على وجهه وتمسح بكفها دموعه، دموع عشماوي زوجها رجلها، مهما حدث فهو عشماوي، هو الوحيد الذي لها في هذه الحياة، عشر سنين تحت سقف واحد، عشر سنين في الحلو والمر معا، وكان الحلو أكثر بكثير من المر. «انهض يا عشماوي.» وبيديها الاثنتين أخذت تلم ملابسه المبعثرة، وبيديها ألبسته البدلة، البدلة التي بسببها فضلته عن كل رجال القرية.
الرجل ذو الأزرار
منذ عشر سنوات تقريبا كانت لي عيادة في بنها، وكنت قد بدأت أنشر ما أكتب، وفي إحدى المجلات نشرت لي قصة بعنوان: «زوجي، لا أحبك»، وبعد أيام قليلة جاءتني سيدة شابة ومعها قصتي ومصمصت شفتيها بما معناه أنها لم تعجبها، ثم تركت لي قصة من تأليفها بقيت في درج مكتبي حتى عثرت عليها أخيرا مطوية كالرسالة القديمة.
زوجي العزيز أمين فاضل عفيفي
قد يدهش بعض الناس حين يرون زوجة تخاطب زوجها باسمه الثلاثي، ولا أظن أن أحدا في أيامنا هذه يحرص على أن يعرف أحدا باسمه الثلاثي، اللهم إلا موظفي مكاتب الأمن والمباحث ورجال البوليس والمحققين في المحاكم وأطباء مكاتب الصحة لاستخراج شهادة الوفاة.
لا أخفي عليك سرا أنني لم أعرف اسمك الثلاثي إلا بعد زواجنا بخمسة أعوام، حين جاء ذلك الشرطي وصاح من خلف شراعة الباب: «أمين فاضل عفيفي.» وقلت لي يومها إنها قضية قديمة أقامتها ضدك أختك فهيمة بسبب استيلائك على العشرة قراريط نصيبها من الميراث.
صفحة غير معروفة