وإذا كنت قد ناقشتك أحيانا وتحدثت معك عن الكفاح والعمل والواجب، فما كان ذلك لإيماني، بل كان لأنني وددت دائما أن أرضيك.
ولما عثرت عليك بعد الحريق وعرفت أنك مختف، اجتذبت انتباهي الحياة الغريبة التي كنت تحياها، الحياة التي تعادي فيها حكومة ويطاردك فيها بوليس الدولة، الحياة التي تتنكر وتلبس من أجلها النظارات السوداء والطرابيش، والتي فيها حذر وذكاء وتربص وقلق.
كانت حياة مثلها رائعة بالقياس إلى حياتي القانونية الراكدة: تلميذات وبيت وكراريس وطبيخ، اجتذبتني إلى حياتك وما فيها من مغامرة، مغامرة كانت تضرب على وتر حساس في نفسي، فبرغم اعتزازي بشخصيتك وإعجابي بك كنت أتصور أن لجنتكم هذه تحيطها أسرار وعملكم كله طلاسم، وأن لكم مثلا رؤساء يختفون في بيوت تحت الأرض متزمتين وصارمين ويرتدون ملابس غامقة ويملون عليكم أوامرهم بالتليفون، ومن يخالف هذه الأوامر يضرب بالرصاص وهو ماش في الشارع. وكنت دائما أتصور رئيسكم الكبير شابا صغيرا وسيما، أبيض وله شعر أسود وقد شاب فوداه ويرتدي دائما حلة سوداء، جالسا طول النهار يتلقى الأخبار ويتكلم مرة واحدة في اليوم ثلاث أو أربع كلمات، فيأخذها مساعدوه ويشرحونها في صفحات فلسكاب كثيرة، ويوزعونها عليكم لتنفيذها. لا تضحك يا حمزة؛ فقد وعدتك أن أصارحك بكل خلجات نفسي وسأفعل، اجتذبتني أنت وحياتك والأسوار التي تحيط بكم تماما؛ ولهذا فلو لم تعرض أنت علي أن أتصل بك في مخبئك لعرضت أنا عليك، ولا يمكن أن تتصور مبلغ سعادتي وأنا أحس أنني أقابل شابا يعيش حياة الخفاء تلك، ولا يمكن أن تتصور ما كنت أحس به وأنا ذاهبة إليك آتية من عندك أنظر إلى الناس الجالسين معي في الأتوبيس، وأشعر أنني الوحيدة التي تحيا في سر كبير خطير.
وانعكس هذا الإحساس على تصرفاتي، فكنت أبدو أمام زميلاتي المدرسات جادة متزمتة؛ ليفهمن أن قد يكون السر في جدي هو النشاط «الخطير» الذي كنت أقوم به، وكان إذا سألني أبي بالصدفة أين كنت، أتعمد أن ألمح في إجاباتي إلى أشياء يفهم منها أن لي حياة أخرى سرية أقاوم فيها الأعداء، وكنت أذهب مثلا إلى زميلة من زميلاتي لتأخذ حصة أخرى بدلا مني فتسألني عن السبب، فأبتسم لها ابتسامة رثاء وأقول: وهل أنا مثلكم نائمة؟ الدنيا تتحرك.
وأزوم لتفهم من كلامي ما يحلو لها الفهم، وكنت أكبت أحيانا شعورا صبيانيا كان يراودني، مثل أن يقبض علي معك وتنشر الصحف في ثاني يوم صورتي وتحتها شيء مثل أخطر فتاة في الشرق الأوسط.
وهكذا عشت في إطار من الغموض فرضته على نفسي، وكأنني كنت أود أن يعرف الناس جميعا ما أقوم به في الخفاء، ومن جهتك أيضا كنت مع بدايات عواطفي ناحيتك أشك أنك أحيانا تجيب إجابات غامضة وأنك تراوغني وتكذب.
وكنت أود دائما أن أتعمق فيما يحيط بك وباللجنة من أسرار، حتى سمحت لنفسي بقراءة بعض الأوراق التي وجدتها في حجرتك، ولدهشتي وجدت ما فيها أبعد ما يكون عما انتظرته من أسرار، كانت القصة في نظري مغامرة ليس إلا، أحب فيها البطل الذي هو أنت وتنتهي بوادي الخيالات الذي تنبت فيه الأماني الخضر.
وحين حكيت لي عن يوم 6 مارس، ورأيت في عينيك الإعجاب الذي يقرب من التقديس ب «الغوغاء» والرصاص يخترق أجسادهم العارية، استفززت في كل نعرتي للبطولة وكل المعاني المثالية، وصممت أن آخذ الحقيبة التي فيها الديناميت لأخفيها لدي، وبهذا أتوج على عرش ثقتك.
إلى هنا كنت قد نجحت في تمثيل دور البطلة أمامك، ولم يكلفني النجاح شيئا سوى بضع مبالغات وأكاذيب، ولم أكن أتصور وأنا أعرض عليك أن آخذ الحقيبة إلا أن أمرها بسيط وستمر مسألتها كما مرت مبالغاتي السابقات.
ولكن.
صفحة غير معروفة