فقه تغيير المنكر
الناشر
الكتاب منشور على موقع وزارة الأوقاف السعودية بدون بيانات
تصانيف
فقه تغيير المنكر
د / محمود توفيق محمد سعد
تقديم بقلم: عمر عبيد حسنة
الحمد لله القائل: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ .. (آل عمران: ١١٠)، الذي جعل خيرية هذه الأمة وتميزها، وقوامها، وكيانها، وخلودها، واستمراريتها، منوطا بقيامها بالحق، والدعوة إليه، والنشر له، والإغراء به، واستمرار حراسته، والدفاع عنه، حيث لم يرض الله لها - وهي أمة الرسالة الخاتمة - أن تكون صالحة بذاتها، بل لا بد أن تكون صالحة بذاتها، مصلحة لغيرها، مضحية في سبيل تمكين الحق، مدافعة للباطل، حتى تستحق صفة الخيرية، والتميز، والفضل.
قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ (المائدة: ٨) .
1 / 1
ذلك أن الخاتمية تعني فيما تعني: توقف النبوات: وتوقف النبوة، يعني: توقف التصويب من السماء، لأي منكر وخروج وانحراف - لذلك لا بد من أن تكون القوامة على الحق ويكون التصويب مستمرا، لأن الشر من لوازم الخير، والمنكر من لوازم المعروف، والتدافع بين الخير والشر، والمعروف والمنكر، من سنن الله الاجتماعية في الخلق، قال تعالى: ﴿كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ﴾ (الرعد: ١٧) . وقال: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا﴾ .. (الحج: ٤٠) .
1 / 2
ولولا هذا الضرب، بين الحق والباطل، وهذا التدافع، بين الخير والشر، لتوقف التاريخ، وانتهت الحياة، وتوقف الاختيار، ولم يبق أي معنى للتكليف وأي مدلول للابتلاء، لذلك جعل الله التصويب في الرسالة الخاتمة، وفي أمة الرسالة الخاتمة ذاتيًا، يمارس في ضوء قيم وهدايات وثوابت الوحي، وجعله تكليفًا شرعيًا، يتحدد بمقدار الاستطاعة، وسبيلًا لاستمرار الأمة، ومناط خيريتها، وتميزها، كما أسلفنا.
ذلك أنه لا معنى لخلود الرسالة، الذي يعني استمرار الحق، واستمرار حراسته، والقيام به، وتقديم النماذج التي تجسدها في كل زمان ومكان، إِذا لم يستمر التصويب ويستمر التجديد وإنتاج النماذج وتستمر الأمة القائمة به.
1 / 3
والصلاة والسلام علي الذي بُعث في الأمة رسولًا منها، يتلو عليها، آيات الله، ويزكيها، ويعلمها الكتاب والحكمة، ويضع عنها إِصرها والأغلال التي كانت عليها، يشهد عليها، ويصوب مسارها لتتحقق لها صفة الخيرية، وتتأهل بشهادة الرسول ﷺ عليها، لتكون شهيدة على الناس إلى قيام الساعة، فهي أمة القيادة بما أورثها الله من الكتاب، واصطفاها له، لأنها وحدها التي تمتلك الإمكان الحضاري، إمكان التصويب، بما اختصت من قيم السماء الصحيحة، وتمتلك الشهادة على الناس، ولهم، بما تحقق لها من شهادة الرسول ﷺ، قال تعالى: ﴿وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ ... (الحج: ٧٨) .
وبعد:
1 / 4
فهذا كتاب الأمة الحادي والأربعون: «فقه تغيير المنكر» للدكتور محمود توفيق محمد سعد، الأستاذ في جامعة الأزهر، في سلسلة كتاب الأمة، التي يصدرها مركز البحوث والدراسات، بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة قطر، مساهمة منه في استرداد شخصية المسلم المعاصر المتوازن الذي يعيش التوحيد الحقيقي والانسجام العملي، بين معارف وهدايات الوحي المعصوم في الكتاب والسنة، ومدارك ومكتسبات العقل، أو بين صحيح المنقول، وصريح المعقول، كما يقول الإمام ابن تيمية ﵀ ويتخلص من الثنائية وألوان الشرك الذي يؤدي إلى الانشطار الثقافي والمعرفي، الذي كان ولا يزال وراء التمزق والضلال الثقافي، للوصول إلى إعادة إخراج الأمة المسلمة، وتحقيق شهادة الرسول ﷺ عليها، وبناء خيريتها، لتكون مؤهلة للشهادة على الناس والقيادة لهم، هذه الخيرية التي تجيء ثمرة لتكليف، ومجاهدة، ومعاناة، وتضحيات في سبيل التصويب والمناصحة، التي تحققها حسبة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لتقويم سلوك المجتمع المسلم بشرع الله، وحمل الرحمة للإنسانية جمعاء، وإيقاف تسلط الإنسان على الإنسان الذي هو مصدر الشر
1 / 5
والشرك في العالم، وتأمين حرية الإنسان في الاختيار، وتحقيق عبوديته لله، وتحريره من سائر العبوديات، وفي ذلك استرداد لإنسانيته، وتحقيق لكرامته، التي تميزه عن سائر المخلوقات.
1 / 6
الفصل الأول
التغيير ضرورة وغايةً
بيان السنة ضرورة التغيير
إن منهج الإسلام في بناء المسلم عقيدةً وسلوكا لا يرمي إلى أن يجعله صالحًا في نفسه فحسب، بل يتجاوز ذلك إلى أن يجعله الصالح المصلح، فيه يتحقق الوجود المتمكن للأمة المسلمة، وبه ترتقي الأمة من طور الاتصاف (بالإسلامية) انتسابًا إلى أفق (المسلمة) سلوكا ووجودا.
المسلم الصالح في نفسه فحسب، به تكون الأمةُ الإسلامية، ولا تقوم به الأمة المسلمة، فإنَّ المسلمة أمة صالحة في نفسها مصلحة ما حولها. ومن ثمَّ كانت دعوة الإٍسلام رامية دائمًا إلى الصلاح والإصلاح معًا، ولن يكون إصلاح البتة إلا بتحقق الصلاح الذاتي وتمكنه.
يقول الله تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (التوبة: ٧١) .
﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا﴾ (طه: ١٣٢) .
1 / 7
﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ (الحج:٤٠ـ ٤١) .
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا﴾ (التحريم: ٦)
في تلك الآيات وغيرها يمتزج الصالح بالمصلح ليشكل كنه المسلم الذي به تقوم الأمة المسلمة، التي لا تستقيم حركة الحياة بغير قيادتها وريادتها.
وفي السنة أحاديث كثيرة، يمتزج فيها الصلاح بالإصلاح:
1 / 8
عن درة بنت أبي لهب، قالت: «قام رجُلٌ إلى النبيَّ ﷺ وهو على المنبر فقال: يا رسول الله! أيَّ الإسلام خير؟ فقال ﷺ: خير الناس أقرؤهم وأتقاهم وآمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأوصلهم للرحم» . امتزج الصلاح الذَّاتي (أقرؤهم وأتقاهم) بالإصلاح الجمعي (آمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر، وأوصلهم للرحم)، فليس (الإقراء) حسن التلاوة والحفظ فحسب، بل هو إلى ذلك أيضا: حسن فقه ما يقرأ، وحسن تطبيقه وطاعة ما به أمر وعنه نهي.
فالأمة المسلمة لا يكون المرء فيها صالحًا في نفسه، منصرفا عن غيره، مشتغلا بحاله، بل هو صالح في نفسه، ومصلح لما حوله ثانيا: إنسانا وكونا.
والحق ﷿ جعل هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس بصلاحها وإصلاحها معًا: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ (آل عمران: ١١٠) .
1 / 9
فهي أمة أخرجت للناس، أي لما فيه صالحهم، وقد جعل قوله: ﴿تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ﴾ ... إلخ شرط هذه الخيرية، وبيان كونها أخرجت للناس ولمصلحتهم. وقد فقه الصحابة ﵃ ذلك فقها بالغًا، فتحققت بهم فقها وسلوكًا الأمة المسلمة، كما يحبها الله تعالى: عن عمر بن الخطاب ﵁ قال: لو شاء الله لقال (أنتم خير أمة) فكنا كلنا ولكن قال (كنتم) فهي خاصة لأصحاب محمد ﷺ ومن صنع صنيعهم، قوله (من صنع صنيعهم): بيان أن من تحقق فيه كما تحقق في أصحاب النبي ﷺ من الصلاح والإصلاح في القرون التالية إلى يوم القيامة، فهو منهم.
وقد فسرها أبو هريرة أيضا تفسيرا كاشفا عن حقيقة هذه السِّمة الرافعة للأمة من طور (الإسلامية)، إلى أفق (المسلمة):
روى البخاري عن أبي هريرة ﵁: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ قال: خير الناس للناس: تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم، حتى يدخلوا في الإسلام.
1 / 10
ليس في هذا دعوة إلى إكراه الناس على الإسلام، وقسرهم عليه، فإن سيدنا أبا هريرة أفقه وأحكم من أن يفسرها تفسيرًا يصطدم مع قول الله تعالى:
﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ (البقرة: ٢٥٦) .
ولكنه فسرها تفسير أهل الحكمة والبلاغة العالية: إنه يريد، إنكم تكونون خير الناس للناس، إذا ما دعوتموهم إلى الإسلام بالحكمة والقدوة والأسوة والسلوك الملتزم هدي الله تعالى في كل حال، وبالحلم والأناة والصبر والمصابرة فتأسرونهم وتأخذون بمجامع قلوبهم وعقولهم فقهًا وسلوكًا، فينقادون لكم وللدخول في الإسلام إعجابًا واقتناعًا، كانقياد الأسير المغلول في السلاسل، فهو أسر دعوة وقدوة وأسوة، لا أسر أغلال وأصفاد، فسيدنا أبو هريرة عليم بأن قسر امرئ على عقيدة ما، لا يكون خيرًا له، ولو أنه أراد ظاهر عبارته لكان صدرها متناقضًا مع عجزها، كما لا يخفى، وأبو هريرة، أحكم من أن يختلط عليه ما يقول.
1 / 11
ففي الآية بيان حقيقة الأمة المسلمة، وقوامها: فعل الخير والدعوة إليه والإعانة عليه، وترك الشرِّ والنهي عنه، حتى تستقيم حركة الحياة، فإن بذلك بقاء الحياة وصلاحها، ولذلك جعل النبي ﷺ الحياة في هذه الأرض كمثل الحياة في سفينة تمخر عباب البحر، لا نجاة لها، ولمن فيها، إلا بالدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والأخذ على أيدي المفسدين.
1 / 12
بيان السنة ضرورة التغيير
عن النعمان بن بشير ﵄ عن النبي ﷺ قال: «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها، إذا استقوا من الماء مرّوا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا، ولم نؤذِ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادُوا هلكُوا جميعا، وإن يأخذوا على أيديهم، نجوا ونجوا جميعا» .
الصورة التي يقدمها النبي ﷺ لواقع الحياة على هذه الأرض، وعلائق الناس فيها، ببعضهم، ومسؤوليتهم في الحفاظ على بقائها وصلاحها صورة منتزعة من واقع مشاهد، لا يتأتى لأحد أن يجادل، أو يتوقف فيه البتة، فلن يكون منه إلا التسليم بما ينتهي إليه التصوير والمقارنة والموازنة، من هدي يأخذ بأيدي الناس إلى التي هي أهدى وأقوم، اقتناعا واطمئنانا، فينقادون إليه انقياد ذي الأغلال، إلى خير، يرمى به إليه.
1 / 13
يشبه الرسول ﷺ، القائم على حدود الله تعالى، المراقب لها، الواقف عند حماها في جميع شأنه، والواقع فيها، الراتع المنهمك المستمر في انتهاكها، فلا يرعوى، يشبه هذين الصنفين - وفي رواية لأحمد يضيف إليهم المداهن في حدود الله. المصانع المنافق، المزين لانتهاك الحرمات، الساكت عن ذلك. الانتهاك، تحت ستار الحرية - يشبه هذه الأصناف الثلاثة وعلائقهم ببعضهم على ظهر هذه الأرض، بقوم شاءوا السفر في سفينة تمخر عباب البحر، فكان بينهم استهام المنازل واقتسامها، فكان لبعضهم أعلاها، وكان لبعضهم أسفلها، وهو أوعرها وشرها كما في رواية لأحمد - وكذلك منازل الناس في الحياة على هذه الأرض - وكان الذين في أسفلها في حاجة إلى أن يستقوا ماءً، فإذا استقوا مرّوا على من فوقهم، النازلين اقتراعًا أعلى السفينة، فكان ضرورة أن يَصُبّ الأسفلون عند مرورهم على الأعلين، فتأذى الأعلون، وفي رواية للترمذي وأحمد «فقال الذين في أعلاها: لا ندعكم تصعدون فتؤذوننا» فثقل ذلك على الأسفلين: كما في رواية لأحمد «فقال الأسفلون: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا فاستقينا منه ولم نمرَّ على أصحابنا فنؤذيهم»،
1 / 14
وفي رواية للبخاري: «فأخذ فأسًا فجعل ينقر أسفل السفينة فأتوه فقالوا: ما لك؟ فقال: تأذيتم بي ولابد لي من الماء» وهنا برز صنيع المداهنين المصانعين، الذين يبغون الفتنة في الأرض، تحت شعار الحرية الشخصية، فقال بعضهم كما في رواية للإمام أحمد: «إنما يخرق في نصيبه»، وقال الآخرون: لا، فإن أخذوا على يدي ذلك الخارق، ولم ينخدعوا بمقاله المداهن، الرافع شعار «الحرية الشخصية» نجا الجميع، وإِن تركوه يخرق في نصيبه خرقًا هلكوا جميعًا.
هذا التفصيل لوقائع الأحداث في المشبه به (أصحاب السفينة) يشير إلى وقائع مثلها في حياة الناس، في هذه الأرض.
والرسول ﷺ اختار موقع أحداث المشبه به سفينة، وهو مكان دال على عظيم تعرضه للمخاطر الجسام، التي لا تخفى، ليهدي الناس إلى أنَّ هذه الأرض، وما عليها، لا تقل تعرضاَ للمخاطر الجسام عما تتعرض له السفينة في بحر لجيَّ، قد تكون خطايا بعض ساكنيها سببا لهلاك جميعهم حين لا يأخذون على أيديهم.
1 / 15
قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ (الأنفال: ٢٤ - ٢٥) .
1 / 16
هذه الصورة الكلية التي رسمها النبي ﷺ، ببيانه الحكيم تجمع بين واقعين متشابهين متماثلين: واقع ممتد عبر الحياة زمانًا ومكانا، هو واقع القائمين على حدود الله، الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وواقع الواقعين فيها، التاركين للمعروف، المرتكبين للمنكر، وواقع المداهنين المصانعين في الحق، الساكتين على الشر، يقابل ذلك الواقع واقع قريب إلى الأذهان والأبصار لا يكاد يغفل عنه، أو يجهله أحد من الناس، هو صورة المشبه به: صورة تجعل المتلقي كأنه يرى الأحداث تجري أمام عينيه: يرى سفينة في بحر لجيّ، يقبل قوم على الإبحار فيها، ويرى تقاسم القوم، واستهامهم مواقع فيها، فإذا قوم في أعلاها، وقوم في أسفلها. هكذا تبدأ الأحداث، دون أن يكون فيها ما يخرجها عن سنن العدالة، وكذلك تبدو الحياة على الأرض، ثم تأتي ضرورات الحياة وحاجاتها، وأثرها في مجرياتها، وعلائق الناس بعضهم ببعض وفقا لمناهجهم في التعامل مع تلك الضرورات والحاجات ومن تكون عندهم، فالأعلون ممتعون بالاستقاء دونما حاجة إلى مرور على غيرهم، فتتحقق ضروراتهم وحاجاتهم دونما اصطدام بالآخرين وكذلك طائفة من الناس في هذه
1 / 17
الحياة.
والأسفلون يقتضي تحقيقهم ضرورات حياتهم ومصالحهم المرور على غيرهم والاصطدام بهم، فإذا هم أمام أمرين عظيمين:
· ضرورة تحقيق ضروراتهم وحاجاتهم.
· ضرورة الاتصال بالآخرين والاحتكاك ببعض شؤونهم.
وتلك حال الجمهرة الكاثرة من الناس في هذه الحياة، وهنا تكون الحكمة والحنكة، وتقدير الأمور بمقاديرها، وفقًا لما يقضي به حسن البصيرة والفراسة، واستبصار العواقب من الأسفلين، ومن شاكلهم، وهنا يكون الإيثار والصبر الجميل، والاحتساب والفضل من الأعلين، ومن شاكلهم.
الرسول ﷺ في هديه هذا يرسم لنا صورة لما هو الغالب على الطائفتين في الحياة: الأعلين والأسفلين، فلا أيثار ولا احتساب ولا فضل من الأعلين، ولا حكمة ولا حسن بصيرة من الأسفلين. فيصور لنا الأعلين، وقد تأذوا من مرور الأسفلين عليهم، والمرور حقهم وضرورة من ضروراتهم، فكان هذا من الأعلين غير حميد.
1 / 18
إِنَّ اقتسام الأشياء عدالة وارتضاء، لا ينفي أن يكون للآخرين بها بعض الحق ولو من وجه خفي، فليس الذي يملكه هذا، بِخال من حق الآخرين فيه، فكل أمر الإنسان وشأنه وماله من الموجودات حسًا، ومعنى، لغيره فيه بعض الحق: جسده وعقله وقلبه، ماله وولده وعلمه، تقواه وقدره وجاهه ... إلخ.
وما يكون لأحد، ولا ينبغي له أن يتبرم من أن يستعمل الآخرون ما لهم من حق، فيما ملكت يده بفضل الله تعالى. وغير قليل من الناس تضيق نفوسهم حين يطلب الآخرون حقوقهم عندهم، فترتسم آيات الضجر على الوجوه، وقد تلفظ الأفواه كلماتٍ طاعنات، وقد تمتد الأيدي، بما يؤذي الطالبين حقًا لهم، وما ذلك بالمنهج الأمثل في الإسلام.
الأمثل إسلامًا، إظهار البشاشة والرضا، حين يطلب الآخرون حقوقهم، بل من حقهم على من تكون حقوقهم في أيديهم، أن يبثوا في نفوسهم رضاهم باستخدام حقهم المتعلق بما ملكت أيديهم، ويوحون إليهم، أن أخذه منهم أحبُّ إليهم، أو كمثل حبهم هم، أن يأخذوا ما لهم عند غيرهم، فقد هدى النبي ﷺ إلى ذلك بقوله: «لا يؤمن أحدكم حتى يُحبَّ لأخيه ما يحب لنفسه» .
1 / 19
وفيما ذكره النبي ﷺ من حال الأعلين، تصوير لما يكون من بعض الأمة من دافعات إلى الخطايا، وإن كثيرًا مما يقترفه الجاهلون، يحمل جمع من غيرهم أوزار حملهم عليه واضطرارهم للتردي فيه، بما يكون منهم، من أساليب حاملة على ذلك. منها ما هو مقصود، ومنها ما هو عن غفلة وجهالة.
من مسؤولية الأعلين ومن ضارعهم في الأمة، أن يعتصموا من حمل غيرهم على التردي في الخطايا.
الغني حين يمتنع عن أداء زكاة ماله، أو يتأخر في إخارجها، يحمل بعض الفقراء على التردي في بعض الخطايا: سرقة، أو استجداءً أو احتيالًا، فتُخرَقُ السفينة.
الزوج حين يحرم زوجه من بعض حقوقها الحسية والمعنوية، يحملها على أن تسقط في مستنقع النشوز أو الخيانة، فتُخرقُ السفينة.
الأب حين يحرم بنيه بعض حقوقهم، يحملهم، على التردي في هاوية العقوق، فتُخرقُ السفينة.
المعلم حين يحرم تلاميذه بعض حقوقهم، فلا يحسن إعداد نفسه علمًا وصنعة، ولا يخلص في تعليمهم، يحمل بعضهم على أن يختلس العلم، أو يسرقه عند اختباره، فتُخَرقُ السفينة.
1 / 20