قلت: بلى، علمت شيئا، وبناء عليه طلبت تدريس جبران؛ لأنه أخطر حدث أدبي في تاريخ نهضتنا الحاضرة، فلا يشق عليك أيها الصديق، ولا على شيخنا المنذر إن قلت لكم ولكل من يقرأ: إن عمل المنفلوطي لم يفق عمل من يجلو الصدأ عن حوائج البيت المعدنية، وأن كل ما كتبه هامد همود القبور ما خلا بضع مقالات تجول فيها الروح جولان الهر المنازع في جراب، أما التجديد فلا أشرك المنفلوطي فيه ولا بسهم؛ لأنه مقلد للأقدمين يفتش عن خرثيهم، ويحسب الفن كله في العبارة المصقولة، وفي فقه اللغة، والألفاظ الكتابية، ونجعة الرائد، ومعين الشرتوني، غنى للتلميذ عن المنفلوطي، وبرهاني على ما قلت أخذه ترجمة فرح أنطون لبولس وفرجيني، فرمى برنردين وفرحا بحجر واحد، وكذلك فعل بقصة جبران «صراخ القبور»، فخنق فن جبران ولم يفهم خطا واحدا من خطوطه، فكان كصانع أحمق ينقض على التمثال بمهدته ليجعل منه زاوية للمدماك.
ثم قلت إن المنفلوطي «قدم للأدباء الحقيقيين قوالب مصنوعة بيد صانع ماهر.»
أما أنا فأقول: وهل يستعير الأدب الحقيقي قالبا من عند أحد؟! ومتى كانت الروح تخلق قبل الجسد أو بعده؟!
أليس الكاتب الحقيقي من يخلق الأجساد ولا يستعيرها؟ فهو كالإسكاف وغيره ممن لا غنى لهم عن القالب.
إن الخياط الأستاذ لا يتقيد بالهنداز، وإن فعل فما يخيط ثوبا مهندما، بل قباء كالذي خاطه عمرو لبشار.
ثم قلت إن المنفلوطي كصانع الأقداح يصب الزجاج ويلونه، وعلينا نحن أن نملأه بالراح، أليس الأولى بالأديب والحالة هذه، أن يتشبه بالراعي الذي يكرع من النهر والعين ويترك طاسة الزنخ؟
وبعد، فلا تسم هذه الأباريق والأكواز والدوارق والصحون أقداحا ملونة، فيتسرب الشك إلى نفسي فيك، فلا تزعزع إيماني، أما ولغ في هذه القصاع مليون لسان؟ أما مستها مليون شفة؟ ليس هذا ما ندعو إليه أبناءنا، أما إذا كنت تريد أن يلهو أبناء هذا الجيل بالقشور فأوصهم بقراءة «افتتاحية» أحمد حسن الزيات في رسالته، فيشبعوا من هذا الخروب حتى البشم.
ولما عرضت لما وقع سنة 1933 في مجلس المعارف الأعلى قلت: وضعنا موضع البحث اسم جبران، فقال هذا العاجز: ألا ترى أن هذا «العاجز» منفلوطية بل أقدم عهدا؟ إنها تستأهل الجواب المألوف: كلك خير وبركة، فلماذا هذا التواضع العميق يا شيخ شباب الأدب؟
أما قولك أخيرا: «وليس من مخرج لنا من هذا المأزق إلا أن يتقدم صديقنا مارون عبود باقتراح يرمي إلى إدخال الأرشمندريت أنطونيوس بشير في منهاج البكالوريا وعند ذلك تنحل العقدة.»
الله كريم يا شيخ، ولعل من عقد الأمور يحلها، فليتك تصير جبران، ويترجمك الأرشمندريت.
صفحة غير معروفة