ولست أدري على أي بلد من بلاد العالم الثالث ينطبق هذا الكلام، لأن عمليات الانتقال التي تركز على القوات المسلحة وعلى شخصية الزعيم لا تمثل في أية حالة من الحالات تحولا نحو الشرعية الدستورية والقانونية، ولكن ما أعلمه حق العلم هو أن هذا الكلام حين يقال عن مصر بالذات، يكون عدوانا صارخا على الحقيقة والتاريخ، فقد كانت في مصر شرعية دستورية قائمة بالفعل، وكانت تكافح ببطولة من أجل تطهير نفسها من القوى المعادية للدستور، وليس صحيحا أن حركة الجيش، في مصر أو غيرها، كانت محاولة للانتقال من شرعية تقليدية إلى شرعية دستورية، بل إن العكس هو الصحيح؛ إذ كانت الحركة في أساسها انتقالا من تجربة ناضجة في الشرعية الدستورية إلى نمط في الحكم لا يكترث كثيرا بمعنى الشرعية، ولا يعترف بالدستور إلا على الورق.
وبمثل هذه الفلسفة المضللة تم تبرير كافة الإجراءات التي اتخذت في السنتين الأوليين للثورة، من أجل التضييق على الأحزاب (وكان المقصود بها واقعيا حزب الوفد وحده)، ثم فرض شروطا صعبة التحقيق عليها، ثم الادعاء بأنها لم تتمكن من تلبية هذه الشروط، ثم يتكرر المسلسل المعتاد، الذي أصبح «نموذجا» تحتذيه الانقلابات العسكرية في كافة أرجاء العالم الثالث: إيقاف المسار الطبيعي للدستور، وإلغاء الأحزاب والانتخابات، والعمل بموجب قرارات أو مراسيم، مدة ثلاثة أشهر، ثم ستة أشهر، ثم سنوات وسنوات، وفي كل حالة يجد النظام من يبرر له إجراءاته عن طريق «فلاسفة» قادرين على إقناع الناس، أو إرغامهم على الاقتناع، بأنهم يعيشون في ظل شرعية من نوع جديد، شرعية «ثورية» تتضاءل إلى جانبها المفاهيم «العتيقة» للشرعية.
هكذا فعل هيكل، وهكذا فعل كثيرون غيره من منظري الحكم التسلطي اللاديمقراطي، ولكن حساب التاريخ لهيكل سيكون أشد عسرا؛ لأنه كان أكثر من الآخرين ذكاء ووعيا؛ ولأنه أدرك حقائق الأوضاع في لمحات سريعة في كتابه الأخير، ولكنه سرعان ما عاد إلى طريقه المألوف، طريق العداء للديمقراطية المرتكزة على أساس شعبي، والمعبرة عن الإرادة الحقيقية للجماهير.
الفصل السادس
ورثه مصر، ونسى!
في كتاب هيكل عن السادات نقطتان تتسمان بالضعف الشديد، مر عليهما المؤلف بتعجل وبغير تحليل مقنع، وإنما حاول أن يقدم لهما تعليلات أدت في الواقع إلى زيادة موقفه ضعفا، هاتان النقطتان تأتيان عند بداية علاقة السادات بعبد الناصر والثورة المصرية، وعند نهاية عهد عبد الناصر واختياره أنور السادات لخلافته، فكيف يصف هيكل هاتين اللحظتين الحاسمتين: لحظة انضمام السادات إلى تنظيم الضباط الأحرار، التي حصل فيها على جواز المرور إلى تاريخ مصر، ولحظة تعيين عبد الناصر للسادات نائبا به، قبل وفاته بوقت قصير، وهي اللحظة التي ضمنت له دخول هذا التاريخ من أوسع أبوابه؟
يقول هيكل في «خريف الغضب»: «في أواخر سنة 1951م أصبح أنور السادات عضوا في تنظيم الضباط الأحرار، وقد كان كل أعضاء اللجنة التأسيسية للتنظيم يعارضون انضمامه باستثناء جمال عبد الناصر، كانوا يعرفون السجل بطبيعة الحال، وكان عبد الناصر يعرف يقينا بكل هذه الوقائع.»
ما هي هذه الوقائع التي أدت بأعضاء اللجنة التأسيسية للضباط الأحرار إلى رفض انضمام أنور السادات إلى تنظيمهم، والتي أصر عبد الناصر على قبوله في التنظيم على الرغم من معرفته اليقينية بها، وعلى الرغم من معارضة جميع أعضاء اللجنة الآخرين لهذا القبول؟ كانت هذه الوقائع، كما شرح هيكل في كتابه بإسهاب، تشمل: الانضمام إلى الحرس الحديدي الذي كان يخدم أغراض الملك - السعي إلى تخليص الملك من أقوى خصومه السياسيين بالتصفية الجسدية - الاتصال برجال القصر وعلى رأسهم «يوسف رشاد» وتلقي رشوة مقدارها ألف جنيه من هذا الأخير «لكي يؤثث بيتا ويشتري سيارة، ويبدأ حياة جديدة.» وغيرها من الوقائع المثيرة للارتياب.
كيف إذن أصر عبد الناصر على قبول السادات في التنظيم، وتحمل بذلك مخاطرة أن يوصف بالدكتاتورية؛ لأنه رجح صوته الوحيد على أصوات جميع الأعضاء الآخرين الرافضين؟ يقدم هيكل في هذا الصدد ما يسميه «اجتهادات» يحاول بها تفسير هذا الإصرار، وهي اجتهادات لا تفسر في الواقع شيئا، بل يمكن الرد عليها بسهولة تامة، فمن الجائز أن عبد الناصر أراد معرفة أخبار القصر مستغلا علاقة السادات بيوسف رشاد، ولو صح هذا التعديل لكان من الواجب أن يبعد السادات عن التنظيم بمجرد نجاح الثورة وإغلاق القصر وطرد صاحبه من البلاد، فما فائدة الاحتفاظ بعميل سابق للقصر بعد أن انتهت مهمته؟ ومع ذلك فإن السادات لم يكن أول من خرج من أعضاء مجلس الثورة، وإنما خرج الجميع وبقي هو!
وينطبق هذا الكلام نفسه على التعليل الآخر الذي قدمه هيكل، وهو تضليل القصر عن أخبار الضباط الأحرار من خلال الصلة السابقة نفسها، ففي هذه الحالة أيضا كان من الواجب أن تنتهي مهمة السادات بمجرد نجاح الثورة.
صفحة غير معروفة