الجزء الأول
على [تصوير نسخه خطى]
مقدمة المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.
الحمد لله الواحد الأحد الفرد الصمد الحي القادر العليم الحكيم تقدس وتعالى عن صفة المخلوقين ذي الجلال والإكرام والإفضال والإنعام والمشيئة النافذة والإرادة الكاملة ليس كمثله شيء وهو السميع البصير لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خالق كل شيء ومالك كل شيء وجاعل كل شيء ومحدث كل شيء و رب كل شيء وأنه يقضي بالحق ويعدل في الحكم ويحكم بالقسط و يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ولا يكلف نفسا إلا وسعها ولا يحملها فوق طاقتها وله الحجة البالغة ولو شاء لهدى الناس أجمعين يدعوا إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .
لا يعجل بالعقوبة ولا يعذب إلا بعد إيضاح الحجة وتقديم الآيات والنذارة لم يستعبد عباده بما لم يبينه لهم ولم يأمرهم إطاعة من لم ينصبه لهم ولم يكلهم إلى أنفسهم واختيارهم وآرائهم بطاعته واختراعهم في خلافته تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
وأشهد أن محمدا(ص)عبده ورسوله وأمينه وأنه بلغ عن ربه ودعا إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة وعمل بالكتاب وأمر باتباعه وأوصى بالتمسك
صفحة ١
به وبعترته الأئمة بعده(ص)وأنهما لن يفترقا حتى يردا عليه حوضه وأن اعتصام المسلمين بهما على المحجة الواضحة والطريقة المستقيمة والحنيفية البيضاء التي ليلها كنهارها وباطنها كظاهرها ولم يدع أمته في شبهة ولا عمى من أمره ولم يدخر عنهم دلالة ولا نصيحة ولا هداية ولم يدع برهانا ولا حجة إلا أوضح سبيلها وأقام لهم دليلها لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل و ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة .
وأشهد أنه ليس بمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم وأن الله يخلق ما يشاء ويختار وأنهم لا يؤمنون حتى يحكموه فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضاه ويسلموا تسليما وأن من حرم حلالا ومن حلل حراما أو غير سنة أو نقص فريضة أو بدل شريعة أو أحدث بدعة يريد أن يتبع عليها ويصرف وجوه الناس إليها فقد أقام نفسه لله شريكا ومن أطاعه فقد ادعى مع الله ربا و باء بغضب من الله ومأواه النار وبئس مثوى الظالمين و حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.
قال الشيخ الفقيه أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي مصنف هذا الكتاب أعانه الله على طاعته إن الذي دعاني إلى تأليف كتابي هذا أني لما قضيت وطري من زيارة علي بن موسى الرضا(ص)رجعت إلى نيسابور وأقمت بها فوجدت أكثر المختلفين إلي من الشيعة قد حيرتهم الغيبة ودخلت عليهم في أمر القائم(ع)الشبهة وعدلوا عن طريق التسليم إلى الآراء والمقاييس فجعلت أبذل مجهودي في إرشادهم إلى الحق وردهم إلى الصواب بالأخبار الواردة في ذلك عن النبي والأئمة(ص)حتى ورد إلينا من بخارا شيخ من أهل الفضل والعلم والنباهة ببلد قم طالما تمنيت لقاءه و
صفحة ٢
اشتقت إلى مشاهدته لدينه وسديد رأيه واستقامة طريقته وهو الشيخ نجم الدين أبو سعيد محمد بن الحسن بن محمد بن أحمد بن علي بن الصلت القمي أدام الله توفيقه وكان أبي يروي عن جده محمد بن أحمد بن علي بن الصلت (قدس الله روحه) ويصف علمه وعمله وزهده وفضله وعبادته وكان أحمد بن محمد بن عيسى في فضله وجلالته يروي عن أبي طالب عبد الله بن الصلت القمي رضي الله عنه وبقي حتى لقيه محمد بن الحسن الصفار وروى عنه فلما أظفرني الله تعالى ذكره بهذا الشيخ الذي هو من أهل هذا البيت الرفيع شكرت الله تعالى ذكره على ما يسر لي من لقائه وأكرمني به من إخائه وحباني به من وده وصفائه فبينا هو يحدثني ذات يوم إذ ذكر لي عن رجل قد لقيه ببخارا من كبار الفلاسفة والمنطقيين كلاما في القائم(ع)قد حيره وشككه في أمره لطول غيبته وانقطاع أخباره فذكرت له فصولا في إثبات كونه(ع)ورويت له أخبارا في غيبته عن النبي والأئمة(ع)سكنت إليها نفسه وزال بها عن قلبه ما كان دخل عليه من الشك والارتياب والشبهة وتلقى ما سمعه من الآثار الصحيحة بالسمع والطاعة والقبول والتسليم وسألني أن أصنف له في هذا المعنى كتابا فأجبته إلى ملتمسه ووعدته جمع ما أبتغي إذا سهل الله لي العود إلى مستقري ووطني بالري.
فبينا أنا ذات ليلة أفكر فيما خلفت ورائي من أهل وولد وإخوان ونعمة إذ غلبني النوم فرأيت كأني بمكة أطوف حول بيت الله الحرام وأنا في الشوط السابع عند الحجر الأسود أستلمه وأقبله وأقول أمانتي أديتها وميثاقي تعاهدته لتشهد لي بالموافاة فأرى مولانا القائم صاحب الزمان(ص)واقفا بباب الكعبة فأدنو منه على شغل قلب وتقسم فكر فعلم(ع)ما في نفسي بتفرسه في وجهي فسلمت عليه فرد علي السلام ثم قال لي لم لا تصنف كتابا في الغيبة حتى تكفى ما قد همك فقلت له يا ابن رسول الله قد صنفت في الغيبة أشياء فقال(ع)ليس على ذلك السبيل آمرك أن تصنف ولكن صنف الآن كتابا في الغيبة واذكر فيه غيبات الأنبياء ع.
صفحة ٣
ثم مضى(ص)فانتبهت فزعا إلى الدعاء والبكاء والبث والشكوى إلى وقت طلوع الفجر
. فلما أصبحت ابتدأت في تأليف هذا الكتاب ممتثلا لأمر ولي الله وحجته مستعينا بالله ومتوكلا عليه ومستغفرا من التقصير وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب .
[بحوث في الإمامة والعصمة]
الخليفة قبل الخليقة
أما بعد فإن الله تبارك وتعالى يقول في محكم كتابه وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة الآية فبدأ عز وجل بالخليفة قبل الخليقة فدل ذلك على أن الحكمة في الخليفة أبلغ من الحكمة في الخليقة فلذلك ابتدأ به لأنه سبحانه حكيم والحكيم من يبدأ بالأهم دون الأعم وذلك تصديق
قول الصادق جعفر بن محمد(ع)حيث يقول الحجة قبل الخلق ومع الخلق وبعد الخلق
. ولو خلق الله عز وجل الخليقة خلوا من الخليفة لكان قد عرضهم للتلف ولم يردع السفيه عن سفهه بالنوع الذي توجب حكمته من إقامة الحدود وتقويم المفسد واللحظة الواحدة لا تسوغ الحكمة ضرب صفح عنها إن الحكمة تعم كما أن الطاعة تعم ومن زعم أن الدنيا تخلو ساعة من إمام لزمه أن يصحح مذهب البراهمة في إبطالهم الرسالة ولو لا أن القرآن نزل بأن محمدا(ص)خاتم الأنبياء لوجب كون رسول في كل وقت فلما صح ذلك ارتفع معنى كون الرسول بعده وبقيت الصورة المستدعية للخليفة في العقل وذلك أن الله تقدس ذكره لا يدعو إلى سبب إلا بعد أن يصور في العقول حقائقه وإذا لم يصور ذلك لم تتسق الدعوة ولم تثبت الحجة وذلك أن الأشياء تألف أشكالها وتنبو عن أضدادها فلو كان في العقل إنكار الرسل لما بعث الله عز وجل نبيا قط.
مثال ذلك الطبيب يعالج المريض بما يوافق طباعه ولو عالجه بدواء يخالف طباعه أدى ذلك إلى تلفه فثبت أن الله أحكم الحاكمين لا يدعو إلى سبب إلا وله في
صفحة ٤
العقول صورة ثابتة وبالخليفة يستدل على المستخلف كما جرت به العادة في العامة والخاصة وفي المتعارف متى استخلف ملك ظالما استدل بظلم خليفته على ظلم مستخلفه وإذا كان عادلا استدل بعدله على عدل مستخلفه فثبت أن خلافة الله توجب العصمة ولا يكون الخليفة إلا معصوما
وجوب طاعة الخليفة
ولما استخلف الله عز وجل آدم في الأرض أوجب على أهل السماوات الطاعة له فكيف الظن بأهل الأرض ولما أوجب الله عز وجل على الخلق الإيمان بملائكة الله وأوجب على الملائكة السجود لخليفة الله ثم لما امتنع ممتنع من الجن عن السجود له أحل الله به الذل والصغار والدمار وأخزاه ولعنه إلى يوم القيامة علمنا بذلك رتبة الإمام وفضله وأن الله تبارك وتعالى لما أعلم الملائكة أنه جاعل في الأرض خليفة أشهدهم على ذلك لأن العلم شهادة فلزم من ادعى أن الخلق يختار الخليفة أن تشهد ملائكة الله كلهم عن آخرهم عليه والشهادة العظيمة تدل على الخطب العظيم كما جرت به العادة في الشاهد فكيف وأنى ينجو صاحب الاختيار من عذاب الله وقد شهدت عليه ملائكة الله أولهم وآخرهم وكيف وأنى يعذب صاحب النص وقد شهدت له ملائكة الله كلهم.
وله وجه آخر وهو أن القضية في الخليفة باقية إلى يوم القيامة ومن زعم أن الخليفة أراد به النبوة فقد أخطأ من وجه وذلك أن الله عز وجل وعد أن يستخلف من هذه الأمة الفاضلة خلفاء راشدين كما قال جل وتقدس وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ولو كانت قضية الخلافة قضية النبوة أوجب حكم الآية أن يبعث الله عز وجل نبيا بعد محمد(ص)وما صح قوله وخاتم النبيين فثبت
صفحة ٥
أن الوعد من الله عز وجل ثابت من غير النبوة وثبت أن الخلافة تخالف النبوة بوجه وقد يكون الخليفة غير نبي ولا يكون النبي إلا خليفة.
وآخر هو أنه عز وجل أراد أن يظهر باستعباده الخلق بالسجود لآدم(ع)نفاق المنافق وإخلاص المخلص كما كشفت الأيام والخبر عن قناعيهما أعني ملائكة الله والشيطان ولو وكل ذلك المعنى من اختيار الإمام إلى من أضمر سوءا لما كشفت الأيام عنه بالتعرض وذلك أنه يختار المنافق من سمحت نفسه بطاعته والسجود له فكيف وأنى يوصل إلى ما في الضمائر من النفاق والإخلاص والحسد والداء الدفين.
ووجه آخر وهو أن الكلمة تتفاضل على أقدار المخاطب والمخاطب فخطاب الرجل عبده يخالف خطاب سيده والمخاطب كان الله عز وجل والمخاطبون ملائكة الله أولهم وآخرهم والكلمة العموم لها مصلحة عموم كما أن الكلمة الخصوص لها مصلحة خصوص والمثوبة في العموم أجل من المثوبة في الخصوص كالتوحيد الذي هو عموم على عامة خلق الله يخالف الحج والزكاة وسائر أبواب الشرع الذي هو خصوص فقوله عز وجل وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة دل على أن فيه معنى من معاني التوحيد لما أخرجه مخرج العموم والكلمة إذا جاورت الكلمة في معنى لزمها ما لزم أختها إذا جمعهما معنى واحد ووجه ذلك أن الله سبحانه علم أن من خلقه من يوحده ويأتمر لأمره وأن لهم أعداء يعيبونهم ويستبيحوا حريمهم ولو أنه عز وجل قصر الأيدي عنهم جبرا وقهرا لبطلت الحكمة وثبت الإجبار رأسا وبطل الثواب والعقاب والعبادات ولما استحال ذلك وجب أن يدفع عن أوليائه بضرب من الضروب لا تبطل به ومعه العبادات والمثوبات فكان الوجه في ذلك إقامة الحدود كالقطع والصلب والقتل والحبس وتحصيل الحقوق كما قيل ما يزع السلطان أكثر
صفحة ٦
مما يزع القرآن وقد نطق بمثله قوله عز وجل لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله فوجب أن ينصب عز وجل خليفة يقصر من أيدي أعدائه عن أوليائه ما تصح به ومعه الولاية لأنه لا ولاية مع من أغفل الحقوق وضيع الواجبات ووجب خلعه في العقول جل الله تعالى عن ذلك والخليفة اسم مشترك لأنه لو أن رجلا بنى مسجدا ولم يؤذن فيه ونصب فيه مؤذنا كان مؤذنه فأما إذا أذن فيه أياما ثم نصب فيه مؤذنا كان خليفته وكذلك الصورة في العقول والمعارف متى قال البندار هذا خليفتي كان خليفته على البندرة لا على البريد والمظالم فكذلك القول في صاحبي البريد والمظالم فثبت أن الخليفة من الأسماء المشتركة فكان من صفة الله تعالى ذكره الانتصاف لأوليائه من أعدائه فوكل من ذلك معنى إلى خليفته فلهذا الشأن استحق معنى الخليفة دون معنى أن يتخذ شريكا معبودا مع الله سبحانه ولهذا من الشأن قال الله تبارك وتعالى لإبليس يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت ثم قال عز وجل بيدي أستكبرت وذلك أنه يقطع العذر ولا يوهم أنه خليفة شارك الله في وحدته فقال بعد ما عرفت أنه خلق الله ما منعك أن تسجد ثم قال بيدي أستكبرت واليد في اللغة قد تكون بمعنى النعمة وقد كان لله عز وجل عليه نعمتان حوتا نعما كقوله عز وجل وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة وهما نعمتان حوتا
صفحة ٧
نعما لا تحصى ثم غلظ عليه القول بقوله عز وجل بيدي أستكبرت كقول القائل بسيفي تقاتلني وبرمحي تطاعنني وهذا أبلغ في القبح وأشنع فقوله عز وجل وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة كانت كلمة متشابهة أحد وجوهها أنه يتصور عند الجاهل أن الله عز وجل يستشير خلقه في معنى التبس عليه ويتصور عند المستدل إذا استدل على الله عز وجل بأفعاله المحكمة وجلالته الجليلة أنه جل عن أن يلتبس عليه معنى أو يستعجم عليه حال فإنه لا يعجزه شيء في السماوات والأرض والسبيل في هذه الآية المتشابهة كالسبيل في أخواتها من الآيات المتشابهات أنها ترد إلى المحكمات مما يقطع به ومعه العذر للمتطرق إلى السفه والإلحاد.
فقوله وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة يدل على معنى هدايتهم لطاعة جليلة مقترنة بالتوحيد نافية عن الله عز وجل الخلع والظلم وتضييع الحقوق وما تصح به ومعه الولاية فتكمل معه الحجة ولا يبقى لأحد عذر في إغفال حق.
وأخرى أنه عز وجل إذا علم استقلال أحد من عباده لمعنى من معاني الطاعات ندبه له حتى تحصل له به عبادة ويستحق معها مثوبة على قدرها ما لو أغفل ذلك جاز أن يغفل جميع معاني حقوق خلقه أولهم وآخرهم جل الله عن ذلك فللقوام بحقوق الله وحقوق خلقه مثوبة جليلة متى فكر فيها مفكر عرف أجزاءها إذ لا وصول إلى كلها لجلالتها وعظم قدرها وأحد معانيها وهو جزء من أجزائها أنه يسعد بالإمام العادل النملة والبعوضة والحيوان أولهم وآخرهم بدلالة قوله تعالى وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ويدل على صحة ذلك قوله عز وجل في قصة نوح ع فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا الآية ثم من المدرار ما ينتفع به الإنسان وسائر الحيوان وسبب ذلك الدعاة إلى دين الله والهداة إلى حق الله فمثوبته على أقداره وعقوبته على من عانده بحسابه ولهذا نقول إن
صفحة ٨
الإمام يحتاج إليه لبقاء العالم على صلاحه.
وقد أخرجت الأخبار التي رويتها في هذا المعنى في هذا الكتاب في باب العلة التي يحتاج من أجلها إلى الإمام
ليس لأحد أن يختار الخليفة إلا الله عز وجل
وقول الله عز وجل وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة جاعل منون صفة الله التي وصف بها نفسه وميزانه قوله إني خالق بشرا من طين فنونه ووصف به نفسه فمن ادعى أنه يختار الإمام وجب أن يخلق بشرا من طين فلما بطل هذا المعنى بطل الآخر إذ هما في حيز واحد.
ووجه آخر وهو أن الملائكة في فضلهم وعصمتهم لم يصلحوا لاختيار الإمام حتى تولى الله ذلك بنفسه دونهم واحتج به على عامة خلقه أنه لا سبيل لهم إلى اختياره لما لم يكن للملائكة سبيل إليه مع صفائهم ووفائهم وعصمتهم ومدح الله إياهم في آيات كثيرة مثل قوله سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون وكقوله عز وجل لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون .
ثم إن الإنسان بما فيه من السفه والجهل كيف وأنى يستتب له ذلك فهذا والأحكام دون الإمامة مثل الصلاة والزكاة والحج وغير ذلك لم يكل الله عز وجل شيئا من ذلك إلى خلقه فكيف وكل إليهم الأهم الجامع للأحكام كلها والحقائق بأسرها.
وجوب وحدة الخليفة في كل عصر-
وفي قوله عز وجل خليفة إشارة إلى خليفة واحدة ثبت به ومعه إبطال قول
صفحة ٩
من زعم أنه يجوز أن تكون في وقت واحد أئمة كثيرة وقد اقتصر الله عز وجل على الواحد ولو كانت الحكمة ما قالوه وعبروا عنه لم يقتصر الله عز وجل على الواحد ودعوانا محاذ لدعواهم ثم إن القرآن يرجح قولنا دون قولهم والكلمتان إذا تقابلتا ثم رجح إحداهما على الأخرى بالقرآن كان الرجحان أولى.
لزوم وجود الخليفة-
ولقوله عز وجل وإذ قال ربك للملائكة الآية في الخطاب الذي خاطب الله عز وجل به نبيه(ص)لما قال ربك من أصح الدليل على أنه سبحانه يستعمل هذا المعنى في أمته إلى يوم القيامة فإن الأرض لا تخلو من حجة له عليهم ولو لا ذلك لما كان لقوله ربك حكمة وكان يجب أن يقول ربهم وحكمة الله في السلف كحكمته في الخلف لا يختلف في مر الأيام وكر الأعوام وذلك أنه عز وجل عدل حكيم لا يجمعه وأحد من خلقه نسب جل الله عن ذلك.
وجوب عصمة الإمام-
ولقوله عز وجل وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة الآية معنى وهو أنه عز وجل لا يستخلف إلا من له نقاء السريرة ليبعد عن الخيانة لأنه لو اختار من لا نقاء له في السريرة كان قد خان خلقه لأنه لو أن دلالا قدم حمالا خائنا إلى تاجر فحمل له حملا فخان فيه كان الدلال خائنا فكيف تجوز الخيانة على الله عز وجل وهو يقول وقوله الحق أن الله لا يهدي كيد الخائنين وأدب محمدا(ص)بقوله عز وجل ولا تكن للخائنين خصيما فكيف وأنى يجوز أن يأتي ما ينهى عنه وقد عير اليهود بسمة النفاق وقال أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون .
صفحة ١٠
وفي قول الله عز وجل وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة حجة قوية في غيبة الإمام(ع)وذلك أنه عز وجل لما قال إني جاعل في الأرض خليفة أوجب بهذا اللفظ معنى وهو أن يعتقدوا طاعته فاعتقد عدو الله إبليس بهذه الكلمة نفاقا وأضمره حتى صار به منافقا وذلك أنه أضمر أنه يخالفه متى استعبد بالطاعة له فكان نفاقه أنكر النفاق لأنه نفاق بظهر الغيب ولهذا من الشأن صار أخزى المنافقين كلهم ولما عرف الله عز وجل ملائكته ذلك أضمروا الطاعة له واشتاقوا إليه فأضمروا نقيض ما أضمره الشيطان فصار لهم من الرتبة عشرة أضعاف ما استحق عدو الله من الخزي والخسار فالطاعة والموالاة بظهر الغيب أبلغ في الثواب والمدح لأنه أبعد من الشبهة والمغالطة ولهذا
روي عن النبي(ص)أنه قال من دعا لأخيه بظهر الغيب ناداه ملك من السماء ولك مثلاه
. وأن الله تبارك وتعالى أكد دينه بالإيمان بالغيب فقال هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب الآية فالإيمان بالغيب أعظم مثوبة لصاحبه لأنه خلو من كل عيب وريب لأن بيعة الخليفة وقت المشاهدة قد يتوهم على المبايع أنه إنما يطيع رغبة في خير أو مال أو رهبة من قتل أو غير ذلك مما هو عادات أبناء الدنيا في طاعة ملوكهم وإيمان الغيب مأمون من ذلك كله ومحروس من معايبه بأصله يدل على ذلك قول الله عز وجل فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا ولما حصل للمتعبد ما حصل من الإيمان بالغيب لم يحرم الله عز وجل ذلك ملائكته فقد جاء في الخبر أن الله سبحانه قال هذه المقالة للملائكة قبل خلق آدم بسبعمائة عام وكان يحصل في هذه المدة الطاعة لملائكة الله على قدرها ولو أنكر منكر هذا الخبر والوقت والأعوام لم يجد بدا من القول بالغيبة ولو ساعة واحدة والساعة الواحدة لا تتعرى من حكمة ما وما حصل من الحكمة في الساعة حصل في الساعتين حكمتان وفي الساعات حكم وما زاد في الوقت إلا زاد في
صفحة ١١
المثوبة وما زاد في المثوبة إلا كشف عن الرحمة ودل على الجلالة فصح الخبر أن فيه تأييد الحكمة وتبليغ الحجة.
وفي قول الله عز وجل وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة حجة في غيبة الإمام(ع)من أوجه كثيرة أحدها أن الغيبة قبل الوجود أبلغ الغيبات كلها وذلك أن الملائكة ما شهدوا قبل ذلك خليفة قط وأما نحن فقد شاهدنا خلفاء كثيرين غير واحد قد نطق به القرآن وتواترت به الأخبار حتى صارت كالمشاهدة والملائكة لم يشهدوا واحدا منهم فكانت تلك الغيبة أبلغ وآخر أنها كانت غيبة من الله عز وجل وهذه الغيبة التي للإمام(ع)هي من قبل أعداء الله تعالى فإذا كان في الغيبة التي هي من الله عز وجل عبادة لملائكته فما الظن بالغيبة التي هي من أعداء الله وفي غيبة الإمام(ع)عبادة مخلصة لم تكن في تلك الغيبة وذلك أن الإمام الغائب(ع)مقموع مقهور مزاحم في حقه قد غلب قهرا وجرى على شيعته قسرا من أعداء الله ما جرى من سفك الدماء ونهب الأموال وإبطال الأحكام والجور على الأيتام وتبديل الصدقات وغير ذلك مما لا خفاء به ومن اعتقد موالاته شاركه في أجره وجهاده وتبرأ من أعدائه وكان له في براءة مواليه من أعدائه أجر وفي ولاية أوليائه أجر يربو على أجر ملائكة الله عز وجل على الإيمان بالإمام المغيب في العدم وإنما قص الله عز وجل نبأه قبل وجوده توقيرا وتعظيما له ليستعبد له الملائكة ويتشمروا لطاعته وإنما مثال ذلك تقديم الملك فيما بيننا بكتاب أو رسول إلى أوليائه أنه قادم عليهم حتى يتهيئوا لاستقباله وارتياد الهدايا له ما يقطع به ومعه عذرهم في تقصير إن قصروا في خدمته كذلك بدأ الله عز وجل بذكر نبئه إبانة عن جلالته ورتبته وكذلك قضيته في السلف والخلف فما قبض خليفة إلا عرف خلقه الخليفة الذي يتلوه وتصديق
صفحة ١٢
ذلك قوله عز وجل أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه الآية والذي على بينة من ربه محمد(ص)والشاهد الذي يتلوه علي بن أبي طالب أمير المؤمنين(ع)دلالته قوله عز وجل ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة والكلمة من كتاب موسى المحاذية لهذا المعنى حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة قوله وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين .
السر في أمره تعالى الملائكة بالسجود لآدم ع
واستعبد الله عز وجل الملائكة بالسجود لآدم تعظيما له لما غيبه عن أبصارهم وذلك أنه عز وجل إنما أمرهم بالسجود لآدم لما أودع صلبه من أرواح حجج الله تعالى ذكره فكان ذلك السجود لله عز وجل عبودية ولآدم طاعة ولما في صلبه تعظيما فأبى إبليس أن يسجد لآدم حسدا له إذ جعل صلبه مستودع أرواح حجج الله دون صلبه فكفر بحسده وتأبيه وفسق عن أمر ربه وطرد عن جواره ولعن وسمي رجيما لأجل إنكاره للغيبة لأنه احتج في امتناعه من السجود لآدم بأن قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين فجحد ما غيب عن بصره ولم يوقع التصديق به واحتج بالظاهر الذي شاهده وهو جسد آدم(ع)وأنكر أن يكون يعلم لما في صلبه وجودا ولم يؤمن بأن آدم إنما جعل قبلة للملائكة وأمروا بالسجود له لتعظيم ما في صلبه فمثل من آمن بالقائم(ع)في غيبته مثل الملائكة الذين أطاعوا الله عز وجل في السجود لآدم ومثل من أنكر القائم(ع)في غيبته مثل إبليس في امتناعه من السجود لآدم كذلك
روي عن الصادق جعفر بن محمد ع: حدثنا بذلك محمد بن موسى بن المتوكل رضي الله عنه قال حدثنا محمد بن أبي عبد الله الكوفي عن محمد بن إسماعيل البرمكي عن جعفر بن عبد الله الكوفي عن
صفحة ١٣
الحسن بن سعيد عن محمد بن زياد عن أيمن بن محرز عن الصادق جعفر بن محمد ع أن الله تبارك وتعالى علم آدم(ع)أسماء حجج الله كلها ثم عرضهم وهم أرواح على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين @HAD@ بأنكم أحق بالخلافة في الأرض لتسبيحكم وتقديسكم من آدم ع قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم
بأسمائهم @HAD@ وقفوا على عظيم منزلتهم عند الله تعالى ذكره فعلموا أنهم أحق بأن يكونوا خلفاء الله في أرضه وحججه على بريته ثم غيبهم عن أبصارهم واستعبدهم بولايتهم ومحبتهم وقال لهم ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون
حدثنا بذلك أحمد بن الحسن القطان قال حدثنا الحسين بن علي السكري قال حدثنا محمد بن زكريا الجوهري قال حدثنا جعفر بن محمد بن عمارة عن أبيه عن الصادق جعفر بن محمد ع.
وهذا استعباد الله عز وجل للملائكة بالغيبة والآية أولها في قصة الخليفة وإذا كان آخرها مثلها كان للكلام نظم وفي النظم حجة ومنه يؤخذ وجه الإجماع لأمة محمد(ص)أولهم وآخرهم وذلك أنه سبحانه وتعالى إذا علم آدم الأسماء كلها على ما قاله المخالفون فلا محالة أن أسماء الأئمة(ع)داخلة في تلك الجملة فصار ما قلناه في ذلك بإجماع الأمة ومن أصح الدليل عليه أنه لا محالة لما دل الملائكة على السجود لآدم فإنه حصل لهم عبادة فلما حصل لهم عبادة أوجب باب الحكمة أن يحصل لهم ما هو في حيزه سواء كان في وقت أو في غير وقت فإن الأوقات ما تغير الحكمة ولا تبدل الحجة أولها كآخرها وآخرها كأولها لا يجوز في حكمة الله أن يحرمهم معنى من معاني المثوبة ولا أن يبخل بفضل من فضائل الأئمة لأنهم كلهم شرع واحد دليل ذلك أن الرسل متى آمن مؤمن بواحد منهم أو بجماعة وأنكر واحدا منهم لم يقبل منه إيمانه كذلك القضية في الأئمة(ع)أولهم وآخرهم واحد-
وقد قال الصادق ع المنكر لآخرنا كالمنكر لأولنا
وقال ع من أنكر واحدا من
صفحة ١٤
الأحياء فقد أنكر الأموات
. وسأخرج ذلك في هذا الكتاب مسندا في موضعه إن شاء الله فصح أن قوله عز وجل وعلم آدم الأسماء كلها أراد به أسماء الأئمة(ع)وللأسماء معان كثيرة وليس أحد معانيها بأولى من الآخر وللأسماء أوصاف وليس أحد الأوصاف بأولى من الآخر فمعنى الأسماء أنه سبحانه علم آدم(ع)أوصاف الأئمة كلها أولها وآخرها ومن أوصافهم العلم والحلم والتقوى والشجاعة والعصمة والسخاء والوفاء وقد نطق بمثله كتاب الله عز وجل في أسماء الأنبياء(ع)كقوله عز وجل واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقا نبيا ورفعناه مكانا عليا وكقوله عز وجل واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا وكان رسولا نبيا وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا فوصف الرسل(ع)وحمدهم بما كان فيهم من الشيم المرضية والأخلاق الزكية وكان ذلك أوصافهم وأسماءهم كذلك علم الله عز وجل آدم الأسماء كلها.
والحكمة في ذلك أيضا أنه لا وصول إلى الأسماء ووجوه الاستعبادات إلا من طريق السماع والعقل غير متوجه إلى ذلك لأنه لو أبصر عاقل شخصا من بعيد أو قريب لما توصل إلى استخراج اسمه ولا سبيل إليه إلا من طريق السماع فجعل الله عز وجل العمدة في باب الخليفة السماع ولما كان كذلك أبطل به باب الاختيار إذ الاختيار من طريق الآراء وقضية الخليفة موضوعة على الأسماء والأسماء موضوعة على السماع فصح به ومعه مذهبنا في الإمام أنه يصح بالنص والإشارة فأما باب الإشارة فمضمر في قوله عز وجل ثم عرضهم على الملائكة فباب العرض مبني على الشخص والإشارة وباب الاسم مبني على السمع فصح معنى الإشارة والنص جميعا.
صفحة ١٥
وللعرض الذي قال الله عز وجل ثم عرضهم على الملائكة معنيان أحدهما عرض أشخاصهم وهيئاتهم كما رويناه في باب أخبار أخذ الميثاق والذر والوجه الآخر أن يكون عز وجل عرضهم على الملائكة من طريق الصفة والنسبة كما يقوله قوم من مخالفينا فمن كلا المعنيين يحصل استعباد الله عز وجل الملائكة بالإيمان بالغيبة.
وفي قوله عز وجل أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين حكم كثيرة أحدها أن الله عز وجل أهل آدم(ع)لتعليم الملائكة أسماء الأئمة عن الله تعالى ذكره وأهل الملائكة لتعلم أسمائهم عن آدم(ع)فالله عز وجل علم آدم وآدم علم الملائكة فكان آدم في حيز المعلم وكانوا في حيز المتعلمين هذا ما نص عليه القرآن وقول الملائكة سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم فيه أصح دليل وأبين حجة لنا أنه لا يجوز لأحد أن يقول في أسماء الأئمة وأوصافهم(ع)إلا عن تعليم الله جل جلاله ولو جاز لأحد ذلك كان للملائكة أجوز ولما سبحوا الله دل تسبيحهم على أن الشرع فيه مما ينافي التوحيد وذلك أن التسبيح تنزيه الله عز وجل وباب التنزيه لا يوجد في القرآن إلا عند قول جاحد أو ملحد أو متعرض لإبطال التوحيد والقدح فيه فلم يستنكفوا إذ لم يعلموا أن يقولوا لا علم لنا فمن تكلف علم ما لا يعلم احتج الله عليه بملائكته وكانوا شهداء الله عليه في الدنيا والآخرة وإنما أهل الله الملائكة لإعلامهم على لسان آدم عند اعترافهم بالعجز وأنهم لا يعلمون فقال عز وجل يا آدم أنبئهم بأسمائهم ولقد كلمني رجل بمدينة السلام فقال لي إن الغيبة قد طالت والحيرة قد اشتدت وقد رجع كثير عن القول بالإمامة لطول الأمد فكيف هذا فقلت له إن سنة الأولين في هذه الأمة جارية حذو النعل بالنعل كما روي عن رسول الله(ص)في غير خبر وإن موسى(ع)ذهب إلى ميقات ربه على أن يرجع إلى قومه بعد ثلاثين ليلة فأتمها الله عز وجل بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة و
صفحة ١٦
لتأخره عنهم فضل عشرة أيام على ما واعدهم استطالوا المدة القصيرة و قست قلوبهم وفسقوا عن أمر ربهم عز وجل وعن أمر موسى(ع)وعصوا خليفته هارون واستضعفوه وكادوا يقتلونه وعبدوا عجلا جسدا له خوار من دون الله عز وجل وقال السامري لهم هذا إلهكم وإله موسى وهارون يعظهم وينهاهم عن عبادة العجل ويقول يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال بئسما خلفتموني من بعدي أعجلتم أمر ربكم وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه والقصة في ذلك مشهورة فليس بعجيب أن يستطيل الجهال من هذه الأمة مدة غيبة صاحب زماننا(ع)ويرجع كثير منهم عما كانوا دخلوا فيه بغير أصل وبصيرة ثم لا يعتبرون بقول الله تعالى ذكره حيث يقول ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون .
فقال وما أنزل الله عز وجل في كتابه في هذا المعنى قلت قوله عز وجل الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب يعني بالقائم(ع)وغيبته.
حدثنا محمد بن موسى بن المتوكل رحمه الله قال حدثنا محمد بن يحيى العطار قال حدثنا أحمد بن محمد بن عيسى عن عمر بن عبد العزيز عن غير واحد عن داود بن كثير الرقي عن أبي عبد الله ع في قول الله عز وجل هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب @HAD@ قال من أقر بقيام القائم(ع)أنه حق
حدثنا علي بن أحمد بن موسى رحمه الله قال حدثنا محمد بن أبي عبد الله الكوفي قال حدثنا موسى بن عمران النخعي عن عمه الحسين بن يزيد عن علي بن أبي حمزة
صفحة ١٧
عن يحيى بن أبي القاسم قال سألت الصادق جعفر بن محمد(ع)عن قول الله عز وجل الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب @HAD@ فقال المتقون شيعة علي(ع)والغيب فهو الحجة الغائب
. وشاهد ذلك قول الله عز وجل ويقولون لو لا أنزل عليه آية من ربه فقل إنما الغيب لله فانتظروا إني معكم من المنتظرين فأخبر عز وجل أن الآية هي الغيب والغيب هو الحجة وتصديق ذلك قول الله عز وجل وجعلنا ابن مريم وأمه آية يعني حجة.
حدثنا أبي رحمه الله قال حدثنا سعد بن عبد الله قال حدثنا محمد بن الحسين بن أبي الخطاب عن الحسن بن محبوب عن علي بن رئاب عن أبي عبد الله(ع)أنه قال في قول الله عز وجل يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل @HAD@ فقال الآيات هم الأئمة والآية المنتظرة هو القائم(ع)فيومئذ لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل قيامه بالسيف وإن آمنت بمن تقدمه من آبائه ع
. وقد سمى الله عز وجل يوسف(ع)غيبا حين قص قصته على نبيه محمد(ص)فقال عز وجل ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون فسمى يوسف(ع)غيبا لأن الأنباء التي قصها كانت أنباء يوسف فيما أخبر به من قصته وحاله وما آلت إليه أموره.
ولقد كلمني بعض المخالفين في هذه الآية فقال معنى قوله عز وجل الذين يؤمنون بالغيب أي بالبعث والنشور وأحوال القيامة فقلت له لقد جهلت في تأويلك وضللت في قولك فإن اليهود والنصارى وكثيرا من فرق المشركين والمخالفين لدين الإسلام يؤمنون بالبعث والنشور والحساب والثواب والعقاب فلم يكن الله تبارك وتعالى ليمدح المؤمنين بمدحة قد شركهم فيها فرق الكفر والجحود بل وصفهم الله
صفحة ١٨
عز وجل ومدحهم بما هو لهم خاصة لم يشركهم فيه أحد غيرهم.
وجوب معرفة المهدي عجل الله تعالى فرجه-
ولا يكون الإيمان صحيحا من مؤمن إلا من بعد علمه بحال من يؤمن به كما قال الله تبارك وتعالى إلا من شهد بالحق وهم يعلمون فلم يوجب لهم صحة ما يشهدون به إلا من بعد علمهم ثم كذلك لن ينفع إيمان من آمن بالمهدي القائم(ع)حتى يكون عارفا بشأنه في حال غيبته وذلك أن الأئمة(ع)قد أخبروا بغيبته(ع)ووصفوا كونها لشيعتهم فيما نقل عنهم واستحفظ في الصحف ودون في الكتب المؤلفة من قبل أن تقع الغيبة بمائتي سنة أو أقل أو أكثر فليس أحد من أتباع الأئمة(ع)إلا وقد ذكر ذلك في كثير من كتبه ورواياته ودونه في مصنفاته وهي الكتب التي تعرف بالأصول مدونة مستحفظة عند شيعة آل محمد(ع)من قبل الغيبة بما ذكرنا من السنين وقد أخرجت ما حضرني من الأخبار المسندة في الغيبة في هذا الكتاب في مواضعها فلا يخلو حال هؤلاء الأتباع المؤلفين للكتب أن يكونوا علموا الغيب بما وقع الآن من الغيبة فألفوا ذلك في كتبهم ودونوه في مصنفاتهم من قبل كونها وهذا محال عند أهل اللب والتحصيل أو أن يكونوا قد أسسوا في كتبهم الكذب فاتفق الأمر لهم كما ذكروا وتحقق كما وضعوا من كذبهم على بعد ديارهم واختلاف آرائهم وتباين أقطارهم ومحالهم وهذا أيضا محال كسبيل الوجه الأول فلم يبق في ذلك إلا أنهم حفظوا عن أئمتهم المستحفظين للوصية(ع)عن رسول الله(ص)من ذكر الغيبة وصفة كونها في مقام بعد مقام إلى آخر المقامات ما دونوه في كتبهم وألفوه في أصولهم وبذلك وشبهه فلج الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا .
صفحة ١٩
وإن خصومنا ومخالفينا من أهل الأهواء المضلة قصدوا لدفع الحق وعناده بما وقع من غيبة صاحب زماننا القائم(ع)واحتجابه عن أبصار المشاهدين ليلبسوا بذلك على من لم تكن معرفته متقنة ولا بصيرته مستحكمة.
إثبات الغيبة والحكمة فيها-
فأقول وبالله التوفيق إن الغيبة التي وقعت لصاحب زماننا(ع)قد لزمت حكمتها وبان حقها وفلجت حجتها للذي شاهدناه وعرفناه من آثار حكمة الله عز وجل واستقامة تدبيره في حججه المتقدمة في الأعصار السالفة مع أئمة الضلال وتظاهر الطواغيت واستعلاء الفراعنة في الحقب الخالية وما نحن بسبيله في زماننا هذا من تظاهر أئمة الكفر بمعونة أهل الإفك والعدوان والبهتان.
وذلك أن خصومنا طالبونا بوجود صاحب زماننا(ع)كوجود من تقدمه من الأئمة(ع)فقالوا إنه قد مضى على قولكم من عصر وفاة نبينا(ع)أحد عشر إماما كل منهم كان موجودا معروفا باسمه وشخصه بين الخاص والعام فإن لم يوجد كذلك فقد فسد عليكم أمر من تقدم من أئمتكم كفساد أمر صاحب زمانكم هذا في عدمه وتعذر وجوده.
فأقول وبالله التوفيق إن خصومنا قد جهلوا آثار حكمة الله تعالى وأغفلوا مواقع الحق ومناهج السبيل في مقامات حجج الله تعالى مع أئمة الضلال في دول الباطل في كل عصر وزمان إذ قد ثبت أن ظهور حجج الله تعالى في مقاماتهم في دول الباطل على سبيل الإمكان والتدبير لأهل الزمان فإن كانت الحال ممكنة في استقامة تدبير الأولياء لوجود الحجة بين الخاص والعام كان ظهور الحجة كذلك وإن كانت الحال غير ممكنة من استقامة تدبير الأولياء لوجود الحجة بين الخاص والعام وكان استتاره مما توجبه الحكمة ويقتضيه التدبير حجبه الله وستره إلى وقت بلوغ الكتاب أجله-
صفحة ٢٠