لو مات لامنس في غير لبنان لتولت الحكومة دفنه ولو كان راهبا، ما كان لامنس للآباء اليسوعيين وحدهم، بل كان للبنان وللعرب أجمعين، فمن لنا بأمة تعيده تمثالا يذكرنا بأياديه البيضاء على تاريخها المجيد، إن لامنس أحيا الأمة وآثارها، فلتحتفل الأمة على الأقل بذكراه.
أين أنتم يا هواة الأدب! ألم تعينوا بعد تلك الساعة التي نجتمع فيها لتعظيم رجل خلق العظمة من صخورنا، والمجد ما نمر به ولا نشعر بفخامته! ففي مفرق كل قمة من قممكم تاريخ شعب هداكم إليه لامنس.
لست أدرس الآن ما تركه هذا الكاهن من آثار، ولست أنقد وأحلل، فأنا لم أقرأ من آثاره إلا ما نشر في بيروت، ولكن هذا يكفيني لأكتب مقرا بفضل رجل على أمة منثورة تحت سماء الله الواسعة، فهل يضيع فضل رجل في أمة شيمتها عرفان الجميل؟ اللهم لا.
إننا لا ننصف الأب لامنس إذا لم نعرف عن شعورنا نحوه بأثر فخم يذكرنا بفضله علينا، وهذا أقل ما يجب نحو هذا الراحل الجبار، فهلموا يا أصحابنا إلى إحياء ذكرى علامة جليل، أيموت رخيصا من أنفق أغلى ما يملك على درس بلادنا دراسة عميقة هي ذخيرة لنا؟ فهذا الفقيد العظيم متمشرق فاهم، وليجز الله عنا العلماء الفهماء، فهم سرج الأزمنة.
عرفت لامنس في وادي عين كفاع الرهيب، عرفته يوم كان نشيطا يفر مثل الطوير، ويتسلق جبلنا «العاصي» ليصعد إلى الكهف الأشدق، ليكتب عن «دير القطين» ويصف «سيدة البزاز» (تسريح الأبصار، ج1، ص92).
كنت يومذاك فتى لا أعرف عن لامنس إلا أنه «بادري» كما قال لي معاز الضيعة، ولامنس لم يلتفت إلي إلا مرة ليأخذ عني اسم الدير والكنيسة كما يعرفان، وأنا ما كنت أطمع منه إلا «بصليب وأيقونة ومسبحة»، ولكنني لم أظفر بشيء غير تخزق ثيابي، فعدت إلى الضيعة ليضحك مني رفاقي، وأنعت أنا هذا البادري بالبخل، ومنذ تلك الساعة لم أر وجهه قط، ولم أعرفه فيما بعد إلا من صورته المطبوعة لا أذكر أين.
وجاء بعده بادري يحمل مطرقة يكسر بها الصخور، فلم أذهب إليه بعد خيبتي الأولى، وأظنه زموفن الجيولوجي.
فهل حمل لامنس على صعود جبالنا ودخول كهوفنا المخيفة غير خدمة العلم؟ فلننهض إذا جميعنا لتكريم العلم والعلماء المخلصين بشخص هذا الفقيد الغالي.
إنني أوجه كلمتي إلى الذين عرفوا لامنس، ومن منا لم يعرفه! من منا لم يقرأ شيئا من فصوله الرصينة، وكتبه الثمينة التي تلقي الأشعة الثاقبة على ظلمات تاريخنا، إنني أوجه كلمتي خصوصا إلى أدباء الشباب الذين سيرون معينا أصفى من عين الديك في آثار لامنس، فقد عبد لنا الطرق القلقة المجاز، فلنتذكر جميعا هذا الغريب الذي أحب بلادنا حبا جما، ومات تحت سمائها، فلنجعل ذكره ممجدا.
أنا عالم أن شعار لامنس كشعار رهبانيته «المجد لله الأعظم»، فالله نسأل أولا أن يجزي من عمل لمجده، ثم نسأل الناس أن يحملوا قسطهم من الجزاء «الفاني» تشجيعا للأحياء واعترافا بفضل المحسنين. (2) عمر في يومه الأسود
صفحة غير معروفة