جذور في الهواء
جذور في الهواء
جذور في الهواء
جذور في الهواء
تأليف
ثروت أباظة
جذور في الهواء
1
ما أحلى السنين، وما أجمل هذه اللحظة التي أنا فيها! كيف أستطيع أن أمسك هذه الهنيهة من الزمن فأجعلها تقف لا تمر، تبقى لا تمضي وأنا واقف هنا أرى اسمي على لوحة الكلية معلنة أني حصلت على ليسانس الآداب؟ لقد جاء الطلبة أفواجا، وانصرفوا فرادى وجماعات، وأنا بهم واع وغير واع، مدرك غير حافل متجمد، أنا أحاول أن أجمد لحظتي، ولكن اللحظة امتدت في عمق الزمن، وانماع كيانها وانداحت حتى أحسست نفسي أقفز فجأة إلى الهواء. لقد نجحت وكأنما لم أدرك أنني نجحت إلا وأنا أقفز هذه القفزة! أيستطيع أحد أن يدرك معنى هذا النجاح إلا أنا وهي؛ حبي الأول والأخير، أحلام الصبا، وآمال الشباب، وأوهام الهوى وحقيقته، وخفق الحب، ونبض الحياة، والعيون الرانية إلى السنين المقبلة بعزة التحدي، ونظرة الأمل، وخشوع الرجاء، ورجفة المرتقب، والأمسيات تروي لقاءنا الهامس تظله الأغصان الحالمة في حديقة أبيها، ومطالع الشمس لا تبتسم إلا على بسمتنا في لقاء الصباح، وهي في طريقها إلى المدرسة وأنا في طريقي إلى الكلية، والليالي البيضاء التي لا تعرف الظلام، أظل ورفيقي الكتاب والمصباح حتى ينسرب شعاع الشمس إلى ضوء الكهرباء فيطفئه، فيصبح مضيئا كالمظلم كصرخة في واد، ويضحي نوره كجدول شحيح يغمره من البحر طوفان، وتطل ابتسامتها مع نور الفجر فلا تعب ولا رهق، فأنا جديد كأنما ولدت من بسمتها وإلى المذاكرة أعود.
كنت أقضي العام كله أقرأ في غير كتب المدرسة، لقد أمسك الأدب بخناقي منذ لا أعرف متى، حين كنت طفلا ألهو كنت أجد متعتي الكبرى في قصص الأطفال، حتى كبرت القصص وكبرت معها، ومنذ ذلك الحين الذي لا أذكره، أصبحت القراءة هي حياتي جميعا.
وأحسست يدي تقوى على أن تمسك القلم وأنا بعد في خواتيم الصبا وبواكير الشباب. فكتبت وأصبح لي قراء، ولكني في نفس الوقت لم أهب للدراسة ما تستحق فكنت أنجح كل عام، ولكن فكرة التفوق لم تخطر لهذا النجاح على بال. وكنت ألتهم العام جميعا في شهر وبعض شهر من أواخر العام الدراسي.
وعلى طول خطواتي في الدراسة والأدب عرفت تحية؛ فأبوها يقيم في فيلا مقابلة لشقتنا، وهو صديق أبي، وأمها صديقة أمي، وبيتنا صديق بيتها، وقد جمعتنا الطفولة وملاعب الجيران. حين عرفت خبر نجاحي أصبح تفكيري مركزا على شيء واحد، كيف أنبئها بذلك النجاح دون أن أفلت من الزمن دقيقة واحدة. جريت إلى التليفون. لماذا أصبحت حياتنا جميعها مظاهرة ضخمة من المنغصات؟ ولماذا يرفض التليفون أن يستجيب ويعود إلى عمله الطبيعي من وصل الحديث بالحديث؟ والبقال صاحب التليفون يضيق بوجود زبون للتليفون وحده بالمحل؟ ومرت دقائق وأوشكت أن تكتمل ساعة وأشرق صوتها: ألو. - نجحت. - صحيح! - عارفة معنى النجاح؟ - مبروك. - مبروك علينا. - أشوفك الليلة. - وقبل الليلة، قفي في الشرفة وانتظري القبلة التي سأرسلها إليك. - أنت مجنون. - مجنون تحية. - باي. - هل سمعت البوسة؟ - باي. - هل سمعتها؟ - سمعتها. - فأين ردها؟ - أنت تستحق ألف بوسة، أشوفك الليلة، باي.
ووضعت السماعة وأحسست أن نجاحي أصبح مجموعة من النجاحات.
لم يكن أبي فقيرا، ولكنه أيضا لم يكن غنيا، وكنت أعلم أن طلب الزواج سيجعله يفكر. لكن زواجي من تحية بالذات سيجعله يتصرف. وعلى كل حال، فالمشكلة لم تكن مشكلة أبي ولا أمي، إنما كنت أخشى أن يرفض أبوها هي، وأي شيطان أخرق يجعله يزوج ابنته الباهرة الحسن الرائعة الجمال من فتى يستشرف الأيام الأولى من حياته العامة، وليس في يده من أدوات فن الحياة إلا شهادة أصبحت تلقى في الطريق يحملها السواد الأعظم من شباب البلد دليلا على أن جهلهم أصبح معترفا به رسميا من الدولة؟
كنت واجفا حين طلب أبوها إلى أبي أن يمهله بضعة أيام، ويلي إذا كان في المسألة تفكير! إن أباها لا يعنيه أني أديب وأني أنشر قصصي ومقالاتي في أعظم مجلات العالم العربي، بل هو لا يعنيه أنني أكتب روايتي الأولى لم يوقفني عنها إلا امتحان الليسانس ولا يعنيه مطلقا أنني أعلق آمالي كلها على زواجي من ابنته؛ فإن آمالي أنا ليست من أهداف حياته، ويكفيه أن يحمل عبء آماله هو وآمال زوجته وابنته، ولا يعنيه أيضا أنني شاب وسيم، كثيرا ما ألقت فتيات في الجامعة نظراتهن إلي، ولكنني كنت أعلم أنهن يخرجن مع أصدقائهن بالأجر. لم أكن أحب هذا النوع من المغامرة مع فتيات الجامعة، كنت أخاف أن أحس أنني أضاجع نفسي إذا نمت مع زميلة، ثم دفعت لها أجرا. لا يعني عمي نصر بك الملواني أنني وسيم؛ فقد تعني هذه الوسامة شيئا لتحية، أما له فطظ، لأكن دميما ما شاءت الدمامة، وغنيا بعض الغنى الذي يجعله يطمئن على مستقبل ابنته. أي شيطان أخرق إذن سيجعله يقبل زواجي من تحية؟ طيب، لأضع نفسي مكان عمي نصر، ما هي المزايا التي تجعلني أوافق على زواج أيمن ربيع حجاج من تحية؟! أين صديقي، طظ. ولد طيب وابن حلال، طظ. أولا يستطيع أن يظل طيبا وابن حلال في هذه المعاشرة المتباعدة ثم ينقلب في لحظة بلهاء إلى شيطان مريد؟! حاصل على ليسانس الآداب! خير لي لو أستبدل بها عمارة في أحقر حي بالقاهرة.
أرأيت الرجل لم يفكر مطلقا في مسألة أنني أديب أو وسيم، أنا عارف، إذا كانت الشهادة لا تهمه، فكيف يهتم بالأدب والفن والوسامة والقسامة؟! لا أمل. - لا تخف، سنتزوج. - صحيح؟! وقفزت أقبل فاها وجاوبت قبلتي بقبلة غير صامتة. - اهدأ. - بالذمة صحيح ما تقولين؟! - سنتزوج؟! - هل وافق أبوك؟ - أنا وافقت. - أنا أعرف أنك موافقة من زمان، ولكن أباك ما رأيه؟ - ماذا تظن؟ - رفض. - فعلا! - إذن كيف سنتزوج؟ - هذا شغلي. - الحكاية فيها شغل؟! - شغل لا تعرفه أنت. - وتعرفينه أنت؟ - إذا أردت شيئا لا يقف أمامي شيء ولا أحد. - حتى أبوكي. - وخصوصا أبي.
وتزوجنا؟!
كم هم سخفاء أولئك الذين يذمون الزواج! إن الإنسان لا يشعر أن جذوره قد انغرست في أرض الحياة وتشعبت حتى أصبح له ولوجوده معنى إلا إذا تزوج. إن شعوري أن لي أسرة وإن كانت مكونة من زوجتي فقط كان يعطيني إحساسا بالطمأنينة ، وبأنني بعد أن كنت نباتا هشا على سطح الحياة أصبحت شجرة لها أصول. وتنتظر الفروع، ومع هذا الاطمئنان استقبلت حياتي أشوق ما أكون لاستقبالها.
عملت في جريدة «الأيام» التي كنت أكتب بها وأنا طالب وانتظمت بها مقالاتي وقصصي، وعدت لروايتي التي كنت قد بدأت صفحاتها الأولى وأنا طالب. لم تعد أمامي من الحياة مشكلة؛ فقد كان جمالها هو كل ما يثير القلق في نفسي والفزع ألا أتزوج منها. وقد تزوجت فلم تصبح لي مشكلة. وقد كان زواجي فاتحة خير وافر لي، فقد أهدت إلي في يوم الزواج سيارة، وبهذا قضت على أقسى ما يواجه ملتمس الطريق في القاهرة إذا التمسه أعزل من السيارة ومن ملبس غير عادي يستطيع به أن يخيف سائق التاكسي ليقف له. جعلتني السيارة المهداة في غنى عن إذلال سائقي التاكسي، وطبعا لا حاجة بي إلى ذكر السيارات العامة؛ فهذه لم تعد وسيلة مواصلات بقدر ما أصبحت أعظم وسيلة لإهدار الكرامة البشرية.
صحيح أن الكرامة البشرية في مصر قد قضي عليها منذ فترة طويلة، ولكن الإنسان لا يحب أن يعالن الآخرين بأنه أصبح عاريا من الإنسانية، والسيارات العامة إعلان قد يجد الكثيرون أنفسهم في غنى عن رفعه؛ فلم يعد العزوف عن السيارة العامة تنكرا للفقر، فقد أصبح الفقر في مصر مفخرة وشرفا، فهو حليف أبناء البيوتات الشرفاء من أبناء الشعب عامة الذين لا يمتون للمسئولين بأية صلة، ولم يصبح بيننا غني إلا بسبب لا يرضي الشرف أو المقاييس القديمة للأخلاق. وهكذا لم يكن يعنيني، بل لعله كان يشرفني أن أركب السيارة العامة لو أن هذه السيارة أبقت على نزر يسير من آدميتي، آدميتي التي أكتسبها من شكل الإنسان الذي صورني الله عليه، ولا علينا من آدميتي تلك التي اختطفت مع آدمية المصريين.
وقد كان من المستحيل أن يشتري لي أبي سيارة؛ فقد عاش عمره رجلا في ظل من الحياة غير وارف بعيدا عن هجير الإدارة وحرور الصدارة، تلك النار التي تلفح الناس، فتنضجهم فيصبحون خبراء بمكامن الخزائن ومظان الثروات، وتلك الجداول والأنفقة التي تصل بين المكامن والمظان وبين جيوبهم. وهكذا فرحت بالسيارة، فأنا من هؤلاء الذين يؤمنون أن الأديب لا يمكن أن ينتج فنا ذا قيمة إلا إذا كان مطمئنا إلى يومه وغده. وأولئك الذين سحقهم الجوع وكانوا يكتبون وهم بين أضراس الحاجة لا نستطيع أن نعرف أي فن كانوا سيقدمونه للناس لو توفرت لهم طمأنينة العيش، ولعل ديكنز، وهو من أكبر الأمثلة على لهاث الأديب تحت صنبور الناشر، كان ينتج فنا أروع مما أنتج لو كان بجيبه ما يجعله يكتب وهو منتظم النبض. ولا أنسى ما سمعت عن ذلك الأديب الذي كان يجلس بمقهى بار اللواء متهيئا أن يكتب مقالة للجريدة التي يعمل بها، فكان يميل على صديق له يستلف منه جنيها ويضع الجنيه في جيبه، ويبدأ في كتابة مقاله حتى إذا أتمها ومهرها بتوقيعه أخرج الجنيه ورده إلى صديقه في الجلسة نفسها. لم يكن يريد من الجنيه إلا أن يشعره بالطمأنينة حتى يكتب مقاله.
فقراء الفنانين أنتجوا فنهم على رغم فقرهم، لا بسبب فقرهم.
وقد كانت زوجتي ثرية، ولكن التقاليد البالية كانت تحتم علي أن أصر أنا، لا هي، على أن أقوم بشأن البيت، وليواجه ثراؤها بعد ذلك ما يتصل بخاصة شأنها من ملبس وزينة.
وأسباب غنى زوجتي لم تكن خافية على أحد؛ فقد كان أبوها موظفا ولم يكن لديه حين تزوج مال، ولكنه كان يعمل بوزارة المالية، وهي وزارة تستطيع أن تصل بين موظفيها وبين هجير الإدارة وحرور الصدارة، فنضج وأصبح رئيسا لمجلس إدراة شركة الدلتا للأقطان، فصار غنيا؛ فهو رئيس مجلس إدارة مثالي، لا يترك فرصة تعود عليه شخصيا بالنفع دون أن ينتهزها، ولو لم يكن كذلك لما صار رئيسا لمجلس الإدارة.
وأنا لا ألوم أبي، فقد كان مدرسا، وكل ما استطاع أن يجمعه من الدروس الخاصة والعامة هو ثمن البيت الذي كنا نعيش فيه، والذي كان يشمل أربع شقق نحن نسكن إحداها. ونطل منها على بيت نصر بك الملواني، الذي أصبح مع الأيام قصرا، والذي أحببت أنا ابنته تحية وأهدتني السيارة في يوم الزواج.
وبفضل هذا القصر لم نتعرض لمشكلة السكن؛ فقد أفرد أبوها لي جناحا فخما بعيدا عن صدارة القصر، متصلا به عن طريق ممر أنيق ذي زجاج مصنوع في إيطاليا، قادر في عز الشتاء أن يدخل دفء الشمس دون وهجها.
حاولت بعد أن تزوجنا أن أعرف من زوجتي كيف أقنعت أباها أن يقبل زواجي منها، ولكنها كانت تدور بالحديث فأجد نفسي في متاهة.
وازدادت هذه المتاهة غموضا حين وجدت عمي نصر بك يعاملني معاملة غاية في الرقة والعذوبة. وقد تكشف لي الرجل عن خبرة نادرة في معرفة الطريق الذي يستطيع به مداعبة الغرور في نفس الذي يعامله؛ فهو يدري تماما الكلمة التي ترضيني وتثير منابع الزهو في نفسي وبنفسي، فهو مثلا يعلق على كل كلمة يقرؤها لي في الجريدة، وهو إذا فعل لا يمدح مدحا مطلقا، وإنما يثير حول ما أكتب موجة من الآراء ويشرك معه زوجتي وهنية هانم حماتي، ويدافع هو عن رأيي ويتبناه وكأنه رأيه، ويستخدم أحيانا الألفاظ التي أستخدمها في كلماتي، فإن علق على قصة راح يحلل شخصياتها ويخلق مما كتبت أعماقا لعلي لم أقصدها، وإذا أبي أجد نفسي لفترة غير قصيرة من الجلسة معه موضع الحديث والاهتمام. ولا يكتفي عمي نصر بك بامتداح كتابتي، بل هو في دربة باهرة يلحظ اليوم الذي أقصد فيه أن أكون أنيقا فيلقي ملاحظة سريعة حاسمة تشعرني أني بلغت من الأناقة ما أريد. وقد لاحظت عمي نصر بك في معاملته للناس أجمعين أن له قدرة خارقة على إرضاء الناس وعلى مديحهم في غير سرف وفي غير بخل، وهكذا أصبحت على وعي تام بالطريق الذي وصل به إلى رئاسة مجلس الإدارة، كما أصبحت على وعي تام بالطريقة التي أصبح بها مالكا لهذا القصر الذي أعيش في جناح من أجنحته.
أما زوجته هنية هانم، فخير زوجة لزوجها؛ فالغنى والمركز هما النجاح الحقيقي في الحياة، وظهور اسمي في الجريدة هو مظهر النجاح عندها، ولا يهمها في شيء ما أكتبه أو ما أثيره من آراء، المهم أن زوج ابنتها يظهر اسمه في الجريدة. والدليل على أن ما أكتبه شيء عظيم أن عمي البك مبسوط منه، وما دام هو مبسوطا فلا شك أن هذا الذي أكتبه رائع.
كل هذا فهمته، ولكن الذي لم أستطع فهمه: لماذا قبل نصر بك أن أتزوج تحية؟ ولماذا يعاملني هذه المعاملة العذبة؟ قلت في نفسي لعل ابنته أصرت، وحين وجد نفسه أمام إصرارها قبل الأمر وأذعن له، أما معاملته فقد خيل إلي للحظة أنه يعاملني مثلما يعامل كل من يتصل به، ولكنني كنت أتصور أن المنافقين يحبون أن يستريحوا من النفاق مع الذين لا يرجون منهم خيرا، وإن كنت سمعت من بعض زملائي في الجريدة أن المنافق لا يتخلى عن نفاقه مع أحد من الناس مهما يكن لا يرجو منه نفعا ولا يخشى منه ضررا؛ لأن المنافق يخاف أن تصدأ موهبته، فهو يشحذها مع الناس أجمعين، سواء كانوا ممن يستحقون النفاق أو لا يستحقون.
وعلى أي حال من الحالين، فالرجل غاية في الرقة معي، ولتكن أسبابه ودوافعه ما تكون، فإنني أنا الكاسب آخر الأمر، وأنا واحد من الناس أعامل الناس بظاهر معاملتهم لي، فالحقيقة المتخفية في النفوس لا يعلمها إلا خالق النفوس، وليس لنا نحن البشر إلا ما نرى حتى يظهر ما تخفي ويبين ما تنبض به القلوب.
2
حياة جديدة عشتها مع تحية والجريدة، وانفسحت أمامي آفاق من الدنيا كانت بالنسبة لي طلاسم ومجاهل وسماعيات؛ فقد عشت حياة الدراسة أدور كالعصفور التائه في أجواء الطلبة وأوهامهم، لا أشعر أنني أجد نفسي إلا في جلساتي الهامسة في حديقة تحية، لا أعرف من دنيا القاهرة التي تكونت منذ قريب شيئا. ولعنة الله على كتب الأدب؛ فإن قراءتها جعلتني مخدورا واهما، أحسب أنني عرفت الحياة من خلالها. فحين انفتحت أمامي هذه الآفاق الجديدة، تبين لي أن حياة الكتب هذه حياة مرسومة، يصنعها الكتاب بالصورة التي تحلو لهم، وليس بالصور التي ترسمها الحياة لنفسها. إنها عربيدة جامحة رعناء، هذه الحياة ترسم خطوطها وخطوط ناسها كما تشاء. والعجيب في أمرها أنها لا تلقي أية عناية لأصول فن القصة التي أفنيت شبابي في الوصول إليها من ثنايا قراءتي للقصة وقراءتي عن القصة. أما هذه الدنيا فبوهيمية، لا تراعي أية أصول، وأول أصول تسحقها وتحتقرها هي أصول القصة. فإذا أنت أوغلت في الحياة وأردت أن تنتمي إلى دفاعها وأبنائها وغايتها وسبلها، ألفيت دنياك ترمي بالأحداث في وجهك دون تلك المقدمات التي يلزمك فن الرواية بمراعاتها، وتنظر إلى هذه الأحداث أو التشابكات التي تكون عقد القصص في الحياة فتجد أحداثا وتشابكات خالية من أي منطق أو معقولية أو تفكير. وأنظر إلى نفسي فإذا أنا تائه ذاهل بما يحمله عقلي الهش من أحداث القصص الروائية، وإذا أنا فجأة أكتشف أنني قضيت ربع قرن مع الحياة وأنا غريب عن الحياة، لا أعرفها ولا هي تعرف أمثالي. ولا يبقى من هذه القصص والروايات التي كنت أقرأها إلا ذكريات الاستمتاع بقراءتها ثم لا شيء بعد ذلك.
ولقد هدني وزلزل كياني أن غروري راح ينسحق شيئا فشيئا، لأجد نفسي آخر الأمر هباءة هائمة في دنيا غريبة، تنكرني ولا أنكرها، توشك أن تنبذني وأتمسك بها، وتتجهم لي تجهم من يجهلني، وأحاول أن أبتسم لها ابتسامة من يتظاهر بمعرفتها.
وجدت نفسي فجأة أو من غير فجأة عضوا بنادي الجزيرة. وهذه العضوية لمثلي حدث هام في حياتي، أحب أن أمارسه بأسرع ما تكون الممارسة وبأوسع ما تكون الممارسة. بحثت عن حقوق العضو، فوجدت أنني لن أتمتع منها بشيء؛ فلعب الألعاب بعيد عن طموحي، ودعوة الناس بعيدة عن مواردي المالية، والداخل للنادي لا يحتاج إلى عضوية، فأنا لن أذهب وحدي، وزوجتي عضوة بحكم أنها ابنة أبيها الذي ما كان لأبهته أن تكتمل إن لم يكن عضوا بجميع نوادي مصر الكبرى، وهكذا لم تضف العضوية جديدا إلي إلا أنها مع ذلك جعلتني أشعر أنني شيء مهم، ولو لم تهب لي إلا هذا الشعور لكان حسبها وحسبي.
ذهبت في أول يوم إلى النادي مع زوجتي وعمي نصر بك وزوجته هنية هانم، فوجدتهم يتجهون إلى منضدة بعينها، فما أن انتهى مسيرهم إليها حتى توقفوا وراحوا يتبادلون نوعا من السلام يدل على أنهم يلتقون دائما، واتسعت الدائرة لتشملنا، وراحت العيون تتجه إلي خفية أحيانا وفي صراحة وجرأة أحيانا أخرى. ورحت أنظر في القوم أنهم قادة الاشتراكية في مصر، رؤساء مجالس إدارات وأمناء اتحاد اشتراكي. وجرى الحديث، وبدأ بي بطبيعة الحال بصفتي عضوا جديدا في المنضدة لا في النادي فقط. عجيب شأن هؤلاء الناس، كيف استطاعوا أن يخلقوا بينهم هذه اللغة المشتركة. نفس الطريقة التي يتكلم بها عمي نصر، ونفس المقاييس، ونفس العبارات. وفجأة ارتفع صوت سيدة من زوجاتهم أو من بناتهم، لا أدري فالأمر مختلط: تصوري جيجي فتحت بوتيك في الزمالك.
وقالت الأخرى وكأنها لم تكن تعرف: لا يا شيخة.
وضحك تيسير بك عبد المولى رئيس مجلس إدارة الشركة العربية للغزل ورئيس الاتحاد الاشتراكي بها: مغفلة.
ونظرت إليه السيدات وقالت إحداهن: لماذا يا تيسير بك؟ - لن يشتري منها أحد. - لماذا؟ - الزمالك أصبح لا يسكنها إلا الفقراء الذين كانوا أغنياء، والروس الذين يصدرون الفقر إلى جميع بلدان العالم.
وضحكت السيدات، وغصت في الكرسي الذي أجلس إليه، أهؤلاء هم زعماء الاشتراكية في بلدي؟!
وعادت إحداهن تقول بعد أن فرغت من ضحكها: ولكننا نسكن في الزمالك يا تيسير. - وهل نشتري نحن حاجاتنا من مصر؟
وضحك الجميع مرة أخرى، ونظر إلي تيسير بك: ما رأيك في هذا الكلام يا أيمن؟
لم أكن أتوقع السؤال، ولم أعد له، ونوع الحديث غريب علي في هذا المكان ومن هؤلاء الناس، فوجدت نفسي حائرا، ولكنني مع ذلك قلت دون وعي: معقول.
وجعلت همي في هذه الجلسة مطالعة وجوه الجالسين من سيدات ورجال، واختطفت عيني بعض ابتسامات رمت بها إلي نسوة منهن، لا أدري إن كن زوجات أم أخوات أم بنات، ولكن الذي أدريه وأؤكده أنني أكملت الجلسة تائها، وما إن وصلت إلى بيتي حتى أمسكت بالصفحات الثمانين التي كنت كتبتها في رواياتي ومزقتها جميعا، وألقيت بها إلى النار حتى لا أحاول بعدها أن أعود إليها.
لقد كانت الرواية عن المجتمع المصري الجديد، وقد تبين لي في لحظة أنني لا أعرف أي شيء عن المجتمع المصري الجديد.
تبين لي أن العضوية لا بد منها؛ فقد صرت بعد ذلك أذهب منفردا إلى النادي وأنتظر تحية به، أو تذهب هي وتنتظرني هناك، بل إنني مع الأيام وانشغال تحية أحيانا بأشياء أخرى غير النادي كنت أذهب وحدي؛ فأنا أعد غريبا عن الشلة. واتضح لي أنني من النوع الذي تحب النساء أن تلقي إليه بأسرارهن، وقد توطدت صلتي بثلاث من السيدات اللواتي كن معنا في الجلسة الأولى، هن: إلهام عبد المولى، فقد اتضح أنها زوجة تيسير بك، وقد عرفت أنها من أسرة غنية أصابها الغنى في الفترة الأخيرة، ويتاجر أبوها في الغزل الذي يبيعه لأصحاب الأنوال الخاصة، وقد بنى من هذه الخيوط الواهية ثلاث عمارات، كما اشترى مائة فدان تزرع بالعنب في المحلة، وليس له من أولاد إلا ابنته إلهام وابنه شريف، وقد تعرف زوجها تيسير بك بأبيها في ساحة شركة الغزل، وعين له ابنه وتزوج ابنته. وإلهام فتاة تدرك فارق السن بينها وبين زوجها، وتدرك تماما رغبة أبيها في الانتساب إلى صاحب لقب، ورغبة زوجها في الانتساب إلى صاحب غنى. وتحب إلهام أن تنتفع من لقب زوجها ومن غنى أبيها، وعن هذين الطريقين المفروشين بالورد والياسمين تحب إلهام أن تكون سيدة مجتمع، تنشر الجرائد صورها، وتتابع بالكاميرا خطواتها وحركاتها. - هل توزع كثيرا جريدة الأيام؟ - أعتقد أنها في القمة. - أعرف ذلك، فأنا من الذين يهتمون بتوزيع الجرائد. - إذن، فأنت تمتحنين معلوماتي. - الحقيقة أنني أعجب بمقالاتك. - أتظنين أن لمقالاتي صلة بالتوزيع؟ - كل ما يكتب في الجريدة يعمل على حسن التوزيع. - أخجلتم تواضعنا. - ولكن الإعلانات عندكم أقل من بعض الجرائد الأخرى. - أرى أنك خبيرة في الصحافة. - هل تعمل في الإعلانات؟ - أنا! أبدا، أنا أكتب في الأدب فقط. - مغفل. - نعم؟ - ألم تسمع؟ - المصيبة أني سمعت. - فما هذه الدهشة ؟! - لم أتوقع أن تشتميني بهذه السرعة. - إذا أحببت شتمت. - يا بخت زوجك. - أنا لا أشتمه. - يعني؟ - هل يعقل أن أشتم رئيس مجلس الإدارة؟ - هل هو في البيت رئيس مجلس الإدارة؟ - في كل مكان. - أراه ظريفا. - في مثل سنه لا بد أن يكون ظريفا. - هل يرتبط الظرف بالسن؟ - عند رؤساء مجالس الإدارة. - آه! - أليس نصر بك ظريفا؟ - كنت أظن أنني وحدي الذي وصلت إلى هذه النظرية. - أي نظرية؟ - كل رئيس مجلس إدارة رجل ناجح، كل رجل ناجح ظريف. - كل رئيس مجلس إدارة ظريف. - فلماذا يقولون عنك مغفل؟ - لا يقولها إلا من يحبني. - ومن يحبك ينصحك أن تعمل في الإعلانات. - وأترك الأدب؟ - لماذا تتركه؟ - تقصدين؟ - أنت محرر في جريدة كبيرة، واستطعت عن طريق حماك الظريف أيضا أن تتعرف على رؤساء مجالس إدارة ظرفاء. - والله فكرة. - غدا سأقدم إليك أمرا بنشر إعلان على نصف صفحة. - عظيم. - وأنا، أليس لي عمولة؟ - أنت تريدين عمولة؟ - من نوع خاص. - مثل ماذا؟ - أن تنشر صورتي في باب المجتمع، ثم تنشر عني خبرين على فترات تقررها أنت. - بسيطة.
الواقع أن الغنى يغري بالغنى. قد يظن البعض أن قبولي العمل بالإعلانات طفاسة، فأنا أعيش في بيت لا أدفع له أجرا، وأركب سيارة لم أدفع ثمنها.
وكل ما أتكلفه بضعة جنيهات أتظاهر بها أنني أواجه مصاريف البيت، ولكن هذه التكاليف على ضآلتها لم تكن تترك لي من المال ما أستطيع أن أتصرف فيه بمحض إرادتي، ولم يكن قد مر على زواجي فترة تسمح لي بأن آخذ من زوجتي مصروف جيبي، فإذا لم أعتمد على مواهبي في الحصول على المال، فلن يجد هذا المال سبيلا إلى جيبي، ووجودي إلى جانب زوجتي وأبيها وأمها يرغمني على أن يكون لي جيب فيه مال، وإلا أصبح لوني غير لائق بقماشهم.
أما السيدة الثانية فهي نيمت وهبي، وحقيقة اسمها نعمات، حذفت الألف، ثم انقلبت العين ياء، فكانوا ينادونها نيمت. وهذا المجتمع الذي انضمت إليه يجب أن يجهل الأسماء ويدلل أصحابها، ولكن هذا لا يمنعه أن يعرف كل خافية من تاريخ عناصره، ثم يلذ له أن يلوك هذا التاريخ لكل جديد وافد عليه. وقد عرفت تاريخ نيمت من إلهام عبد المولى، وعرفت تاريخ إلهام من نيمت، وعرفت من كلتيهما تاريخ عزيزة راشد.
نيمت، حين كانت نعمات، كان أبوها يعمل في السكرتارية في وظيفة تمكنه من معرفة أسرار رئيسه، وقد كان ينقل هذه الأسرار في أمانة إلى كبير آخر يكيد لهذا الرئيس، وحين تم للكبير ما يريد وأقصى الرئيس عن سلطانه نظر إلى وهبي عبد العال وأراد أن يبعده عن منصبه؛ فالذي يخون رئيسه في أمانة يستطيع أن يخون رئيسا آخر بنفس الأمانة، وكان وهبي ذكيا، وكان يدرك أنه لا بد مبعد عن وظيفته، ولم تكن وظيفته تعنيه كثيرا؛ فقد كان يضمر أن يطلب لنفسه مكانا قصيا. وتم له ما أراد، فعين في وظيفة تمكنه أن يتصل بالبلاد العربية ودول الخليج، وما لبث أن أنشأ تجارة مع هذه البلاد في الخردة، وما هي إلا لفة صامولة حتى صار غنيا باذخ الغنى، وصارت ابنته نيمت لا نعمات، وتكاثر خطاب نيمت، ولكنه بعين راصدة خبيرة كان يختار الأحسن دائما، فتزوجت من نجم لامع في الاتحاد الاشتراكي، ما لبث أن صار أمينا لإحدى الأمانات الكثيرة التي لا أستطيع أن أتذكرها ولا يهم أن أتذكرها.
وللقصة بقية طريفة وإن كانت لا تتصل اتصالا مباشرا بنيمت. أم نيمت، واسمها الست فهيمة، ابنة عم أبيها وهبي، وعمه هذا هو الذي رباه، وقد زوجه من فهيمة مقابل هذه التربية، فما كانت فهيمة لتستطيع أن تتزوج أحدا مطلقا إن لم يكن هناك سبب قوي يجعل من هذا الزواج اعتذارا كافيا عن قبحها الفادح. وقد انتهز أبوها فرصة تعلق وهبي بالدخول إلى الكلية فوضع زواجه من فهيمة ثمنا لهذا التعلق. وقارن وهبي بين قبح وهيبة العبقري وبين جمال ملابس الكلية، ووافق على الزواج. وكان العم من أذكياء الريف المصري، الذين يعرفون كيف يصرفون أمورهم، فاستكتب وهبي كمبيالة بخمسة آلاف جنيه، وجعل مؤخر الصداق خمسة آلاف أخرى .
وحين اتصلت أسباب وهبي بدول الخليج أصبح في مقدوره أن يدفع الآلاف العشرة، قارن مرة أخرى بين طريقين؛ أن تلهف فهيمة هذا المبلغ مقابل طلاقها أو أن يفرش شقة أخرى لفتاة جديدة تعوضه عن قبح فهيمة الذي لم تستطع السنون أن تجعله يتعود عليه. ولا شك أن الطريق الثاني كان أجمل وأمتع، ولكن القدر كان يخبئ له مفاجأة أخرى، فقد جاءت الفتاة التي اختارها محبة للفن، وتمكنت من وهبي، فجعلت منه منتجا سينمائيا، وجعلت من نفسها نجمة. وهكذا أصبحت الآلاف العشرة مبلغا لا قيمة له في غمار ما تكلفه إياه نجمة الشقة الجديدة.
زوج نيمت هو الأستاذ دري عبد الباقي، متخرج في كلية الحقوق، وهو شاب لبيب، قرر في لمحة ذكاء أن يكون تافها حتى يصبح صالحا لما يعد نفسه له من مستقبل سياسي، ويبدو أنه وفق في أن يجعل نفسه على قدر من التفاهة أهلته أن يكون في الصفوف الأولى من الاتحاد الاشتراكي. وقد صادقني الرجل وأنس إلي، وصار يلقي إلي بدخيلة نفسه، وكم دهشت لما عرفت هذه الدخيلة. لقد كنت أتصور أن رغد العيش الذي يحيا فيه يجعله في هناءة دائمة ومتعة لا مثيل لها، فإذا بي أجد الرجل يحيا في خوف دائم؛ فهو يترقب اليوم الذي يترك فيه منصبه في ذعر واجف هالع، فقد تعود حياة بعينها، فيها لين وفيها رخاء ودعة، ولا سبيل له أن يبقى على هذه الحياة لو أنه عاد إلى المحاماة. وهكذا يحس دري أن حياته معلقة بأن يبقى في منصبه هذا، فهو يبذل ما يملك وما لا يملك من كرامة ويهدر كل قيمة، ويتغاضى عن أي معنى من معاني الرجولة أو الشرف ليبقى في هذا المكان.
وتقول نيمت لي حين جلست إليها إن خوف الرجل وهلعه ينعكسان عليه في حياته، وفي خاصة تصرفاته، حتى لقد أصبحت تشعر أنها تعيش مع رجل نصف مجنون، يحاول جهده أن يحافظ على النصف الآخر من عقله بجهد فائق حتى لا تحل به الكارثة، وأحس من نغمة صوتها أن شيئا من الاحتقار داخلها بشأنه، فلا أوغل في الحديث ولا أدعها توغل حتى لا ينهار الرجل جميعه أمام عينيها.
ولكنني أدرك قبل أن تنتهي من حديثها أنها تشجعه أن يحصل على كل ما يستطيع من مال ليجد بعض الأمن حين يأفل نجم الوظيفة، وأدرك أيضا أن الرجل لا يحتاج إلى تشجيع في هذا المضمار.
وأوشك أن أتساءل: لماذا هذا الخوف جميعه وزوجته على درجة من الغنى تستطيع أن ترد عنه كيد الحاجة، ولكنني لم ألبث أن أجد الجواب؛ فإن الغنى ليس غنى نيمت أو نعمات، وإنما هو غنى أبيها وهبي، ووهبي غارق لأذنيه في إنتاج أفلام لصديقته الجديدة التي أصبحت قديمة. ووهبي مستعد أن يمد زوج ابنته بالمال ما ظل زوج الابنة هذا في منصب مرموق، فإن زال عنه المنصب فإن وهبي لا يرى داعيا مطلقا أن يعطي دري شيئا. وبعبارة أخرى، إن كان لا بد من عبارة أخرى، أن وهبي مستعد أن يعطي صهره كل مال ممكن ما دام صهره في غير حاجة إلى مال، وهو حابس عنه كل أنواع المال حين يصبح محتاجا لأي نوع منه.
أما عزيزة راشد فسيدة من نوع خاص، وزوجها أيضا خيري عبد المولى من نوع خاص.
عزيزة راشد سيدة، تركت الحلقة الرابعة من عمرها منذ سنوات قليلة، وهي ذات جمال صارخ باذخ، وهي تعلم في نفسها هذا الجمال، فتلفه بكل أناقة وتزين نفسها في سرف ومرونة.كان أبوها موظفا من كبار موظفي مصلحة البريد حين تزوجت خيري الذي كان في الدرجة الخامسة يومذاك، وقد خرج الأب إلى المعاش بعد أن صار في درجة وكيل للوزارة، واستطاع قبل أن يخرج أن يثب بصهره إلى الدرجة الثالثة.
والذي يلقي نظرة عاجلة إلى خيري يجده متجهم الوجه، توحي ملامحه بالصلف والغلظة، وقد استطاع بمظهر الصلف وبالنفاق أن يصبح هو أيضا وكيلا للوزارة قبل أن يمسي في الخمسين من عمره. ومنصبه يمكنه أن يتصل بالعالم الخارجي ليعقد الصفقات لشئون وزارته، وهو لا يسرق في هذه الصفقات، وإنما ينال العمولة التي يعتبرها هو حقا ويراها القانون رشوة. ولما كان لا بد لهذه العمولة أن تصل إليه في خفية رسمية من القانون، فقد كان ماجد راشد أخو الست عزيزة هو الذي يحصل له عليها، فماجد راشد متخرج في كلية التجارة وصاحب مكتب محاسبة في ظاهر الأمر، ولكن مكتبه في الحقيقة متفرغ للصفقات التي يعقدها زوج أخته، والتي ينال هو عمولتها بعد أن يخصم نصيبه منها. وقد استطاع هذا النصيب على ضآلته النسبية أن يصبح عمارتين وأن يصبح غنى خياليا يعيشه ماجد.
أما خيري فشأنه في البيت عجيب، فأوامره صارمة، وكلمته حاسمة، وإشارته قاطعة، والست عزيزة تخشاه كل الخشية، وتصغي لأوامره وكلماته في إجلال وإكبار وتوقير، وهي مع كل هذا تصنع به ما تريد من خلال حبه للعظمة. فالظاهر في أمرها أنه صاحب الرأي، والحقيقة أنها تسحبه من أنفه إلى كل ما يعن لها، وهو بهذا سعيد كل السعادة، وهي أيضا بهذا سعيدة كل السعادة. كان هؤلاء هم أصدقاء النادي، وقد توطدت بيننا الأواصر، فكانت تحية تدعوهم إلى بيتنا، وكنا نلبي دعوتهم، حتى لنكاد نلتقي في كل ليلة. وكان ماجد دائما معنا في كل دعوة، وقد كان أيضا يدعونا لفيلته الفخمة التي تعتلي عمارته الشاهقة بالمنيل.
ورغم أن أصدقاء كل ليلة كانوا لا يتغيرون، فإنني لم أشعر بالملل مطلقا. فإن لكل منا منحى في الحياة ومتجها، فإذا جمعنا الليل فلكل منا حديث وتعليق، والحديث حر لا خوف به ولا توجس، وإن كان دري يهمس به دائما. والتعليق ذكي عميق، فجميعهم لماح، يستخدم ذكاءه طريقا إلى الثروة، ولا يحرم نفسه من التعليق الذكي على هذه الحياة التي تمكنه من الوصول إلى مبتغاه.
وقد استطاعت الإعلانات التي أصبحت أحصل عليها منهم ومن أصدقائهم بانتظام أن تجعلني أشعر أنني ند لهم، وأنني أستطيع أن أجلس إليهم وأنا مطمئن إلى غدي الشخصي.
ولعل هذه الصداقة وانشغالي بأعمالي في الصحيفة وحياة تحية الاجتماعية المزدحمة؛ لعل هذا جميعه جعل الزواج بالنسبة إلي متعة لا تنغيص فيها ولا كدر، فأنا لا أكاد أذكر أنني وتحية اختلفنا في شيء، فكلانا على شوق حين نلتقي ولا يدركنا الملل من أوقاتنا، واستطاع الشباب أن يضفي على أيامنا بهجة، فما عرفنا الطبيب إلا حين حملت تحية في طفلنا الأول.
3
قال رئيس التحرير: عليك أن تغطي لنا أخبار الاتحاد الاشتراكي. - أنا يا أستاذ عبد الحليم؟ - نعم أنت.
كنت واقفا فجلست، لقد عملت بهذه الجريدة لأكتب في الأدب، فما صلتي أنا بالاتحاد الاشتراكي؟ أقسم بالله أنني ما عرفت - وما أحسب أحدا يعرف - ما عمل الاتحاد الاشتراكي. - ولكني أكتب في الأدب. - وهل عمولة الإعلانات أدب؟
سكت. ولم يسكت رئيس التحرير: ألا تريد علاوة؟ - وهل لا بد من الاتحاد الاشتراكي؟ - لا بد. - هل لي أن اكتب عنه ما أشاء. - على ألا يصل ما تكتبه إلى أن تطرد من الجريدة. - وهل أوقع باسمي. - ألا تريد أن توقع؟ - طبعا. - ولكنك ستوقع. - أمرك.
وأصبحت فجأة مسئولا عن الاتحاد الاشتراكي في الجريدة. حاولت في أول الأمر أن أكون محايدا، لا أهاجم ولا أمدح، ولكن هيهات يصلح هذا للجريدة؛ فرئيس التحرير رجل لا تجوز عليه هذه الألاعيب، إنه يطلب مقالات واضحة الاتجاه لا لبس فيها ولا حياد. وكتبت، وكنت واضحا، ونلت العلاوة.
حين قبلت أن أعمل بالإعلانات لم أحس بالغضاضة الشديدة، شاب فقير يعيش في جو غني ويحاول أن يحصل على المال عن طريق شريف، ولكني حين كتبت المقال الأول أحسست أنني عاهرة تبيع نفسها مرغمة لمن لا تحب، ولازمني هذا الشعور فترة، ثم راح يتلاشى ويتهافت ويتخفى حتى اختفى أو كاد، وأصبح الأمر طبيعيا. لقد تلاءمت مع الجو الذي أعيش فيه بعد أن كنت غريبا عنه. والعجيب أن اتصالي بالاتحاد الاشتراكي جعل لي سلطانا واسعا، وعاد علي بثراء يتضاءل بجانبه كل ما حصلت عليه من الإعلانات، ووجدتني في مدى شهور قلائل جالسا أمام كاميرات التليفزيون، وإذا أنا نجم. ولكن العجيب أن شعوري بأنني عاهرة عاودني مرة أخرى ومذيع التليفزيون يسألني وأنا أجيب؛ لماذا عاودني هذا الشعور بعد أن كنت نسيته؟! لا أدري. ما الذي قذف بهذا الشعور إلى كياني؟ ألح علي هذا الإحساس ورحت أفكر فيه بجدية شديدة. حين كتبت ما لا أريد أن أكتب، وحين حملت اسمي ما لا ينبغي أن يحمل، كان طبيعيا أن أحس بهذا الشعور، ولكن ما الذي طفا به إلى تفكيري وأنا نجم أمام التليفزيون؟ لعلني أدركت على غير وعي مني أن الذي جعلني أجلس أمام كاميرات التليفزيون هو أنني بعت ضميري ورضيت أن أكون سلعة. ولكن أي عجيبة في ذلك؟! إنني ابن عصري وربيت جيلي، وأنا ألائم نفسي مع هذا العصر وذلك الجيل، وإن لم أفعل داستني الأقدام، وإن حاولت أن أشرئب إلى السماء - أي سماء - فمصيري الأهوال الآخذة، أيسرها السجن وأقلها الموت، وبين الموت والسجن ألوان من العذاب لم تسمع بها البشرية، ويكفي أن أفكر - إذا جاز لي أن أفكر - في أن الاعتداء على تحية أمر غير مستبعد، وحسبي هذا. ثم أنا لا أريد أن أكون بطلا قوميا، ليكن غيري بطلا قوميا إذا أراد، وسوف أصفق له في الوقت المناسب والمكان الملائم. أما أنا فأريد أن أرى طفلي هذا الذي يحبو في ظلمات الغيب، وأريد أن أظهر على شاشات التليفزيون، وأريد أن أستمتع بالناس يشيرون إلي، وبأصدقائي يهنئونني على روعة الحديث الذي قدمته في التليفزيون، وأريد أن أجلس إلى هؤلاء الذين أصبحت صديقا لهم أشاربهم ويرضون غروري، وأمازحهم ويسكبون علي مع مديحهم الأموال؛ فقد أصبح لي لسان في الإذاعة والتليفزيون، وأصبح لي مكان ثابت في الجريدة، فإن لم ينل مثلي الأموال في غدق وبحبوحة، فمن ينال!
شخص واحد كان يبتسم ابتسامة ساخرة كلما ظهرت في التليفزيون: ألم تكن تريد أن تكون أديبا؟! - فقد صرت أديبا. - بالظهور في التليفزيون. - ألا يدل هذا على أنني صاحب قلم؟ - تكتب به عن الاتحاد الاشتراكي. - أنا صاحب قلم. - هل تفهم ما تكتب؟ - الناس تفهمه. - هل تفهمه أنت؟ - لا يهم. - كيف يفهم الناس كلاما لا يفهمه قائله؟ - لا يهم. - أين الأدب فيما تقول أو تكتب؟ - أليس أدبا؟ - الأدب كتاب، هل أكملت روايتك؟ - مزقتها. - لتكتب غيرها. هل كتبت شيئا؟ - سأكتب. - إذا كتبتها سأحكم إن كنت أديبا أم لا. - والآن؟ - أنت أقل من لا شيء. - إنني أكسب مالا. - أنت يد تصفق وسط عاصفة من التصفيق، وصوت ضائع يصرخ بالهتاف وسط أعاصير من الهتافات: أنت أقل من لا شيء.
وهكذا أصبحت أقلل من زيارة أبي حتى انقطعت عن هذه الزيارة إلا في المناسبة التي لا قبل لي بتجاهلها.
أما زوجتي وحماتي وعمي نصر بك فقد كان فخرهم بي يفوق كل حد. لقد أصبحت تحية ولا حديث لها إلا تعليقات الناس على ما أقول أو أكتب، وقد أبت فرحتها هذه أن تخبو أو يخفت بريقها، وكانت حماتي تتولى الدعاية لظهوري في التليفزيون، فما إن تعرف موعده حتى تضع يدها على سماعة التليفون والأخرى على قرصه، لا تفلتهما أو يكون جميع الأقارب والأصدقاء والمعارف على علم بالموعد. وحين ينتهي الحديث تعود مرة أخرى إلى سماعة التليفون وقرصه لتعرف رأيهم أو لتسمع مديحهم، فما لهؤلاء جميعا من رأي يقال.
الغريب في هذا جميعه أنني أصبحت مقتنعا بما أعمله، أصبحت مقتنعا به جميعا لا أستثني شيئا. أنا مقتنع بما أكتب وبما أقول وبظهوري في التليفزيون. وهذا نوع عجيب من الاقتناع؛ فأنا لا أدافع عن فكرة بعينها، ولا أتقدم للناس برأي معين، فاقتناعي ليس بما أقول دائما، أنا مقتنع أنه لا بد لي أن أقول شيئا، ولا يعنيني من بعد ما هذا الذي سأقوله. فأنا مثلا منذ أن كنت تلميذا في الجامعة لا أميل إلى الشيوعية، ولا أحب المثل القائل: «المساواة في الظلم عدل.» فأنا لا أتصور العدل قرينا للظلم في جملة كلام أو في الحياة، وقد كنت أسخر من الشيوعيين قائلا: لماذا لا تقولون المساواة في الفقر ظلم فيستقيم لكم الكلام والرأي جميعا؟ ولكنني في الجريدة أدافع عن الشيوعية بحرارة، وأغلب أصدقائي من المنتمين إليها أو من الذين يدعون الانتماء إليها. والحقيقة أنني اضطررت لدراسة الشيوعية دراسة متعمقة مستوعبة، ونادرا ما وجدت واحدا من الهاتفين بها قد درسها، وإنما هم جميعا يشقشقون بها، ولولا أن الببغاء طير جميل لقلت إنهم كالببغاوات؛ فإن أحدا منهم لا يفهم الشيوعية. ولم أر بينهم من يقبل أن يطبقها على نفسه، اللهم إلا إذا طبقت عليه الحياة صنوف الفقر والهوان، فهو حينئذ داعية طبيعي لها. ومن يصيب منهم غنى يعيش في بلهينة وسعادة يحسده عليها أصحاب رءوس الأموال الضخمة. ولم أجد بين الذين أثروا من الشيوعية في مصر من اشترى سيارة من روسيا أو ألمانيا الشرقية، وإنما لا بد أن تكون السيارة منتسبة إلى بلد رأسمالي أصيل. فهم يستوردون الآراء من روسيا ويأبون أن يستوردوا نتائج هذه الآراء. ولكن الأمر الذي جعلني أبغض الشيوعيين وأمقتهم وأتمنى أن أنفصل عنهم، لولا لقمة العيش؛ أنني تبينت فجأة أن ولاءهم الحقيقي لروسيا أو للصين، وليس بينهم من ينتمي بولائه لمصر. والعجيب أنهم قد كونوا صفة لمن ينتمي بولائه إلى بلده، وهذه الصفة تعتبر عندهم شتما وهجوما؛ فحب وطنك والتفاني في هذا الحب يسمى عندهم شيفونية، نسبة إلى فرنسي كان يحب وطنه حبا صادقا؛ فحب الوطن إذن عندهم جريمة لا تغتفر، فهم جماعة من جنسية غير مصرية، وهم بلا دين، فلا شيء يصلهم بمصر مطلقا، ولا أدري بأي حق يتكلمون عن مصر، وقد انسلخوا عنها بالدين والعاطفة والولاء؛ ولذلك فإنني أعتقد أن صفة المصري لا تنصرف إلى الشيوعي، فإذا قلنا المصريين فإننا إنما نعني من ليس شيوعيا في مصر، وهؤلاء في الحق هم مصر. أما أنا، فقد كنت أتظاهر بتأييد آرائهم؛ لأنه لا بد لي أن أبدو متمسكا بهذه الآراء إذا كنت أريد أن أعيش في مصر. ولست وحيدا في هذا التباين بين الرأي الحقيقي والرأي المعلن؛ فأغلب الذين كنت معهم يرفعون شعارات لا يؤمنون بها. صحفي واحد كنت أجده صادقا فيما يكتب، هو محرر الرياضة. وعلى رغم كرهي للرياضة فقد أحببت صديقي نديم، فهو متحمس كل التحمس للكرة، صادق هو في هذا التحمس حتى ليصور لك الدنيا جميعا ستنقلب رأسا على عقب إذا لم يلعب اللاعبون بجدية وأمانة، وكنت فرحا بصديقي وتحمسه؛ فقد كنت أجد فيه الشيء الذي أفتقده في جميع المحيطين بي فلا أجده.
4
حين توقفت سيارتي في الإشارة، فتح بابها فجأة، ودخلت إلى جانبي حميدة دعبس، ذعرت؛ فحميدة سيدة معروفة - وأنا فيما يخيل إلي - أصبحت معروفا مثلها، ماذا سيقولون إن رأوني معها؟ كانت صلتي بحميدة قد انقطعت منذ تزوجت؛ فقد كنت أذهب إليها في كل شهر مرة، أقضي عندها فترة مع فتاة تختارها هي لي، وأشهد كان اختيارها دائما موفقا. وقد توثقت الصداقة بيني وبين حميدة وإن كانت هذه الصداقة لم ترحمني من دفع ما تفرضه علي دون مناقشة. وكان إعجاب حميدة بي مبعثه أنني لم أحاول في يوم من الأيام أن أتعرف بالفتاة التي تقدمها لي أو أتدسس على كنهها وأصلها، فالواقع أنه لم يكن يعنيني منها إلا الفترة التي أقضيها معها في بيت حميدة، ثم يذهب كل منا إلى حال سبيله.
وحين تزوجت انقطعت صلتي بحميدة تماما، وقد أدركت حميدة وهي تركب مقدار الذعر الذي أحاط بي: ما لك خائفا كل هذا الخوف؟ - يا ست حميدة ألا تعرفين؟ - وهل تثير امرأة في سني كل هذا الذعر؟ - لا، ولكن امرأة في شهرتك تثير الهلع. - وأنت أيضا أصبحت مشهورا. - أكل عيش. - نحن في الهم سواء. - إلى أين يا ستي حميدة؟ - إلى بيتي، لا أجد ما أركبه، فلا بأس من اللجوء إلى صديق قديم. - تحت أمرك. ربنا يستر. - هل ما زلت في شهر العسل؟ - أنا متزوج على كل حال. - لم يكن زبائني إلا قلة نادرة من العزاب. - وكيف حال زبائنك الآن؟ - أي النوعين تقصد؟ - كلاهما. - أمثالك يزيدون. - والجنس الآخر. - يقل. - خير. لماذا؟ - البنات أصبحن لا يملن للتعامل مع المصريين. - مفهوم، وأنت لماذا لا تتعاملين مع من يردن؟ - هذه طيور برية تعرفك اليوم ولا تعرفك غدا، أما الزبائن من أمثالك فمثل الحمام الذي يعرف برجه ويأتي إليه. - فلسفة معقولة. ولماذا لا تقنعين البنات بذلك؟ - ليس عندهن وقت؛ إنهن يعملن في هذه الصنعة لمدة سنتين أو ثلاث بمقدار ما يحصلن على مصاريف الجهاز ثم يتزوجن. - ألا يعملن عندك بعد الزواج؟ - مثلك، وكأني لا أعرفهن ولا يعرفنني. - ولماذا لا تلجئين إلى المحترفات؟ - أولا أسعارهن ارتفعت أكثر من اللازم، وزبائني لا تحب أصنافهن؛ ألا تعرف لي مكانا أستورد منه الفتيات. - أنا يا ست حميدة؟! - هذه هي المصيبة. الذي يعرفني لا يحب أن يخبر أحدا أنه يعرفني. أتصدق بالله! ودين النبي لو أنك على سبيل المزاح ذكرت عنواني في المجالس التي تجلس فيها لجاءت إلي الفتيات وأصبحت وأنا لا أعرف ماذا أعمل بهن! - أنا يا ست حميدة؟! - الأمر لله. النهاية وأنت إلى متى ستظل مقاطعني؟ - والله أظن أنني لا أستطيع أن أجيء إليك. - يتهيأ لك. - نعم؟ - المهم، زرني لمجرد الزيارة. - يصح، ولو أن المسألة صعبة، فأنا أخشى ... - مفهوم، مفهوم، وعلى كل حال سأراك. - كيف؟ - لا تخف، لن أجيء إليك، ولكن من المؤكد أنني سأراك. اسم النبي حارسك إنك لم تنس البيت، تسلم لي يا سي أيمن. اسمع حين تحس أنك تريد أن تجيء لا تتردد، كل ما أطلبه أن تأتي في الحال. مع السلامة.
5
تعود عمي نصر بك أن يمر بنا كثيرا في جناحنا. وقد زاد من هذه الزيارات منذ ولد ابننا شهاب، حتى لقد كان في كثير من الأحيان يجدنا نائمين، فيذهب إلى شهاب ويجلس إليه يلاعبه ما شاء أن يجلس ثم ينصرف دون أن يسأل حتى إن كنا قد استيقظنا أم ما زلنا نائمين. وكان كثيرا ما يأتي وهو يعرف أننا بالخارج ليزور شهاب، وقد استطاع بنفاقه أن يجعل شهاب يتعلق به أكثر من تعلقه بي بل بأمه.
فلم يكن غريبا أن نجد عمي نصر بك جالسا بحجرة شهاب عند عودتنا من زيارة الطبيب، وضحكت تحية في وجه أبيها: أبي ادخر بعض تدليلك. - لمن أدخره؟ - لي أنا. - دعي زوجك يدللك. - طيب، ادخره لأخي شهاب أو أخته. - الله! عملتوها! - ربنا هو الذي عملها. - أهلا وسهلا. مبروك يا ستي، مبروك يا سي أيمن، مبروك يا سي شهاب. انتظر الأخ.
وكأنما لم يعجب شهاب بهذا النوع من المزاح، فإذا هو دون أي تريث يهوي على خد جده بكفه كله، وصرخ الكف على وجه نصر بك، وذهلت من هذه القوة التي يضرب بها الولد جده، ونظرت إلى عيني نصر بك ورأيت فيهما الألم، ولكن هي الهنيهة لا تزيد، ثم وفي لحظة خاطفة شحبت معاني الألم من عينيه لتبدو مكانها إشعاعات السرور التي ما لبثت أن تعالت ضحكا مرحا عاليا: كذا، طيب يا سيدي، يا ولد يا مغفل إنك حين يأتي أخوك لن تجد غيري يدللك.
وفوجئت بشهاب يضحك ملء شدقيه.
ويلتفت نصر بك إلي وهو يضحك لا يزال: مر علي غدا في المكتب. - خير. - طبعا خير، ستعرف كل شيء.
وقالت تحية: بابا، أصبحت أنا الغريبة الآن؟! - كلام الرجال لا شأن للنسوان به. - كذا، طيب.
لم يكن عمي نصر بك وحده حين دخلت حجرته، ولم يكن الحديث الذي يجري بينه وبين الموظف يهمني، ولم أكن قد زرته كثيرا في مكتبه، فلم يتح لي من قبل أن أستوعب أناقة الحجرة، فانتهزت هذه الفرصة ورحت أقلب نظرتي في كل شيء. الغرفة كبيرة، كبيرة وليس في هذا جديد بالنسبة إلي، إنما الجديد مقدار الأناقة في أثاث الغرفة؛ لقد كان كل كرسي فيها تحفة من التحف، ولكن الذي فاجأني أنني وجدت بالغرفة أربعة أجهزة تكييف الهواء، لم أكن قد أحصيتها عددا قبل اليوم، وقبل أن أفرغ من دهشتي، كان عمي نصر بك قد فرغ من حديثه مع الموظف، وانفردت به وبي الغرفة والأجهزة الأربعة لتكييف الهواء: هيه يا سي أيمن. - تحت أمرك. - ما رأيك تعمل معنا هنا؟ - والجريدة؟ - ما لها؟ - أتركها؟ - من قال لك أتركها. - آه! وماذا تريدني أن أعمل؟ - مديرا للعلاقات العامة وللإعلانات. - وهل هذه الوظيفة خالية؟ - أصبحت خالية. - تقصد ... - منذ تزوجت أنت تحية وأنا أحاول أن أبعد عنها الموظف الذي كان يعمل بها. - من أجلي؟ - من أجلك. - فقط؟ - ولسبب آخر لا بد أن تعرفه. - وهو؟ - يا سيدي مدير العلاقات العامة هذا يتقاضى عمولة على الإعلانات. - رسميا؟ - ماذا تقصد بقولك رسميا؟ - أقصد أنها عمولة تعرف بها الشركة رسميا؟ - تعرف بها الشركة نعم، أما رسميا فلا. - يعني هو وشطارته. - شاطر.
ومد ما بين الطاء والراء ذلك المد الساخر المعروف في لهجتنا نحن المصريين. - طبعا سعادتك لم تقبل. - لم أقبل ماذا؟ - أن يسمسر على الشركة. - وما العيب في هذا؟ - رشوة! - من قال؟ - ليست رسمية. - هل خسرت الشركة شيئا؟ - لا أدري، ولكن أظن ... - إذن فما البأس أن ينتفع أحد موظفيها؟ - يعني سعادتك كنت موافقا على هذه العمولة؟ - طبعا. - إذن لم جعلت الموظف يترك عمله؟ - طماع. - كانت عمولته كبيرة؟ - جدا. - فسعادتك لم يعجبك طمعه؟ - على العكس. - كيف؟ - هو يزيد العمولة على الذين يقومون للشركة بالإعلانات. - إذن فالشركة لا تخسر شيئا؟ - طبعا لا تخسر شيئا. - ولكن ألا تظن أن الجهات التي ستقوم بالإعلانات ستضيف هذه العمولة على أجر الإعلان في بنود أخرى دون أن تذكر كلمة عمولة. - طبعا. - إذن فالشركة هي التي ستخسر آخر الأمر. - وليكن، وهل كانت شركة أبي! - إذن، لماذا أبعدت الموظف؟ - قلت لك طماع. - آه! فهمت. - يا سلام! أخيرا. - كم كان يدفع لسعادتك من العمولة؟ - خمسة وعشرين في المائة. - فعلا طماع. - من؟ - الموظف. - ما رأيك أنت؟ - هل ستأخذ؟ - نحن هنا في عمل، زوج ابنتي هذا في البيت. - أنا زوج ابنتك وأبو شهاب. - كله لشهاب. - إذن كم تريدني أن أدفع؟ - قدرها أنت. - طبعا مثل الموظف السابق، غير معقول. - ولماذا إذن فكرت فيك؟ تعرف لقد فكرت فيك منذ تقدمت لتحية، قلت هذا هو الذي يستطيع أن يشغل هذه الوظيفة وليس غيره، وساعدتني أنت بأن أصبحت من رجال الصحافة المعدودين. - حتى لا أضيع وقت سعادتك، إن دفعت خمسين في المائة، أيكون ...؟ - أليس كثيرا؟ - لا، أبدا، كله لشهاب.
ويقهقه نصر بك قهقهة عالية وهو يقول: على رأيك، كله لشهاب.
6
حين دخلت إلى مكتبي في الشركة لم أكن أتوقع أن تكون نيمت هي التي تنتظرني، فقد أنبأتني السكرتيرة أن سيدة بانتظاري، ولم أدهش، فقد توقعت أن تكون فتاة ممن يعملن في الإعلانات تريد أن تحتال بجمالها لتنال مني إعلانا لمجلة لا يعرفها أحد.
فحين طالعتني نيمت جالسة أمام مكتبي تولاني نوع من الدهشة؛ فقد كانت ليلة الأمس تجمعني وإياها مع أصدقائنا الآخرين، ولم تشر في جلستنا التي امتدت ساعات طويلة أنها ستزورني. ترى كيف استطاعت نيمت أن تصنع هذه الابتسامة، ابتسامة من نوع خاص، فوجهها كله إشراق حتى ليخيل إليك أن كل مكان في جسدها يشرق بابتسامتها تلك. وفي لماحية عجيبة تصيدت الدهشة التي لا أشك أنها ارتسمت على وجهي لمدة لحظة أو أقل إن كان هناك أقل: أعرف أنك لم تكن تتوقع. - ولكن هذا لا يمنعني أن أكون سعيدا. - جملة محفوظة. - هي التي وجدتها الآن. - المهم. - المهم. - عندك مصباح أحمر.
وطلبت إلى السكرتيرة ألا تدع أحدا يدخل إلى مكتبي، وتفرغت مشوقا إلى أسباب هذه الزيارة: أيمن، حياتي أصبحت لا تطاق. - أدرك ذلك. - لماذا لم تكلمني؟ - خشيت أن أقحم نفسي على المشكلة. - هل تظن أنها مشكلة خاصة؟ - طبعا هي مشكلة خاصة. - يا راجل حرام عليك. مشكلة الشرق الأوسط لا يشترك في حلها مع الناس قدر المشتركين في حل مشكلة دري. - ومع ذلك لم أستطع أن أقحم نفسي. - أنا أريدك أن تتدخل. - بأي صورة؟ - أولا، هل تستطيع أن تخبرني لماذا أبعد دري؟ - هل تحبين الشعر؟
ابتسمت ابتسامتها المشرقة وأخفت في مقدرة بادرة الدهشة على وجهها: إذا فهمته. - قال الشاعر القديم:
لا تمدحن ابن عمار إذا نديت
كفاه يوما ولا تذممه إن حرما
فإنها خطرات من وساوسه
يعطي ويمنع لا بخلا ولا كرما - إذن فأنت لا تعرف سببا. - المؤكد أن إبعاده ليس للسرقة أو الرشوة. - كيف عرفت؟ - هذه أسباب تدعو لترقيته لا لرفته. - إذن فأنت تعرف السبب. - أقسم لك أن الذي رفته لا يعرف السبب. الواقع أن بقاء شخص ما مدة طويلة دون نقل أو رفت أمر غير مستحب. أتعرفين التقارير السرية كيف تكتب؟ - ومن أين لي أن أعرف! - إذا أراد الرئيس أن يتخلص من موظف يعمل عنده، كتب في تقريره السري محبوب من مرءوسيه. هذه الكلمات الثلاث كافية لرفت أي موظف. - معقول؟! - الحب عاطفة غير مرغوب فيها هذه الأيام. يجب أن يسود الحقد والدس والوقيعة والقسوة والطغيان والجبروت مع إهدار الكرامة والاعتداء على الأعراض. - نعم أعرف ذلك. - ويجب أن ندافع عن ذلك كله. - أيمن، أنت متألم؟ - لا أبدا، فقط أحس أنني قواد فاشل. - الظاهر أنك لم تستطع بعد أن تصل إلى مرحلة اللامبالاة. - أنا أهرب من نفسي بالجلوس إلى تحية وإلى ابني شهاب وابنتي هديل، تصوري أحسدهم؛ أحسد ثلاثتهم أنهم يفعلون ما يريدون دون أن تعارض نفوسهم ما يقومون به من أعمال.
وتضحك نيمت ويشرق جسدها. - عبد المعين، حكايتك سودا. - ألم تعرفي هذا إلا الآن؟ - دري لم يشعر بأي حرج منذ اللحظة الأولى، طبيعة تكوينه ساعدته على الوظيفة التي كان يتولاها، فحين أبعد عنها أصابته حالة تتراوح بين الذهول والجنون، وأنا وحدي من أتحمل ما يعانيه؛ فالأولاد لا يعنيهم من أمرنا شيء ما دام الذي يريدونه موجود. - والوالد؟ - المشكلة الآن ليست مشكلة فلوس. - آه! فهمت. والمحاماة؟ - يحاول، ولكن في مرارة، يختزن المرارة طول اليوم لتكون طعامنا اليومي. أيمن، هل تستطيع أن تكلم أحدا؟ - أنا؟ - ليس من الضروري أن يعود إلى عمله، ابحث له عن أي عمل يعيد إليه نفسه. - هل تظنين أني أتأخر يا نيمت؟ - أنا أعرف مكانتي عندك. - طبعا. - لا تظن أنني لا أفهم.
أرتج علي. لم يكن هناك شيء لتفهمه، وفي نفس الوقت لم أستطع أن أحطم غرورها؛ فالواضح أنها متأكدة أنني أكن لها شيئا. طال صمتي، تعلقت عيناها بشفتي، والموقف جديد بالنسبة لي، بل أظن أنه جديد بالنسبة للكثيرين، فالمفروض أن يكون مثلي هو البادئ، ويبدو أنها اضطرت للحديث آخر الأمر: أنا أعرف أنك لا تريد أن تقول شيئا.
ورحت أبحث عن شيء يكون مناسبا. أنا لم أفكر مطلقا في نيمت، بل لعلني لم أفكر في أحد منذ تزوجت، بل العجيب أنني كثيرا ما أتساءل لماذا يفكر المتزوج زواجا طبيعيا كزواجي في امرأة أخرى غير زوجته ؟! واستطاعت نيمت أن تفسر بغرورها الحيرة التي بدت في عيني التفسير الذي يرضيها: ما رأيك في شاليه الهرم؟
وفي ذهول وجدت نفسي أقول: هائل. - نلتقي هناك؟
وفي ذهول آخر: ماذا؟ - ما الغريب؟ - ظننتك تسألين عن موقعه.
وفوجئت بنيمت تنفجر في ضحكة عالية مرة، ومرة أخرى أحسست بكل ثنية من ثنايا جسمها تضحك معها، تضحك، تسخر، تنادي، تأتمر، تطلب، تأمر، بعنفوان المرأة تأمر.
وجدتني أريد أن أتمرد، ووجدتني أعرف لماذا أريد أن أتمرد، لقد خنت نفسي في كل ما أعمل، ولا أريد أن أخون زوجتي، ولا بد أن أتمرد، ارتسم على وجهي جمود التمرد، وراحت الضحكة تتحول إلى نوع من التشنج، وراحت القهقهة التي كانت مندفعة هادرة إلى الدنيا كلها تنزلق إلى داخل جسدها المهتز حتى انتهت الضحكة جميعا، وتجمدت نيمت كتمثال لم يرفع المثال عنه قماشه المبتل، وثبتت في وجهي نظرة فيها كره وفيها ضغينة وفيها تكبر بلا كبر، واتجهت إلى الباب، حتى إذا بلغته قالت دون أن تلتفت: أورفوار.
وواراها الباب عن ناظري، وارتميت على الكرسي منتصرا لأول مرة على نفسي.
7
كنت أظن أن السعار في النادي مقصور على الآدميين. وقد مرنت على سعارهم، فكنت أدخل إلى النادي وكأنني داخل إلى بيتي، فأنا آمن هادئ مطمئن.
حتى كان يوم طلبت إلي تحية أن أمر بها في البيت لأصحبها إلى النادي لأن سيارتها كانت معطلة؛ فقد تعودنا أنا وهي أن نلتقي في النادي عند الظهيرة، ومن هناك نتفق إن كنا سنتناول غداءنا في النادي أم في البيت حسب الترتيب الذي تكون تحية قد أعدته. وقد كان الأمران بالنسبة إلي متساويين؛ فسواء عندي تغديت في النادي أم في البيت. فلم تعد تكاليف الغداء في النادي من الأمور التي أبحث فيها الآن بعد أن أثريت هذا الإثراء.
أنهيت عملي في الجريدة، واتجهت إلى الشركة فألقيت نظرة عاجلة، ثم ذهبت إلى البيت. ووجدت تحية قد أعدت الترتيب أن تتغدى في النادي: ما دام الأمر كذلك، فدعيني أقعد قليلا مع العيال حتى تلبسي. - أنا لابسة. - دعيني أقعد معهم قليلا والسلام. - اقعد. فقط لا تطل القعود. الشلة تنتظرنا هناك. - الشلة! من منهم؟ - كلهم تقريبا. - لن أتأخر.
توقيت عجيب أصنعه أنا والقدر في تآلف موسيقي. لماذا بقيت مع الأطفال هذه المدة التي بقيتها؟ ولماذا تغدينا في النادي؟ ولماذا تعطلت سيارة تحية؟ ولماذا تركت الأطفال في الوقت الذي تركتهم فيه بالذات دون تقديم أو تأخير؟ أهو قدر؟ ولكنني أنا وتحية والصانع الذي صنع سيارتنا، جميعنا اشتركنا في هذا التوقيت، فهو نحن جميعا. تآلف موسيقي كأننا أفراد أوركسترا ضخم والقدر هو المايسترو يحرك خطواتنا في توافق ليصل بنا إلى أحداث مرصودة لنا؛ فنحن نشارك في العزف، ولكن لو لم يشترك معنا الآخرون لاختلف النغم ولو لم يمسك المايسترو عصاه لاختل التوازن ولم تحدث الأحداث. لا يهم أن تكون الأحداث سعيدة أو محزنة، إنما لا بد لها أن تحدث على أية حال.
فإن القدر لا يعني كثيرا أن نكون سعداء أو تعساء، كل ما عليه أن يقود الأوركسترا ويتم التناغم ويستمر العزف.
بلغت النادي، ووجدت مكانا أوقف به السيارة وإن كان بعيدا بعض الشيء عن قاعة الطعام التي نقصدها. ونزلنا أنا وتحية، وأخذنا سمتنا إلى أبنية النادي، وفجأة أقبل كلب ينهب الأرض لاهثا يتدلى لسانه من فمه قاصدا تحية وكأنما هو يعرفها أو كأنما هو مرسل إليها، ودون أن أشعر بما أفعله وجدتني أخطف تحية إلى الخلف وأتصدى أنا للكلب أستقبل هجومه. دفعني بكلتا يديه في صدري فكدت ألقى إلى الأرض، ولكنني تماسكت بعد أن تخلجت أقدامي وعاد إلي الكلب، لا يدفعني هذه المرة، وإنما ليعضني في ساقي عضة مغيظة، وأجد نفسي أركله محاولا الهرب. ولكنني أصيح أن يمسكوا به، فينبت من بين الحراس خبير بشأن الكلاب ويمسك به ويحبسه.
وتجري التحليلات، إنه كلب مسعور، وأبدأ في العلاج، ما أهون العلاج بجانب الحب الذي تبدى لي من تحية ومن أمها ومن أبيها جميعا.
عادت تحية إلى أيام حبنا الأول منذ نحن نلتقي تحت الشجرة الحالمة في بيت أبيها. لقد أحسست فجأة أن حبي لها حب تلقائي، لا تفكير فيه، وهو في نفس الوقت مليء بالتفكير. أحسست أن الوهلة التي دفعتها فيها لأتلقى عنها الكلب قد جمعت كل حياتي لتكون وقاء لها ودرعا وحماية. وأحس أبوها وأحست أمها أن تحية في ظل رجل يبذل حياته دون تردد من خوف أو تريث فيحمي ابنتهما. فإذا الهدايا تنسكب علي ألوانا شتى.
ولكن هذا لم يجعل نصر بك يفكر في أن يتنازل عن نصيبه في عمولات الشركة. فالواقع أن الرجل حازم غاية الحزم في فصل المسائل العائلية عن أعمال الشركة.
أما حماتي، فقد فرحت بي لأني حميت ابنتها وفرحت بي أكثر لأنني أصبحت حديث الجرائد والمجلات لعدة أيام.
أما تحية فهي وحدها التي تدفقت بحبها علي تسكبه ألوانا متجانسة ومختلفة، ولولا الخجل لقلت إنني أرهقت بعض الشيء من هذا الحب، وإن أكن قد تمتعت به متعة لم أعرفها في سني زواجي جميعها، بل ولا أحسب أنني عرفتها عند السيدة الفاضلة حميدة دعبس.
8
لا يهم أين كنت، ولا يهم كيف جئت إلى بيتي قبل موعدي بليلة، لا يهم شيء من هذا، إنها تفاصيل تافهة صغيرة حقيرة دبرها الاتحاد الاشتراكي، وتحية وأنا وماجد وعصا القدر الذي يعزف سيمفونية الحياة المقيتة العجيبة المميتة دون أن تميت، والتي تصيب الإنسان في مقتل وتبقي عليه بعد ذلك جثة تحيا ولا تحيا، تعيش ولا تعيش، تسعى على قدمين وهي من داخلها تحمل الجثمان والكفن والقبر والنهاية.
زوجتي في أحضان ماجد! بهذا طالعني الفراش حين فتحت الباب. أسرعت أغلق الباب، ثم عدت وفتحته، ثم أغلقته، ثم فتحته، ثم ذهلت، ثم صحوت لأجد نفسي أتراجع خطوات لألقي بالبقية الباقية من جثماني على مقعد، ثم أنا في عالم آخر، أدريه ولا أعرفه، أعيه ولكني عنه في غيبوبة، أسمع صوتهما في شهقات ولا أسمع مما يقولان شيئا. لم يكن هناك شيء يقال إلا الهمهمة والخزي والألم يعتصر كل شيء في. لكن لماذا؟ للجنس؟ إنني مرهق من الجنس! للحب؟ إنني مرهق من حبها! للمال ؟ المال لديها! للمتعة؟ فماذا كنت أصنع طوال الأيام الماضية؟ حتى الأمس، الأمس فقط؟! لماذا؟ أنا أشهر منه، وأنا أجمل منه، وأنا أكثر شبابا منه، وأنا حبها الأول! المؤكد أنني حبها الأول! وأنا أبو أولادها، وأنا حب الطفولة والصبا والشباب، صنعنا أيامنا على أيدينا، وصنعناها كما تشتهي هي أن تصنعها. إذن لماذا؟! لماذا؟! لماذا؟! لماذا؟!
خرجت، و«لماذا؟!» تتدفق مع كريات الدم في عروقي وفي ضميري وفي عقلي وفي كياني.
ذهبت إلى بيت أبي والليل يقترب من الصباح، معي المفتاح لم أخلعه عن جيبي، فقد كنت أحس به الشيء النظيف الوحيد الباقي في كياني. كان هو وزوجتي اللذان يمثلان الصدق في حياتي، والآن لم يبق إلا مفتاح بيت أبي فقط، دخلت إلى حجرتي القديمة، وأغلقت الباب ثم أغلقته، ثم أتيت بكرسي ووضعته من خلفه، وجلست عليه. لم أكن أريد الحياة أن تتسلل إلى هذه الحجرة.
كم من الساعة بقيت؟ لا أدري. كم من الأيام بقيت؟ لا أدري، لقد فقد الزمن معناه، وسقطت الحياة جميعا بعد أن كانت أمام ناظري بناء شامخا يشدني إلى ذراه. وأحسست كأني شجرة صوحت وانخلعت جذورها من أعماق الأرض لتصبح جذورا من العدم، فهي كلا شيء، كهباءة لا معنى لها ولا كيان، ولكنها مع ذلك موجودة، شائبة هي في وجودها، عقيمة هزيلة ككلمة لا تقال من فم أبكم تصدر، وإلى أذن صماء تذهب. وهذه ال «لماذا؟!» ما زالت ترج كياني كله، تزلزله في ضربات طاغية منتظمة الوقع رتيبة الميقات، ولا أطيق منها فكاكا ولا عنها منصرفا.
حين خرجت من الحجرة كانت الحياة قد تكونت أمام ناظري بشكل جديد. وكنت قد دبرت في خلوتي كل شيء.
أخبرت أبي وأمي أنني تارك زوجتي لأننا غير متفقين. لم أحب أحدا غيري يعرف أن أم هديل وشهاب عاهرة، بل أحقر من عاهرة؛ فقد تجد العاهرة سببا لعهرها، وقد تجد الخائنة سببا للخيانة من كره لزوجها ومن فارق سن بينهما أو من سوء خلق له، ولكن أم شهاب وهديل عاهرة لغير ما سبب من هذه الأسباب التي قد تقيم عذرا لها أمام نفسها أو أمام بعض الناس. إنها عاهرة بسبب لا أعرفه حتى الآن، ولكنني مصمم أن أعرفه. وعلى كل حال فلا ذنب لشهاب وهديل أن تطالعهما الحياة بهذه السمعة.
خرجت من بيتنا وركبت سيارتي. نعم، السيارة التي أهدتها إلي، إنني الآن أكثر استحقاقا لها؛ لقد دفعت فيها كرامتي بجانب الكثير من شبابي، وذهبت إلى المأذون وأتممت إجراءات الطلاق، وأرسلت الورقة بالبريد المسجل المستعجل.
ثم توجهت من مكتب البريد إلى ... - أهلا، ألم أقل لك إنك ستأتي؟ - وقد أتيت. - طلباتك. - ستدهشك طلباتي يا ست حميدة. - لن تستطيع أن تدهشني أبدا. - سنرى. - قل. - أريد أن أتعرف بسيدات شابات. - لا غرابة في ذاك. - متزوجات. - غريبة بعض الشيء، ولكن لا بأس. - وأريد ...
وصمت قليلا ورأيت الست حميدة وقد تحولت إلى أذن كبيرة: قل. - أريدهن على حب مع أزواجهن.
وفجأة صعد إلى وجه الست حميدة نوع من الحب تخالطه آثار من الشفقة جاهدت أن تخفيها، ومن خلال هذا الجهد وثبت إلى عينيها دمعات، فلوت رأسها مسرعة، ثم عادت بها منكسة وهي تقول: طلباتك موجودة يا ابني.
9
حين التقيت ببهيرة في الغرفة التي خصصتها لنا الست حميدة، راحت في عجلة تخلع ملابسها، فعاجلتها: فيم العجلة؟ - لا بد أن أرجع إلى بيتي بعد ساعة على الأكثر. - سأجعلك تذهبين في الموعد. - كيف؟ - معي سيارة. - وأنا معي سيارة. - أريد أن أتحدث إليك. - ألهذا جئنا إلى هنا؟ - أحببت أن أتعرف بك. - لماذا؟
لم أدر ماذا أقول ولم تسكت هي: نهاية التعارف بين امرأة ورجل أن يصلا إلى هذا، وما دمت قد وصلت، فماذا تريد من التعارف؟ - ربما كنت أريد أن أتحدث إليك. - وهل هنا مكان صالح للحديث؟ - فعلا لك حق. اخلعي ملابسك.
ووجدتني فجأة أرغب عن الحديث وأشتهي أن أفرغ بين أحضان هذه المرأة التي أراها لأول مرة كل العفة التي ألزمت نفسي بها فترة زواجي من تحية، وحين جلست قلت لها: أريد أن أزورك في بيتك.
وسكتت وراحت تلبس ملابسها في صمت، وسيطرت على ذهني هذه ال «لماذا؟!» التي لا تريد أن تفارقني والتي أخالها ستقتلني في أتونها: هل زوجك شاب أم رجل عجوز؟
ودون أن تلتف إلي: عجيبة اهتمامك هذا بزوجي، ألا أكفيك أنا؟ - أريد أن أعرفك، أن أكون صديقك. - إن صداقة تقوم بيني وبينك من طبيعتها أن تنتهي بهذا الذي كنا نفعله الآن. - هناك ناس يحبون أن يبدءوا من النهاية. - هذا لا يكون إلا في القصص. - وأنا أكتب القصص أحيانا. - أنا أعرفك. - لماذا لم تقولي؟ - ليس من المفروض أن أقول. - من الذي فرض هذا؟ - أصول العلاقة التي تقوم في بيت الست حميدة، المفروض أنه لقاء يتم وينتهي ويمضي كل إلى حال سبيله. - فإذا أردت أنت لهذه العلاقة أن تتطور؟ - أكون بهذا قد خنت السيدة حميدة. - وأنت لا تحبين أن تخوني الست حميدة؟
لم تجب، ووجدت نفسي مضطرا أن أقول: وإذا استأذنت أنا الست حميدة. - في هذه الحالة ننظر في الأمر.
الشقة التي تسكنها فاخرة، فهي لا شك في غير حاجة إلى الأجر الذي تتقاضاه من الست حميدة، واستطاعت بحيلة بسيطة أن تعرفني بزوجها؛ فأنا صحفي وهو يعمل في مكتب أحد الوزراء، ويمكن جدا أن يكتب صحفي بحثا عن مكاتب الوزراء. زوجها شاب أنيق غاية الأناقة، لا يتغاضى عن أناقته هذه في مخارج ألفاظه وفي اختيار هذه الأناقة، وهو من هذا النوع الذي يمكن أن تتناغم أناقته مع ملامح وجهه، وواضح جدا أن الأناقة تمثل عنده أساسا من أسس الحياة التي لا تقوم الحياة إلا بها، وواضح أيضا أن بهيرة تحب هذه الأناقة في زوجها وتعجب بها وتتحراها في حياتها. قدمت لي الويسكي في عناية بإعداده، وحفت الكأس بألوان شتى من المأكولات التي تحيط بالويسكي، لم تغفل منها شيئا حتى الكفيار والفواجرا. وكان هاني سعيدا بالطريقة التي تقدم بها بهيرة الشراب إلي، سعيدا بأن بيته مستعد هذا الاستعداد الأنيق. وكلما التقت نظرة من بهيرة بنظرة من هاني أكاد أرى نوعا من ضوء الحب العميق يشع في الأجواء.
لا يمكن أن يقوم هذا الحب جميعه بين الاثنين إلا على أسس كاملة، فلا يمكن مثلا أن يكون الزوج عاجزا، أو قد يكون، وعزمت أن أسأل بهيرة عن هذا في لقائنا القادم. ترى هل تصارحني؟
ووجدت نفسي أندفع في توطيد الصداقة بيني وبين هاني: أنت تعرف أن سكرتير الوزير يجب أن يبقى في الظل. - أعرف هذا. - فما هذا البحث الذي تريد أن تقوم به؟ - ما رأيك أنت؟ - حين أخبرتني بهيرة رأيتها فرصة أن أتعرف بكاتب لامع مثلك. - أتعتقد فعلا أنني كاتب لامع؟ - وهل في هذا شك؟ - شك كبير، ماذا قرأت لي؟ - تكفي صورك في الجرائد وأحاديثك في الإذاعة والتليفزيون. - ولكن هذا جميعه لا يدل على أنني صحفي لامع. - فعلى ماذا يدل؟ - لا علينا. - المهم أنني أحببت أن أتعرف بك. - وأنا أحببت أن أتعرف بك.
وكأنما وجدت بهيرة نفسها قد سكنت طويلا: الله! الله! المسألة انقلبت إلى غزل. - غزل لغيرك وأنت موجودة، هل هذا معقول؟ - طبعا أنت رجل بضاعتك الكلام. - لا أبدا، عندي بضاعة أخرى. - مثلا. - مثلا عندي لوج الليلة في الباليه. - والنبي؟ - والنبي. - هاني، ما رأيك؟ ألححت عليك فلم تستطع أن تجد لنا ...
وقاطعها هاني: لا داعي لكثرة الحديث، اذهبي والبسي. - هيه، أنت هائل يا أستاذ أيمن! - لو قلت أستاذ هذه مرة أخرى ألغيت الدعوة. - ولا يهمك يا واد يا أيمن.
وذهل هاني: الله الله! كذا مرة واحدة! لا مؤاخذة يا أستاذ أيمن. - وأنت أيضا، إذا كررت أستاذ هذه سأوقع عليك عقوبات شديدة.
10
لم أكن أتوقع طبعا حين رفعت سماعة التليفون أن أجد هذا الصوت يطالعني بهذا الاسم: أنا عمك نصر. - ماذا؟ - ما دمت لم تسمع، فأنا نصر الملواني رئيس مجلس إدارة الشركة التي تعمل بها.
صمت لحظة وعاد إلي الصوت: ماذا؟ ألم تسمع هذا أيضا؟ - بأي صفة من الصفتين أجيب؟ - اختر الصفة التي تجعلك تجيب وتتكلم. - إذن، فأنا أختار الصفة الثانية، وأنا تحت أمرك. - لماذا لا تأتي إلى الشركة؟ - اعتقدت ... - حمار. - نعم! - هو ما سمعت. - أنا قادم إليك.
يمكن أن يكون رد الفعل ما حدث أي شيء إلا أن يكون مزاحا، لا بد أن الرجل لم يعرف حقيقة ما جرى في غرفة تحية: لماذا لا تأتي للشركة؟ ألست موظفا بها؟ - الظاهر أن حضرتك لم تفهم الوضع تماما. - أي وضع؟ - الذي كان بيني وبين ...
ويقاطعني في سرعة: بينك وبين أحد موظفي الشركة؟ - لا بيني وبين تحية. - هل في هذه الشركة موظفة اسمها تحية؟ - ابنة رئيس مجلس الإدارة. - موظفة هي في الشركة؟ - لا زوجتي. - زوجتك يا شاطر هذه في البيت، نحن هنا في شركة أموال عامة. - يا نصر بك، لا بد من توضيح المسائل. - أية مسائل؟ - الأمور لا تكون بهذه البساطة. - ترجع إلى عملك أولا. - مسألة عملي هذه بسيطة، إنما لا بد أن تعرف ما جرى. ما رأيته بعيني. وصمت قليلا وهممت بالكلام فأشار إلي أن أصمت، وأطرق لحظة.
ثم رفع عينين متكسرتين: إذا شئت أن تتكلم فتكلم، ولكن اسمح لي أن أتكلم أنا أولا. إن ما بينك وبين زوجتك لا يجوز أن يتدخل فيه أحد. - حتى أنت؟ - حتى أنا. - أبوها؟ - لا أبوها ولا أمها ولا أحد. - هذا غير معقول. - سيأتي يوم تعرف أن هذا هو المعقول، هل قلت شيئا لوالدك أو والدتك.
الرجل لا شك يعرف كل شيء، أطرقت خجلا من أجله: لا، لم أقل شيئا، من أجل شهاب وهديل لم أقل شيئا.
وأشرقت ابتسامة على وجه نصر: عاقل. - ولكن لا بد أن أقول لك. - لا أريد أن أسمع شيئا. وربما جاء يوم تشكرني فيه لأنني لم أسمع.
صمت. إنه قواد راسخ القدم، يعرف كيف يستر الأمور حتى على نفسه: تعود إلى عملك بالشركة.
ولم لا؟ لقد كنت أدفع له نصيبه، فهو منتفع بوجودي بالشركة مثل انتفاعي أنا بهذا الوجود. وقد كنت أدفع شبابي في مقابل هذه الوظيفة. فما البأس اليوم أن أدفع صمتي؟ وقد كنت سأصمت على أية حال من أجل ابني وابنتي. أي بأس إذن أن أعود؟! نعم أعود.
11
كانت مواعيدي مع بهيرة تتحدد بالتليفون، ثم نلتقي عند الست حميدة، وقد حاولت في مرات عديدة أن أعرف شيئا عن سر خيانتها لزوجها فلم أستطع. عجزت في لقائي معها أن أعرف السر، وعجزت في لقائي معها أن أصل إليه. ولكن صداقة جديدة على أية حال قامت بيني وبينها هي وزوجها معا. وقد كان الزوج واثقا في إلى درجة أنه كان يجعلني أصحب بهيرة إلى النادي وحدنا ويلحق بنا إلى هناك أو يشغله عمله فلا يلحق بنا. استغلق علي السر فترة ليست بالقصيرة، إلى أن كان يوم كنت فيه مع بهيرة في بيت حميدة، واستطعت من خلال همهمة تكاد لا تحس أن أدرك السر. أو على الأقل خيل إلي أنني عرفته. لقد كان زوجها محروما مما يتمتع به جنسه، وحرمت هي مما يتمتع به جنسها.
إذن فلبهيرة أسبابها في أن تخون زوجها! لا غرابة إذن فيما تفعله، ولا عجب.
فلأحتفظ إذن بصداقة بهيرة وزوجها، ولأواصل البحث الذي رصدت له نفسي.
عرفتني الست حميدة بسيدة أخرى في أواسط الشباب، جميلة ذات جاذبية، يعمل زوجها وكيلا للوزارة، وفي أول لقاء في بيت الست حميدة عرفت أن لها أولادا، فالسبب الذي توفر عند بهيرة لم يكن متوفرا عند لواحظ، ولم يكن من الصعب أن تدعوني لواحظ إلى بيتها، بيت يجاهد أن يبدو أنيقا، ولكن يخذله الجهد. واضح أن زوجها رجل شريف في عمله، لا يقبل أن يمد يده لغير ما يستحق.
ولم يستغرق الأمر كثيرا لأعرف السر الذي يقف وراء خيانة لواحظ لزوجها؛ فهي تحبه أشد الحب، وتريد أن توفر له ولبيته كل ما يحتاج إليه هذا البيت، فباعت نفسها لزبائن الست حميدة حبا لزوجها وحفاظا منها على بيتها. إن هذا المثل لا يصلح لي أيضا، لم يكن المال لينقص تحية، ولم يكن ماجد الذي يعوض هذا النقص إن وجد. فلتكن لواحظ وزوجها فائق بك أصدقاء. ولأعد للبحث مرة أخرى.
سيدة خمرية اللون ذات شعر أسود منساب حالم، وعيون فيها دعة وفيهما جرأة، جمعتنا الحجرة، وسعدت بهذا الاجتماع سعادة لم أعهدها من قبل. زوجها يعمل في جهات كثيرة من القطر، ويغيب عنها كثيرا، وهي تحب ألا يغيب عنها زوجها كثيرا، فهي تحب الحب لذاته، ولا يعنيها في كثير أو قليل الرجل الذي يمارس هذا الحب معها. نوع من الهواية لا تعرفه تحية بكل تأكيد.
وأصبحت نعيمة صديقة هي أيضا، وما لبثت أن عرفتني بزوجها ليدخل في زمرة الأصدقاء، ولكن البيت لم يمدني بالسبب الذي خانتني من أجله تحية.
عرفت أزهار وعرفت زوجها، سيدة جميلة هذا النوع الهادئ من الجمال، ولكنها مجنونة بحب البذخ، وزوجها غني وكريم، ولكن غناه وكرمه جميعا لم يستطيعا أن يواجها رغباتها في حب الشراء وحب الإنفاق، فتعرفت على الست حميدة واستطاعت بجهدها الشخصي أن تصل إلى ما تريده من مال.
سبب جديد للخيانة، ولكنه لا يروي غليلي؛ فما هكذا تحية، فلأعد للبحث مرة أخرى.
12
كثرت صديقاتي، وكنت أصحبهن جميعا إلى النادي، ولم تكن واحدة منهن تجد حرجا أن تصحبني، فجميعهن ماهرات في خلق المعاذير لأزواجهن.
وأصبحت ذا شهرة واسعة في عالم المغامرات، ولكن شهرتي مهما يكن شأنها لم تخفف من دهشتي يوم استدعاني رئيس التحرير: اسمع، سأطلب منك طلبا، إن رفضته قتلتك.
على وجهه ابتسامة إنسان لا رئيس، وخيل إلي أن الابتسامة انتقلت إلى شفتي أنا أيضا: من غير قتل، قل ما تريد. - البنت التي كانت معاك أمس في النادي. - بهيرة؟ - اسمها بهيرة؟ - هذا هو اسمها؟ ما لها؟ - أريد أن أتعرف بها. - ماذا؟ - ألم تسمع؟
الواقع أنني سمعت. ما البأس؟ إنها ليست حبيبتي، وهي ليست شريفة، وإن رفضت قطعت رزقها. رزقها! يا نهار أسود، هذا ليس من حقي: لا يمكن. - ماذا؟ - ليس هذا من اختصاصي. - أي اختصاص تقصد؟ وهل تتكلم الآن في الاختصاصات؟ - إن لها مدير أعمال. - مدير أعمال؟! - أو مديرة أعمال إذا شئت. - الحقني. - أكتب هذه النمرة.
وأمليته تليفون الست حميدة. - وماذا أقول؟ - آه جئنا للكلام المهم. - لا يمكن طبعا أن أقول لها أنا رئيس تحرير جريدة الأيام و... - لا، لا طبعا. - إذن. - لا بد مما ليس منه بد.
وأمسكت سماعة التليفون، وفي لحظات كنت قد رتبت الموعد للأستاذ عبد الحليم راشد مع بهيرة بالطريق الطبيعي لذلك.
مرت أيام ونسيت أمر هذا الموعد الذي أعددته، وذهبت إلى الست حميدة لأواصل بحثي الذي لا يريد أن ينتهي بي إلى شيء يريحني.
كانت الست حميدة قد وعدتني أن تعد لي فتاة جديدة أمارس عليها البحث، فما أن رأتني: أهلا، أين أنت؟ - أنا لم أتأخر، موعدك معي اليوم. - آه، والبحث جاهز، ولكن ليس هذا الذي أريدك فيه. - خير. - لك عندي رسالة. - رسالة ممن؟ - مني.
وأعطتني ظرفا مغلقا، قلبته في يدي ثم سألتها: ولماذا لا تقولين أنت الرسالة وأنا أمامك بشخصي؟ - هذه رسالة لا تقال، وإنما تسلم. افتح الظرف.
وجدت بالرسالة ثلاث ورقات من فئة عشرة الجنيهات. - ما هذا؟ - نصيبك. - نصيبي فيم؟ - في الزبون الذي أحضرته. - كل هذا نصيبي وحدي! لماذا؟ - الأجر الأول كله لك، وما يدفعه بعد ذلك لي أنا وللبضاعة المطلوبة. - خذي يا ست حميدة، أنا لم أفكر في هذا أبدا. - مصيبتك أنك لم تفكر. لماذا لم تفكر؟! وإذا جئت لي بسيدة أو فتاة فأجرك ضعف هذا.
كنت قد نسيت الغضب في هذه الفترة التي مرت بي بعد حادثة تحية وماجد، ولكنني فجأة وجدت الغضب يعود إلي، ويبدو أنه تمثل في نظرتي ووجهي، فقد فوجئت بالست حميدة: اهدأ وفكر. - من غير تفكير. - دايما يا أيمن التفكير أحسن. فكر، إن لك أصدقاء كثيرين، وسيطلبون منك ما طلبه عبد الحليم، وستفعله، فلماذا تفعله مجانا؟!
جلست إلى جانبها وصمت طويلا، والظرف ما يزال في يدي أقلبه.
وفي خبرة قادرة راحت تنظر إلي، وأحسست بها ترى كل خلجة فكرة تمر برأسي. كانت واثقة من منطقها، وكان لي أنا الآخر منطقي. إنني في مقابل ما سآخذه منها سأبذل جهدا يستحق أجرا، فهو أجر مقابل جهد، أما مسألة الكرامة فلم تعد موضع مساومة. فأنا لم تعد عندي كرامة لأبيعها، لقد نفدت من عندي منذ زمن طويل. لقد بعتها في مقابل المال، ولعل المال الذي تقاضيته في سبيلها أكثر تحقيرا لي من حميدة، لقد بعت كرامتي وتقاضيت ثمنها من مال مخضب بدماء العاملين في بلدي، أما مال الست حميدة فهو مال مقابل لذة، إنه مال غير مخضب بدماء البشر، ومن يدفعه يحب أن يدفعه. أما المال الذي كنت أتقاضاه في الشركة أو من غيرها فهو أموال لم يسمح أصحابها لي أن آخذها، وإنما اغتصبها منهم قوم أغدقوها على أمثالي من قوادي الضمائر؛ كنت قواد رأي، وهذا ألعن ألف مرة من أن أكون قواد لذة. أما ما شعرت به من غضب فهو رواسب من عهد الطفولة ما لبثت أن أدركت سذاجته. لم تدهش الست حميدة حين وضعت الظرف في جيبي، ولا شعرت أنا بأي وخز من ألم، وسألت في انطلاقة نفس يعرفها أمثالي: هل جاء البحث الجديد؟
13
كنت جالسا بغرفتي بالشركة، وفتح الباب فجأة لتقف عليه تحية. ذعرت، انتفضت عن الكرسي أريد أن أهرب، ولكنها كانت تقفل الباب بجسمها، أردت أن أصرخ، ولكني خشيت أن تسمعني السكرتيرة، وأنا لا أريد أحدا أن يسمع هذا الصراخ، هذا الصراخ بالذات لا أريد أن يسمعه أحد، أحسست بأيدي شهاب وهديل على فمي يكتمان صراخي أن ينطلق.
وجدت نفسي كفأر أطبقت عليه مصيدة، ذهبت إلى أقصى الحجرة وكأني أبحث عن مهرب، وأنا أعلم ألا مهرب، وكل ما استطعت أن أفعله هو أن أوليها ظهري وأصرخ في صوت خفيض: اخرجي، أرجوك، اخرجي.
دخلت وأقفلت الباب وجلست وهي تقول: اهدأ، اهدأ يا أيمن.
أهدأ؟! هي الأخرى تطالبني بالهدوء، كالست حميدة. تذكرت الست حميدة، فوجدت نفسي أهدأ فعلا، كيف تستطيع النار المشبوبة اللاهية أن تخمد هكذا في جزء من هنيهة كأنما خفت أن تكون قد عرفت بالتجارة التي أمارسها مع الست حميدة. ولكن الأمر مختلف؛ إن السيدات اللواتي أرسلهن لسن زوجاتي ولا عرضي، الأمر مختلف، ولكني مع ذلك أجد نفسي هادئا. لا أريد لهذا الهدوء أن يبين على صفحة وجهي، فصرخت في هذه المرة صرخت بأعلى صوت لي: لماذا؟!
وساد صمت، ثم عدت أقول ودون صراخ: إنني من يومها أبحث: لماذا؟! لماذا؟! لماذا؟! - غلطت. - فقط. - الحقيقة أنني لا أعرف نفسي. - مجنونة؟ - ما رأيك؟ - لو كنت لحظت عليك جنونا ما أتعبت نفسي في البحث. - لعله نوع من الجنون المتقطع، لقد أردت أن أغامر، كل شيء ميسر لي، والحياة ملل، ولا بد لنا أن نقطع الملل. - بشرفك وشرفي وسمعة بنتك وابنك! - وما المغامرة؟ أليست مقامرة؟ - والمثل والمبادئ، طبعا كلام فارغ. - إنني ابنة نصر بك الملواني. - فعلا، لك حق، المثل عندكم من لون مختلف. - تأكد، لن يتكرر هذا. - ما شأني أنا، تكرر أو لم يتكرر؟ - أنا زوجتك. - طلقتك. - لا بد أن تعود معي. - أعود معك! - إلى شهاب وهديل. - ومن أدراني أن ماجد وحده؟ لعل هناك ... - تقصد هناك غيره؟ - أم تراك مخلصة له؟ - المسألة مجرد قطع ملل، ولا تحتاج لأكثر من واحد. - هناك قواعد للدعارة؟ - قواعد للمغامرة. - إن لم تغفر من أجلي فمن أجل الأولاد. على الأقل امنع تقولات الناس.
صمت. كيف أسمح لهديل أن تربيها هذه المستهترة؟ وكيف لا أحمي سمعة شهاب أن يلوكها أصدقاؤه؟ وأنا، ما أنا؟ لأكن ما أكون، ولكن وجودي على أية حال قد يجعلها تتخفى فلا تتبجح. صمت، وطال الصمت، ولم أجد شيئا أقوله ولم تقل هي أيضا شيئا. صمت مطبق لم يتصل فيه حتى هذا الحديث الذي يمكن أن يدور بين اثنين صامتين في غرفة واحدة. صمت مطبق حتى لم يعد برأسي شيء أفكر فيه.
وسألت في لهجة أعرفها، وكأننا عدنا زوجين، بل كأننا ما افترقنا: هل سيارتك معك؟
صمت قليلا ثم قلت: نعم. - أنا بدون سيارة. سيارتي يصلحون لها الفرامل. - أرجو أن تصلح الفرامل. - هيا بنا.
وقمت مستسلما، وفي الطريق ملت إلى فندق هيلتون لأشتري تورته وجاتوه للأولاد، ونزلت معي إلى الفندق، وحين هممت أن أدفع الحساب وجدتني أخرج ظرفا من ظروف الست حميدة، وقالت تحية: أين محفظتك؟
ودون تفكير قلت: هكذا أسهل.
وبينما كانت البائعة تبحث عن باقي النقود رحت أفكر كيف أشتري بنقود الست حميدة حلوى لأولادي، ولكن ما البأس؟ إنني سأشتري لهما أشياء كثيرة بهذه النقود، فأنا قد عرفت مصيري وعرفت مصير أمهما. وكل ما أسعى له في الحياة ألا يعرف شهاب السيدة حميدة إلا كما كنت أعرفها أنا قبل الزواج، وألا تعرف هديل الست حميدة مطلقا. ولعلي بما اكتسبت من خبرة في الصحافة وفي المجتمع وفي حجرة تحية وفي حجرات حميدة، لعلي أستطيع أن أبلغ بابني وبابنتي إلى هذا الذي أصبو إليه.
صفحة غير معروفة