وكأني بالدكتور فيليب حتى، حين رأى الناس يسمعون كلمة جبران في حفلة تكريمية وقوفا، ويقدمون للناس كتبه مجلدة مفضضة كالإنجيل والكتب السماوية، أعلن على الملأ في كلمته التي ألقاها في تلك الحفلة:
إننا نرجو أن يظل جبران بيننا.
وبعد موت هذا المعلم العربي العظيم قال الدكتور حتى أيضا: «والحقيقة هي أن اسم جبران وحده - لسمعتنا ونفوذنا في هذه البلاد - يساوي كل ملايين الدولارات التي ادخرناها.»
هذا هو جبران اللبناني في نظر المنزهين، وقلما نرى كاتبا تعصب لجنسه وعرقه ولغته كجبران، فإذا فتشنا عن الألوان المحلية المستمدة من المحيط اللبناني وجدناها صارخة في ما كتب جبران بالعربية والإنكليزية، استمد الشاعر هذه الألوان الزاهية في إنشائه من سماء بلاده وأرضها، ففي التعابير الجبرانية بياض الثلوج، وخضرة المروج، واصفرار البيادر، وأنين المعاصر، وشقشقة العواصف، وشموخ الجبال، وحزم الأرز، ونواح الهاوية، وزمجرة الأودية، وثرثرة الينابيع، وعربدة الأنهار، وهلهلة الضباب.
استمد هذه الألوان واللدونة والمرونة والنعومة من أجواء لبنان، فاشتعلت حافات عبارته، وأرسلت نورا ونارا وموسيقى، إن تمسك جبران بشرقيته حمله على المحافظة على قوميته، فوقف كل ثروته على بلدته، ووعده هذا وذاك بشيء من ماله، إن صحت الرواية يذكرني بالثوري أحد بخلاء الجاحظ الذي كان يقول عند الإشهاد: «قد علمتم أنه لا وارث لي، فإذا مت فهذا المال لفلان»، فعلل الكثيرين بالآمال، وورث واحدا لا غير.
إن جبران لفي غنى عن الانتساب إلى قومية جديدة فهو وحده قومية، وحرصه على قوميته حمله على أن ينفخ روحا جديدة في لساننا العربي المبين، فقال في ذلك: «يكتب بعضنا لمن ماتوا ولا يدري أن قراءه في المقابر، ويكتب بعضنا لإرضاء معاصريه حاسبا أن في ذلك العظمة والخلود فيخطئ المرمى، ويكتب بعضنا؛ لأنه إن لم يكتب يمت وهذا من الخالدين.»
والذي عندي هو أن من يغالي في المحافظة على القديم بحذافيره يكون كمن يحفظ جميع أفراد أسرته ويبقيها في بيته، فأي رعب يحدث له، فلنكلف أنفسنا عناء الخلق، فالحياة إنما تجدد نفسها بمواليدها، ولا نخف آلام المخاض وأخطار الولادة، فهذه من لوازم الحياة.
يظن بعضهم أن ليس جبران إلا كاتبا خياليا، وقد ضل من ظن ذلك، فلجبران غرض أبعد جدا من هذا يلبسه ثيابا محاكة على نول حديث ومفصلة طرازا جديدا.
إنني لا أسمع حين أقرأ جبران في جميع أطواره إلا صوتا عاما يغني على نايه لجميع النفوس، بنشيدته المحزنة فتصبح صلاة الأطفال عند يقظتهم في الليل، إنه ينشد أروع شعره المحزن لتذكاراته القوية التي لا تموت، فيحس بتساقط أوراق الخريف موسيقى الأبدية، وهكذا يريك خطوات الموت واحدة إثر واحدة، فإذا شئت أن تحس وطنك وتشم أرض بلادك أيها اللبناني فاقرأ جبران، واشكر للعناية هذه الهبة، فقد أعطتك أديبا عالميا خالدا.
لا تنس أيها اللبناني من لم ينس لبنان حين رأى الدولارات تفد إلى صندوقه، فجمعها ليتركها من آثاره حيث نشأ وحيث يرقد الآن جثمانه، لا تبال بما يقال، فالذين يحولون الوجوه عنه لن يظفروا بشيء إلا الأسف واللوعة، اسمع الآن صوت جبرانك اللبناني فتعلم أن في الأدب الرفيع نفحة من النبوة، قال جبران منذ عشرات السنين:
صفحة غير معروفة