[مقدمة المؤلف]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله العلي الجليل، أشهد أنه لا إله إلا هو وحده لا شريك له، وأن سيدنا محمدا عبده ورسوله، من كفر به فهو ذليل، اللهم صل على حبيبك أحمد المصطفى، ورسولك محمد المجتبى، المخصوص بالكرامة والتفضيل، وعلى آله وصحبه الهادين إلى سواء السبيل.
أما بعد:
فيقول العبد الراجي عفو ربه القوي، أبو الحسنات محمد عبد الحي اللكنوي، تجاوز الله عن ذنبه الجلي والخفي:
هذه رسالة لطيفة، وعجالة شريفة، مسماة ب:
((الكلام الجليل فيما يتعلق بالمنديل))
مرتبة على مقدمة ومسائل وخاتمة:
- المقدمة -
في توضيح لفظ المنديل ومبناه
صفحة ٧
وتشر يح مفهومه ومعناه قال الجوهري(1) في ((الصحاح)) في فصل(اللام مع النون) الندل: النقل والاختلاس، يقال: ندلت الدلو إذا أخرجتها من البئر، والرجل مندل بكسر الميم، والمنديل معروف، تقول منه: تندلت بالمنديل وتمندلت بالمنديل، وأنكر الكسائي(2) تمندلت. انتهى كلامه ملخصا(3).
وقال أيضا في (فصل: اللام مع الميم): المدل بالكسر: الرجل الخفي، والشخص القليل اللحم بالدال والذال، وتمدل بالمنديل لغة في تندل. انتهى(4).
صفحة ٨
وقال النووي(1) في ((تهذيب الأسماء واللغات)): المنديل: بكسر الميم معروف.
قال ابن فارس(2): فعل المنديل مأخوذ من الندل، وهو النقل(3).
وقال غيره: هو مأخوذ من الندل وهو الوسخ ؛ لأنه يندل به.
وقال أبو عمرو(4) في .....................................
صفحة ٩
((شرح الفصيح))(1): قال ابن الأعرابي(2): تقول العرب : أندل لي ، ويقال : منه ندلت أندل ندلا وندولا ومندولا ، ومنه
أخذ المنديل؛ لأنه ينقل من واحد إلى واحد. انتهى كلامه ملتقطا(3).
تنبيه:
صفحة ١٠
لا يؤنث المنديل بالهاء، فلا يقال منديلة؛ لما ذكره الفارابي(1) في ((ديوان الأدب))، ونقله عنه السيوطي(2) في ((مزهر اللغة))(3): من أنه لم يؤنث من مفعيل بالهاء سوى مسكينة تشبيها له بفقيرة.
- مسألة -
اختلفوا في مسح أعضاء الوضوء
بعد الفراغ منه بالمنديل
فمنهم: من كرهه.
ومنهم: من قال: لا بأس به، وعليه أصحابنا.
صفحة ١١
قال محمد(1) في كتاب ((الآثار)): أخبرنا أبو حنيفة عن حماد(2) عن إبراهيم(3) في الرجل يتوضأ فيمسح وجهه بالثوب، قال : لا بأس به ، قال
محمد: وبه نأخذ ولا نرى بذلك بأسا، وهو قول أبي حنيفة. انتهى(4).
صفحة ١٢
روى الترمذي بسنده عن عائشة بسند فيه أبو معاذ، قالت: ((كان لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم خرقة ينشف بها بعد الوضوء))(5).? ثم روى عن معاذ بسند فيه رشدين بن سعد عن عبد الرحمن بن زياد قال: ((رأيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا توضأ مسح وجهه بطرف ثوبه))(1).
ثم قال: هذا حديث غريب، وإسناده ضعيف، ورشدين بن سعد وعبد الرحمن بن زياد بن أنعم يضعفان في الحديث.
ثم قال: حديث عائشة ليس بالقائم، ولا يصح عن رسول الله في هذا الباب شيء.
وأبو معاذ يقولون: هو سليمان بن أرقم، وهو ضعيف عند أهل الحديث.
وقد رخص قوم من أهل العلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ومن بعدهم في التمندل بعد الوضوء، ومن كرهه من قبل أنه قيل: إن الوضوء يوزن، وروي ذلك عن: سعيد بن المسيب(2)، والزهري(3)، حدثنا محمد بن حميد، حدثنا جرير، قال: حدثنيه علي بن مجاهد عني، وهو عندي ثقة، عن ثعلبة عن الزهري، قال: إنما كره المنديل بعد الوضوء؛ لأن الوضوء يوزن. انتهى كلامه(4).
صفحة ١٣
وروى ابن ماجه عن سلمان الفارسي: ((إن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم توضأ، فقلب جبة صوف كانت عليه، فمسح بها وجهه))(1).
وفي ((البدور السافرة في أحوال الآخرة)) للسيوطي في (باب الأعمال الموجبة لثقل الميزان): أخرج ابن عساكر بسند ضعيف عن أبي هريرة مرفوعا : ((من توضأ فمسح بثوب نظيف فلا بأس به، ومن لم يفعل فهو أفضل، لأن الوضوء يوزن يوم القيامة مع سائر الأعمال))(2).
وأخرج ابن أبي شيبة(3) في ((المصنف)) : عن سعيد بن المسيب : إنه كره المنديل بعد الوضوء، وقال: هو يوزن. انتهى(4).
صفحة ١٤
وفي ((المرقاة))(1) في شرح حديث معاذ، قال ابن حجر(2): هذا إن صح فمحمول على أنه لعذر، أو لبيان الجواز؛ لأن ميمونة رضي الله عنها أتته بعد وضوء بمنديل فرده؛ ولذا قال أصحابنا للمتوضئ والمغتسل ترك التنشيف للاتباع.
وفي ((شرح الكنز )) للزيلعي(3) : لا بأس بالتمسح بالمنديل بعد
الوضوء، روي ذلك عن عثمان وأنس والحسن بن علي ومسروق(4).
صفحة ١٥
وقال في ((معراج الدراية))(1): إلا أنه لا يبالغ فيبقى أثر الوضوء في أعضائه وصرح بالاستحباب صاحب ((المنية))(2). انتهى.
وفيه أيضا في شرح حديث عائشة قوله: ينشف بصيغة الفاعل من التفعيل، أو بالتخفيف كيعلم، يقال: نشفت الأرض تنشفه: شربته، ونشف الثوب العرق ينشفه، كذا في ((النهاية))(3).
صفحة ١٦
وفي ((العباب))(1) و((القاموس))(2): النشف من باب علم.
وفي ((الأزهار))(3): قال العلماء: يستحب ترك التنشيف؛ لأن رسول الله كان لا ينشف، ولأن ماء الوضوء يوزن، ولو نشف لم يكره على الأصح.
صفحة ١٧
وقيل: يكره، وبه قال: ابن أبي ليلى(1)؛ لأنه إزالة العبادة كالسواك للصائم، وقيل: لأن الماء يسبح ما دام على أعضاء الوضوء، ذكره الأبهري(2)، وفي بعض ما قاله نظر؛ لأن المثبت مقدم على النافي، وماء الوضوء يوزن سواء نشف أو لم ينشف؛ لأن المراد به ما استعمل للوضوء لا الباقي على العضو، ولا معنى للكراهة إذا ثبت فعله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولو مرة، وعدم تسبيح ماء الوضوء إذا نشف يحتاج إلى نقل صحيح.
وقال الترمذي: لا يصح عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في هذا الباب شيء ، وقد رخص قوم من الصحابة ومن بعدهم في التنشيف
بعد الوضوء(3)، وذلك من قبل أنفسهم، نقله السيد جمال الدين.
وقوله: من قبل أنفسهم، صدر من قبل نفسه؛ إذ لا يتصور أن يفعل مثل عثمان والحسن بن علي من قبل أنفسهم شيئا، بل فعلهم يدل على أن للحديث أصلا، والعمل بالحديث ولو ضعيفا أولى من العمل بالرأي ولو قويا. انتهى كلامه.
صفحة ١٨
قلت: قول ابن حجر: لأن ميمونة أتته بعد وضوئه. ليس بصحيح؛ فإن إتيان ميمونة المنديل ورده رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إنما كان بعد الغسل كما سيجيء ذكره(1).
ونسبة تصريح استحباب التمسح بعد الوضوء بالمنديل إلى صاحب ((المنية)) كما صدرت عن صاحب ((المرقاة)) غير مطابقة للواقع، فإن المصرح في ((المنية))(2): إنما هو الاستحباب بعد الغسل لا بعد الوضوء، فإنه قال في (بحث مندوبات الغسل): وأن يمسح بدنه بمنديل بعد الغسل. انتهى.
وأين هذا من ذاك، والعجب من شارح ((المنية)) العلامة إبراهيم الحلبي(3) حيث علل الاستحباب بقوله في ((غنية المستملي)) : لما روت
عائشة، قالت: ((كانت لرسول الله خرقة ينشف بها الوضوء))(4).
رواه الترمذي وهو ضعيف، ولكن يجوز العمل بالضعيف. انتهى(5).
وجه العجب ظاهر؛ فإن الرواية إنما تدل على جواز التنشيف بعد الوضوء، والمدع غيره، على أن غاية ما يثبت بها هو الجواز الذي عبروه بقولهم: لا بأس به لا الاستحباب؛ لاحتمال أن يكون لعذر، أو لبيان الجواز كما لا يخفى.
صفحة ١٩
وفي ((الهداية))(1): قال: تكره الخرقة التي تحمل فيمسح بها العرق، لأنه نوع تجبر وتكبر، وكذا التي يمسح بها الوضوء أو يمتخط بها.
وقيل: إذا كان عن حاجة لا يكره، وهو الصحيح، وإنما يكره إذا كان عن تكبر (4وتجبر(2) وصار كالتربع في الجلوس.انتهى(3).
وقال العيني(4) في شرحها(5): أي قال محمد في ((الجامع الصغير)):
وصورته: محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة: إنه كان يكره هذه الخرقة التي يمسح بها العرق.
صفحة ٢٠
وقال فخر الإسلام البزدوي(1) في ((شرح الجامع الصغير)): وكذلك الخرقة التي يمسح بها الوضوء بدعة محدثة(2)، يجب أن تكره؛ لأنها لم تكن(3) في عهد رسول الله، ولا أحد من الصحابة والتابعين قبل ذلك، وإنما كانوا يتمسحون بأطراف أرديتهم.
وقال الفقيه أبو الليث(4) في ((شرح الجامع الصغير)): كان الفقيه أبو جعفر(5) يقول: إنما يكره ذلك إذا كان شيئا نفيسا؛ لأن في ذلك فخرا وتكبرا.
صفحة ٢١
وأما إذا لم تكن(1) الخرقة نفيسة فلا بأس؛ لأنه لا يكون فيه كبر.
وقول المصنف(2): هو الصحيح: أي هذا القول هو الصحيح، وكذا قال في ((جامع قاضي خان))(3)، والمحبوبي(4)؛ وذلك لأن المسلمين قد استعملوا في عامة البلدان مناديلا(5) في الوضوء، كيف وقد روى الترمذي في ((جامعه)):
حدثنا سفيان بن وكيع قال: حدثنا عبد الله بن وهب عن زيد بن حبان عن أبي معاذ عن الزهري عن عروة عن عائشة، قالت: ((كان لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم خرقة ينشف بها بعد الوضوء))(6). انتهى كلامه(7).
فرع:
صفحة ٢٢
ينبغي أن تكون الخرقة التي تمسح بها أعضاء الوضوء نظيفة(1) طاهرة(2)؛ لشرافة ماء الوضوء، ويكره أن يمسح أعضاءه بالخرقة التي مسح بها موضع الاستنجاء، كذا في ((المنية))(3).
وذكر صاحب ((الطريقة المحمدية))(4): إنه ينبغي أن لا تكون(5) الخرقة التي ينشف بها مما كتب فيه شيء من أسماء الله، أو غير ذلك؛ تعظيما للحروف.
تنبيه:
ذكر أصحابنا أن الولاء في الوضوء مستحب، وفسروه بأن يغسل عضوا قبل أن يجف العضو الأول مع اعتدال الهواء والبدن، فلو مسح العضو الأول بالمنديل ثم غسل العضو الثاني، هل يكون ذلك مفوتا للولاء؟ فيه خلاف:
فنقل في ((معراج الدراية)) عن الحلواني(6): تجفيف الأعضاء بالمنديل قبل غسل القدمين لا يفعل؛ لأن فيه ترك الولاء. انتهى.
صفحة ٢٣
وذكر في ((جامع الرموز))(1) خلافه، حيث قال في تفسير الولاء بالكسر: لغة: المتابعة، وشرعا: متابعة فعل بفعل بحيث لا يجف العضو الأول عند اعتدال الهواء، فلو جفف الوجه أو اليد بالمنديل قبل غسل الرجل لم يترك الولاء، بخلاف ما في ((التحفة))(2)، و((الاختيار))(3)، و((المصفى))(4):من أن لا يشتغل بين الأفعال بغيرها، فإنه على هذا الوجه لو جفف لترك، ولذا منع عنه بعض المشايخ كما في الزاهدي(5) . انتهى(1).
والنظر الدقيق يحكم بأصحية هذا لا ذاك فدقق النظر.
- مسألة -
لا بأس بالتمسح بالمنديل بعد الغسل
كما في ((معراج الدراية))، وصرح صاحب ((المنية))(2): باستحبابه، قال صاحب ((البحر))(3): لم أره لغيره(4).
وروى النسائي عن ابن عباس: ((إن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم اغتسل فأتى بمنديل فلم يمسه وجعل يقول بالماء هكذا))(5).
وروى أبو داود، والبخاري، ومسلم، والنسائي، وابن ماجه، وغيرهم في حديث ميمونة في صفة غسل رسول الله صلى الله عليه وعلى
آله وسلم قالت: ((فناولته ثوبا فلم يأخذه فانطلق ينفض يديه))(6).
صفحة ٢٥
وفي رواية النسائي: ((ثم أتيته بالمنديل فرده))(1).
زاد أبو داود(2) بعد روايته عن الأعمش(3)، وهو من رواته، فذكرت ذلك لإبراهيم، فقال: كانوا لا يرون بالمنديل بأسا، ولكن كانوا يكرهون العادة.
صفحة ٢٦
قال القسطلاني(1) في ((إرشاد الساري)): استدل به على إباحة نفض اليد في الوضوء والغسل ورجحه في ((الروضة))(2) و((شرح المهذب))(3)، إذ لم يثبت في النهي عنه شيء(4)، والأشهر تركه؛ لأن النفض كالتبري من العبادة، فهو خلاف الأولى، وهذا ما رجحه في ((التحقيق))، وجزم به في ((المنهاج))(5)، وفي ((المهمات)): إن به الفتوى؛ لأنه نقله ابن كج(6) عن نص الشافعي. انتهى(7).
صفحة ٢٧