لما وصل نابليون إلى مدينة نيس وجد سهول إيطاليا الشمالية تموج بالعساكر النمساوية تحت إمرة الجنرال بوليو.
لم تكن الجنود الفرنسية شيئا مذكورا أمام النمساويين ؛ إذ كانوا لا يمتازون عن سوقة الناس في شيء؛ كانت ملابسهم رثة، وأطعمتهم رديئة، لم يتدربوا التدريب العسكري اللازم، وكانت أجورهم قليلة لا يدفع لهم أكثرها، أما الخيل التي كانت في خدمتهم فلم يكن يربو الصالح منها على مائة بين أربعين ألفا من الرجال. وعلى الجملة، فلم يكن فيهم شيء يرتضى إلا صغر سنهم؛ إذ كانوا جميعا من الشبان، كما كان قائدهم. على أنه كان يظن أنه من خرق رأي الحكومة وضعف سياستها أن تكل أمر هذه الحملة إلى فتى لم تكن له الخبرة العسكرية التامة التي يعتمد عليها قبل اليوم، ولكنه استطاع أن يجعل من هذا الجيش غير النظامي جيشا به أمكنه أن يخضع إيطاليا جميعها في اثني عشر شهرا. وقف في ميليسيمو وقفة صد بها النمساويين وقطعهم عن محالفيهم من السردينيين، فكان من وراء ذلك أن نزل ملك سردينيا، وهو حاكم تلك الأصقاع يومئذ، عن كل استحكاماته على ممرات الألب لفرنسا. (4) قنطرة لودي
بعد أن عبر نابليون نهر البو جنوب بافيا رد نابليون قائد النمساويين بوليو المذكور، فتقهقر هذا إلى نهر «أدا»، وكانت عليه قنطرة تسمى «قنطرة لودي»، ما ذكرها الفرنسيون حتى يومنا هذا إلا وثار الدم في عروقهم! هنالك نصبت المدافع النمساوية على مدخل تلك القنطرة تقذف جللها كأنها رسل الموت إلى صفوف الفرنسيين المتقدمين الذين اخترقوا ذلك الطريق الموحل حتى كانوا بين مدافع النمساويين يقصدون رجال المدفعية بسنكياتهم قبل أن يتمكن القائد بوليو من إرسال المشاة لإنقاذ رجاله، وبذلك سقطت مدينة ميلان العظمى في قبضة نابليون. وتلا تلك الموقعة العظيمة تلك الموقعة الدموية التي حدثت في «آركول»، ومثلها في «ريفولي»، وتسليم مدينة «مانتوا»، وكذلك أصبحت إيطاليا تحت أقدام شاب لم يتجاوز الثامنة والعشرين. (5) معاهدة كامبو فورميو سنة 1797
بعد أن اخترق نابليون جبال الألب وهو يطارد الأرشيدوق شارل قدم بجيشه إلى ڤينا، ولكنه وجد مؤخرة جيشه يهددها جنود «التيرول» و«بوهيميا»، فرأى أن يعقد صلحا، ثم عاد إلى فنيس وأدال حكومتها القائمة.
كانت تلك المدينة فداء للنمسا وكفارة عن ذنوبها في كل حين. نزل نابليون بها فسلبها ما كان فيها من تماثيل الخيل البرونزية التي نصبت في كنيسة سنت مارك، كما أخذ منها كل ما كان عليها من حلي الذهب وغيره. أغرق أسطولها وشتت مراكبها، وبذلك سقطت عروس الأدرياتيك في قبضة نابليون بونابارت، ومما يروى عن دوق فنيسيا الأخير أنه سقط مغشيا عليه حين لفظ يمين الخروج من طاعة إمبراطور النمسا. ثم انتهت هذه الحرب بمعاهدة كامبو فورميو بين فرنسا والنمسا، نالت فرنسا بها الأراضي الواطئة النمسوية والجانب الأيسر من نهر الرين وجزائر أيونيان ومقاطعات (ميلان) و(مانتوا)، وهذه جعلت جمهورية تدعى جمهورية السيسالب. (6) نابليون في مصر سنة 1798
فكر نابليون بعد مدة قضاها في راحة أن ينزل بمصر، فنزل بها في صيف سنة 1798 وغلب المماليك في واقعة الأهرام. وكان غرضه من احتلال مصر أن يسلخ الهند من إنجلترا، ولكن لم يساعده المقدور على ذلك؛ فقد كان الأميرال نلسون الإنجليزي يتعقبه في البحر الأبيض المتوسط، حتى إذا تلاقى بمراكب نابليون في خليج أبي قير هشمها وأغرقها (أول أغسطس سنة 1798)، فذهب نابليون بعد ذلك إلى عكا يريد احتلال تلك البقاع، فما استطاع امتلاك حصن عكا الحصين، فانقطعت آماله يومئذ من مناهضة سلطة إنجلترا في الشرق فعاد إلى فرنسا هو وقليل من ضباطه، وغادر أكثر جيشه في تلك السواحل على ما ألم به من المرض والنصب والمجاعة يحاول عبثا أن يتغلب على تلك الديار.
قضى نابليون في تلك الحملة سبعة عشر شهرا (من 9 مايو سنة 1798 إلى 8 أكتوبر سنة 1799) سقطت فيها حكومة الديركتورين في حمأة الفساد، واضطربت مالية الحكومة واستردت النمسا فيها أملاكها في إيطاليا. (7) القنصلية سنة 1799
اتجهت الأعين جميعها إلى نابليون، وقد عزم على أن يحدث في الحكومة تغيرا ظاهرا؛ ذلك بأن أحد المديرين المدعو (سياس) وضع لفرنسا مشروع دستور كان على بونابارت وجيشه أن ينفذه، فنقل المجلسين إلى (سنت كلود) لئلا يرهبهم الشعب بأفعاله، وصادف مرور نابليون من مجلس الشيوخ إلى مجلس الخمسمائة، فلما كان بينهم صاح صائح: «لا نريد (Dictator) »؛ أي لا نريد أن نخضع لسلطة فرد متصرف. وعززه غيره من أعضاء ذلك المجلس، ثم التفوا حوله يصيحون ويلغبون فاضطر أن يدخل المجلس جملة من الجنود لحماية نابليون من أذاهم.
وكان أخوه لوسيان رئيس ذلك المجلس، فقام عن كرسيه وآذن بانحلال الجمعية.
وعقبه القائد (مورات)؛ إذ سار في عرصات المكان بفرقة من الجند معهم طبولهم يضربون عليها وهم يخرجون أعضاء ذلك المجلس وسنكياتهم مشرعة استعدادا لكل حادث، فخرج الأعضاء يتعثرون، ومنهم من قذف بنفسه من نوافذ المكان وجلا ورهبة.
صفحة غير معروفة