قال ابن جني في «الخصائص»: «لسنا نشك في بعد لغة حمير ونحوها من لغة ابني نزار؛ فقد يمكن أن يقع شيء من تلك اللغة في لغتهم فيساء الظن بمن سمع منه، وإنما هو منقول من تلك اللغة، ودخلت يوما على أبي علي - رحمه الله - خاليا في آخر النهار، فحين رآني قال: أين كنت؟ أنا أطلبك، قلت: وما ذلك ما تقول فيما جاء عنهم من حوريت، فخضنا معه فيه فلم نحل بطائل منه، فقال: هو من لغة اليمن، ومخالف للغة ابني نزار، فلا ينكر أن يجيء مخالفا لأمثلتهم.»
وقال ابن دريد في كتاب «الاشتقاق»، وهو كتاب في اشتقاق أسماء المشهورين من العرب بعد أن ذكر أسماء مهرة بن حيدان: «وقد تقدم قولنا في أن هذه الأسماء المستشنعة مشتقة من أحرف قد أميتت.»
ومهرة قد انقطعوا بالشحر فبقيت لغتهم الأولى الحميرية لهم يتكلمون بها إلى هذا اليوم.
وقال في أسماء قبائل ذي الكلاع: «قد عرفتك آنفا أن هذه الأسماء الحميرية لا نقف لها على اشتقاق؛ لأنها لغة قد بعدت، وقدم العهد بمن كان يعرفها.» ومن وقف على القلب والإبدال والنحت، وبرع في إرجاع المواد المختلفة إلى مادة واحدة على الطريقة التي أشرنا إليها، وعرف مع ذلك الأصل الأول في المادة الواحدة؛ فقد أشرف على اللغة، ووقف على أسرارها، وقوي أنسه بها.
في أن معرفة الأصل الأول في المادة الواحدة أمر مهم الاتباع
ومعرفة الأصل الأول في المادة الواحدة أمر مهم، وقد قال به بعض علماء الاشتقاق، مثال ذلك مادة «ش ج ر» فإنهم ذهبوا إلى أن الأصل فيه «الشجرة» المعروفة ذات الأغصان، وكل ما في هذه المادة راجع إليها، تقول: «شجر الأمر بين القوم.» إذا اختلف واختلط، وتأويله اختلف واختلط كاختلاف أغصان الشجرة واختلاطها، واشتجر القوم وتشاجروا إذا اختلفوا أو تنازعوا، وشجره بالرمح إذا طعنه به، وتأويله أنه جعله فيه كالغصن في الشجرة، وشجر بيته إذا عمده بعمود، وشجر الشجرة إذا رفع ما تدلى من أغصانها، إلى غير ذلك. فكل ما تفرع من هذه المادة فأصله الشجرة عندهم، وقس على ذلك ما لا يحصى من الكلم، مثل مادة: «ظ ه ر» فإن الأصل فيه الظهر، ومثل مادة «ب ط ن» فإن الأصل فيه البطن، وقد أنحى عليهم بالملام قوم هم أحق بذلك منهم؛ فإن الأمر في نفسه صحيح لكن الطريق إليه قد تخفى معالمه، فخذ ما صفا ودع ما كدر.
ومن الغريب إطلاق العقيرة على الصوت في قولهم: رفع فلان عقيرته، والعقيرة: الساق المقطوعة، وأصله أن رجلا قطعت إحدى رجليه فرفعها ووضعها على الأخرى وصرخ؛ فقيل بعد ولكل رافع صوته: قد رفع عقيرته. قال ابن جني في الخصائص: «توقف أبو بكر عن كثير مما أسرع إليه أبو إسحاق من ارتكاب طريق الاشتقاق، واحتج أبو بكر عليه بأنه لا يؤمن بأن تكون هذه الألفاظ المنقولة إلينا قد كانت لها أسباب لم نشاهدها ولم ندر ما حديثها، ومثل له بقولهم: «رفع عقيرته.» أي رفع صوته، قال له أبو بكر: فلو ذهبنا نشتق لقولهم: «ع ق ر» من معنى الصوت لبعد الأمر جدا، وإنما هو أن رجلا قطعت إحدى رجليه فرفعها ووضعها على الأخرى، ثم نادى وصرخ بأعلى صوته، فقال الناس: رفع عقيرته، أي رجله المعقورة، قال أبو بكر: فقال أبو إسحاق لست أدفع هذا. ولذلك قال سيبويه في نحو من هذا أو لأن الأول وصل إليه علم لم يصل إلى الآخر.» ولا يخفى أن مثل هذا قليل، ولو سددنا باب البحث خشية من وقوع الخطأ في بعض المسائل لانسد باب العلم، وبقيت أكثر الفنون في حال الكمون. نعم، في مثل ذلك زاجر لمن لا يتروى في المسائل ولا يعد في الاستنباط ما يلزمه من الوسائل، ومن هذا النوع كذب في الإغراء، فإن ظاهره يبعد عن ذلك، يقال كذب كذا أي عليك به، قال عنترة:
كذب العتيق وماء شن بارد
إن كنت سائلتي صبوحا فاذهب
أي: عليك بالعتيق، قال محمد بن السري: «إن مضر تنصب به واليمن ترفع.» ومعنى كذب عليك البزر أي الزمه وخذه، ووجه ذلك أن الكذب عندهم في غاية الاستهجان ، ومما يغري بصاحبه، ويأخذه المكذوب عليه؛ فصار معنى كذب فلان الإغراء به؛ أي الزمه وخذه فإنه كاذب، فإذا قرن بعليك صار أبلغ في الإغراء كأنك قلت: افترى عليك فخذه، ثم استعمل في الإغراء بكل شيء وإن لم يكن مما يصدر منه الكذب، كقول بعضهم لمن شكا إليه المعص، وهو التواء في عصب الرجل: كذب أي عليك العسل؛ أي وهو بالعسلان وهو مشي الذئب، أي: عليك بسرعة المشي.
صفحة غير معروفة