ليتك تترك الأموات يرقدون في قبورهم مطمئنين فمالك ولهم ... إلخ.
من رسالة كاهن
أبت وأستاذي.
لا إخالك ناسيا ما كنت تقوله لنا، ونحن صغار لم تطرر شواربنا بعد، عن وقفتنا أمام ربنا حفاة عراة، حين لا يشفع بنا غير أعمالنا الصالحة، وسيدتنا مريم العذراء، ولست أنسى تغنيك بهذا النشيد: إن قلبي في هوى مريم ... من كان للعذراء عبدا فلن يدركه الهلاك أبدا ...
أما الأديب فيدان مرتين؛ مرة: بحسب ناموس دينه، وأخرى: بحسب ناموس الأدب، فلا تجزع ولا تخف، فقبور الأدباء معرضة للنبش كل ساعة، ولا يقام على نابشها حد زياد في «البتراء»، فهنيئا لمن ينبش النقاد قبره وينقل آثاره الثمينة إلى متحف الفن، ويا ويله إذا لم يكن فيه غير عظام نخرة.
وبعد، فإن معضلة الأسلوب أو القالب أو المنوال قد شغلت العقل العربي أجيالا، فاحتال لها جماعة في كل عصر بأخذ الحبل من طرفيه، لم يعافوا القديم جملة اتقاء ثورة غوغاء الأدب وهم أكثر من السوقة وأشد خطرا، وأخذوا من الجديد بمقدار إرضاء لنفوسهم الظامئة إلى ورد غير الحياض المطحلبة، أما المجددون الذين تمردوا وخاطبوا الناس بلسانهم فأنكرهم جيلهم وكان كأورشليم، قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها، فعاشوا في أمتهم كالدجاجة الغريبة لا تصادف إلا مناقير من فولاذ تغرز في رقبتها.
أمامي الآن مقدمة ابن خلدون فاسمع ما يقول في هذا الشأن:
فما كان من الكلام منظوما وليس على تلك الأساليب - أي أساليب القدماء - فلا يكون شعرا، وبهذا الاعتبار كان الكثير ممن لقيناه من شيوخنا في هذه الصناعة الأدبية يرون أن نظم المتنبي والمعري ليس هو من الشعر في شيء؛ لأنهما لم يجريا على أسلوب العرب.
فهل من حرج علي إن وقفت من هذه الشهادة التي ينقلها إلينا ابن خلدون موقف المرتاب الشاك! فإما أنه يشهد بالزور، أو أن شيوخه هؤلاء شيوخ حقا لم تبق منهم الأيام قوة تميز بين شعراء المتنبي والمعري، ومهما يكن من أمر هذه الشهادة فهي دليل على تمسك العرب بالقالب حتى صيروا التعابير العربية كحصى «الدومنو» وحجارة النرد يسوقها الزهر، وينزلها منازل لا يشتهيها اللاعب، أما الفنان فينظر إلى ألفاظه ككائن حي يستمد الحياة مما حوله، وإن كان للصينيين قوالب حديدية يحصرون فيها أرجل بناتهم فلا تنمو ولا تكبر، فالقالب العربي فعل أكثر من هذا بعقولنا، فما أفقر أديبا لا أداة له من الكلام إلا ما قاله آباؤه وجدوده، وإن لم يعبر كما عبروا فقد كفر.
إننا نعجز عن خلق تعبير جديد فنحتج لضعفنا بتقديس الأسلوب، ومن استعرض آثار العرب رأى ثورات الزعماء في كل جيل، ونحاة وبلغاء يقمعونها، أما الجبار الذي خرج على أساليب القدماء وأغراضهم وتعابيرهم فهو المتنبي وقد سمعت ما يقوله فيه ابن خلدون ويسنده إلى شيوخه.
صفحة غير معروفة