وعادت القافلة كما جاءت لتوصل فوزية، وظل حمزة وقتا طويلا صامتا يفكر في ذهول مقرون بفرحة وثمة عواطف كثيرة تجتاحه، كان يفكر في ما كان من أبو دومة ويخجل من نفسه ومما أطلقه على الرجل من أحكام، ويفعل هذا برهبة وكأنما تفتحت عيناه على مخبأ حقائق مجهولة، وفي النهاية قال لفوزية: شفتي بقى يا ستي اتجوزته ليه؟ راجل عجيب، كل يوم بيمر على الواحد في المعركة بيتعلم منه حاجات كتير، أنا كنت طول عمري باتكلم عن الشعب وبيخيل لي دلوقتي إني ما كنتش مدرك بعمق ايه طبيعة الكلمة دي، فهماني ازاي؟ أبدا دي مش كلمة بتطلق جزافا، دي حقيقة حية، احنا عايشين فيها، يعني أبو دومة ده تفتكري الواحد كان ممكن ح يلمس حاجة زي اللي حصلت الليلة إلا من خلال المعركة ، كان عمره حتتفتح له الكنوز الموجودة وعايشة في قلب الناس ومغطيها الألم والحاجة، تعرفي أنا حاسس بتغيير كبير بيطرأ علي من يوم ما عرفتك، فيه حاجات كتير ما كنتش شايفها شفتها، وحاجات مكنتش لامسها خلتيني ألمسها وأقدرها. أنا كنت باكافح زمان لأني كنت مجرد إنسان حاقد على الظلم والأعداء، إنما الاستعمار ممكن ينتهي والظلم ممكن يتشكل والقضية مداها أبعد من كده بكثير، القضية مش قضية الأعداء، لأ، دي قضية الشعب وأهدافه، اللي يحلها هو إيمان الواحد بالشعب أولا وقبل كل شيء، فهماني ازاي؟ يعني زمان كنت ثائر عشان كنت حاقد فقط على الأعداء ومؤمن بضرورة زوالهم، دلوقتي بكافح لأني مش بس باكره الأعداء، إنما لأني أولا حبيت الناس وآمنت بضرورة سعادتهم. كان زمان اللي بيحركني هو الحقد، والحقد أجله قصير، دلوقتي اللي بيحركني الحب والحب مداه بعيد.
كان القمر قد غاب، والظلام الدامس قد حل، والجبانة أصبحت بحلكتها التامة، وكأنها قبر خانق كبير، ومع هذا مشت فوزية تستمع لما يقوله وقد صنعت كلماته ما لم تصنعه في نفسها قبلاته ولا صدره الدافئ، فأذهبت عنها كل روع ولم يعد في كيانها ذرة خوف.
واستطرد حمزة بنبرات تحفل بإيمان نظيف ليس فيه شوائب وكأنما ينطق بلسان كل المثل العليا التي حلمت بها وصاحبتها، ويخرج حديثه همسا قويا يكاد يؤرق الموتى ويحيي العظام وهي رميم: أنا كان ممكن أقعد أتكلم كتير عن حبي وإيماني بالناس، إنما دي معاني مجردة مش ممكن توجد إلا بالعمل، واحنا ضيعنا وقت كتير ولازم نبتدي، ونبتدي بالناس اللي حوالينا، احنا قدامنا حاجات كتير لازم نعملها.
فقاطعته فوزية قائلة في حماس: بس الناس اللي حوالينا مش شايفة فيهم حد ينفع. - إزاي ما فيهمش حد؟ شوفي يا فوزية، صحيح فيه ناس أحسن منهم بس لازم تعرفي إن في كل إنسان جزء طيب ونضيف وثوري وعلى استعداد لخدمة المجموع، وجزء آخر وحش وفردي ومناقض له تمام، فهماني ازاي؟ تجربة الاختفاء والإحساسات اللي باحملها ليكي علمتني إني أعامل الأجزاء الطيبة في الناس ، وصحيح أحذر من أجزائها الأخرى إنما لا أعاملها، لازم حنلقى في كل واحد من اللي حوالينا حاجة كويسة، علينا إننا ننميها ونكبرها، وبكده نخلق منهم ناس كويسين، فاهماني ازاي؟ يعني نساعد الجزء الصالح فيهم على أنه يقهر الجزء الضار، وبكده الناس حتنتظم وتقاوم لأن المقاومة هي مجموع الأجزاء الصالحة في الناس، وهي دي الي بتدفع المجتمع لقدام، وهي دي اللي بتغير. - بس يعني يا حمزة واحد زي، زي، زي سعد مثلا، إيه الجزء الصالح اللي فيه؟ - كويس جدا اللي جبتي المثل ده، سعد أكيد فيه جزء كويس، إنما لما فقد اتصاله بينا سيطر عليه الجزء الآخر وانحل، ومش ممكن حيتصلح أبدا بأننا نقعد نشتمه ونقول وحش ومتردد، مهمتنا دلوقتي إنه يبتدي يشتغل وبكده بس حيتطور. - أما نشوف. - أنا متأكد من النتيجة، أنا زمان ماكنتش بافكر بالطريقة دي أبدا، دا الواحد أكيد اتغير، المكان ده قلعة، واحنا ضيعنا وقت كبير، لازم نبتدي. - دي مافيهاش خلاف يا حمزة، بس حنعمل إيه؟ - حافكر الليلة في اللي ممكن نعمله، وفكري انتي رخره كمان.
وسكتت فوزية قليلا ثم قالت: تعرف يا حمزة، حاجة غريبة خالص، أنا مش عارفة كل حاجة تقولها باقتنع بيها، أنا بيتهيأ لي إنك ممكن تقنعني ببساطة إني مجنونة مثلا. - ودي عايزة إقناع.
وضحكا، وسألته فوزية عن الساعة، كانت تدور حول منتصف الليل.
وكانت القافلة قد اقتربت من العمار، فودعها حمزة بعد أن أعطاها نقودا لتعود بها، ووجد عناء كبيرا في إقناع أبو دومة بعد مرافقتها حتى لا يراهما أحد معا.
وحين ابتسمت له وهي تكاد تتهاوى من التعب كان صدره يغلي بالحقد على الذين يمنعونه من مصاحبتها، وكان قلبه يعمر باطمئنان دافئ صنعه الحب، الحب العميق الذي بدأت تمتد له جذور ويصبح له تاريخ.
16
وأخيرا جدا رقد حمزة على الفراش الوثير والتف بالبطاطين الوبر، ومدد ظهره المنهك وهو يتثاءب ويستمتع بالرقدة وبالدفء، وكأنها صدر ديك رومي يلتهمه بعد يوم كامل من الجوع، وكان الإنهاك قد بلغ به الدرجة التي يتمنى فيها الإنسان أي مكان يستطيع أن يستلقي فيه، حتى ولو كان قبر داود باشا نفسه.
صفحة غير معروفة