تظهر تلك الفكرتان بوضوح في المسودة الأولية لكتابه «مقال في الفهم البشري» (مسودة (أ) من مقال لوك في الفهم البشري). ويعير النص المنشور من النسخة الأولى انتباها أشمل بكثير للفكرة الأولى، بيد أن التوازن بينهما يعود جزئيا في حياة لوك من خلال سلسلة من التعديلات في الطبعتين الثانية (1694) والرابعة (1700)، وتحديدا من خلال عدوله المهم عن رأيه بشأن طبيعة الإرادة الحرة، ومن خلال الفصلين الجديدين اللذين يدور حديثهما حول الحماس وترابط الأفكار. (كان لهذا الفصل الأخير أهمية هائلة في تاريخ علم النفس، الذي صار علما خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وكذلك في تطور الأخلاق النفعية.) لكن حتى بعد إدخال هذه التعديلات، احتفظ «مقال في الفهم البشري» - إلى حد كبير - بشكل وأسلوب أولى طبعاته المنشورة ؛ ومن هذا المنطلق، فإن الصورة التي يقدمها للاعتقاد والمعرفة لدى البشر هي صورة متفائلة في مجملها، ولا يعزى تفاؤلها إلى كونها تقدم وعودا مبالغا فيها حول إمكانية تغيير الطبيعة البشرية من خلال التخطيط السياسي، ولا يعزى أيضا إلى كونها تغالي في حدود المعرفة البشرية أو تقلل من شأن الصعوبات التي يواجهها الإنسان في تنظيم أفكاره ومعتقداته بطريقة عقلانية، وإنما لأنها تدرس آليات عمل العقل البشري بهذه المفردات البسيطة والرصينة والمتواضعة؛ ومن ثم فالتفاؤل فيها مسألة أسلوب ونبرة أكثر منه مسألة محتوى، لكن حتى بوصفه نبرة، فقد تبين أنها نبرة مراوغة للغاية.
تنطوي هذه الصورة في المقام الأول على تأكيد ملحوظ حول نطاق التماثل المحتمل في الفكر البشري.
إنني أميل إلى الاعتقاد بأن الأفراد عندما يقدمون على فحص مفرداتهم، فإنهم يجدون أن كل أفكارهم البسيطة متوافقة عموما، على الرغم من أنهم في أحاديثهم ربما يحير بعضهم بعضا بإطلاق أسماء مختلفة عليها. وأعتقد أن الأفراد الذين يجردون أفكارهم، ويدرسون الأفكار التي تجول في عقولهم جيدا، يستحيل أن يختلفوا كثيرا في تفكيرهم (مقال في الفهم البشري، ومراسلات جون لوك).
شكل : الطبعة الأولى من «مقال في الفهم البشري»، أول عمل فكري للوك ينشره رسميا للجمهور.
إذا استخدم البشر فقط عقولهم وحواسهم - «مداخل» المعرفة - بعناية وصدق، فسيجدون أنفسهم «مجبرين» على معرفة ما ينبغي عليهم معرفته والاعتقاد فيه؛ ومن ثم سيكونون مجبرين على الاتفاق مع إخوانهم الذين يحققون استفادة على القدر نفسه من الرصانة والإخلاص من ملكاتهم. ومن العناصر المهمة لتحقيق هذا التوافق وتعزيزه الإقرار بقيود الفهم البشري وحدوده، وهو ما يطلق عليه لوك نفسه «ضحالة» الفهم البشري. وكما في غير ذلك من المواضع، يكمن في مركز تفكيره نوع من التوازن الدقيق بين الشك والإيمان.
من الصعب ألا نلحظ أهمية الإيمان لدى لوك عند سرده الأمور التي تدخل في نطاق معرفة الإنسان بالفعل، أو عند استعراضه للأسباب الوجيهة التي يعيش الإنسان حياته من أجلها. وأهم عنصر على الإطلاق في المعرفة الممكنة لدى الإنسان هو وجود الله : «إن معرفتنا بوجود الله تفوق في يقينها معرفتنا بوجود أي شيء آخر فيما عدانا» (مقال في الفهم البشري). وما يضفي على هذه المعرفة أهمية بالغة آثارها المباشرة والطاغية على الكيفية التي ينبغي أن يعيش بها الإنسان؛ فقدرة الإنسان على معرفة أي شيء ليست في حد ذاتها بالشيء الذي ينبثق من العدم في تاريخ العالم؛ لذا كان ثمة «زمن كانت فيه المعرفة منعدمة، ثم بدأت في الظهور»، وبالأحرى كانت المعرفة عطية مباشرة من الله العليم الخالد. ويتمثل الأساس الفعلي للأخلاق في «مشيئة وشريعة الله الذي يرى الإنسان في الخفاء، وفي يده الثواب والعقاب والسلطة الكافية لمحاسبة الآثمين الطغاة» (مقال في الفهم البشري).
طبيعة المعتقدات الأخلاقية
يرى لوك أن الأخلاق علم يمكن إثباته، شأنه شأن الرياضيات، حسبما أكد في «مقال في الفهم البشري»، وقد سبب له هذا الأمر كثيرا من العناء فيما بعد؛ حيث ظل الجميع - أصدقاء وأعداء - يسألونه بإصرار عما أنجزه في سبيل هذا الإثبات. وكان ثمة العديد من الأسباب التي تدعوه للوثوق في فكرته؛ فالأفكار الأخلاقية من اختراع العقل البشري، وليست نسخا من عناصر الطبيعة المختلفة، ولهذا التناقض آثار جوهرية على طبيعة الأفكار الأخلاقية، وعلى إمكانية إثباتها والتحقق من صحتها، إن كانت صحيحة من الأساس. يمثل هذا الرأي الركيزة الأساسية في الفكر الفلسفي الحديث الذي يفترض وجود فجوة هائلة بين الحقائق المتعلقة بالعالم (التي ربما يمكن معرفتها)، والقيم الإنسانية (التي يمكن ببساطة قبولها أو رفضها). وكان الفصل بين الحقيقة والقيمة هو نتاج مفهوم لوك عن المعرفة البشرية وهدم معتقداته بشأن القيم الإنسانية. ولأن الأفكار الأخلاقية كانت من اختراع العقل البشري، ولأنها تصاغ في صورة كلمات هي أيضا من اختراع العقل البشري، ففي مقدور الإنسان - إذا هو فقط كلف نفسه عناء ذلك - أن يفهمها فهما كاملا بنفسه، ويناقشها مع آخرين بطريقة تضمن لهم فهما كاملا ومساويا لفهم هذا الإنسان عنها.
أهم من ذلك أن اختراعات العقل البشري في مجال الأخلاق ليست اعتباطية؛ لأن جميع البشر - بحسب رأي لوك - في مقدورهم أن يتوصلوا إلى معرفة مؤكدة بالأدلة بوجود إله قادر يفرض قانونا يضبط أفعال الإنسان ويعاقب أولئك الذين ينتهكونه، ذلك لو أنهم فقط كلفوا أنفسهم عناء التفكير في هذه المسألة. ابتكرت المجتمعات البشرية على مدى تاريخها مجموعة كبيرة من المفاهيم الأخلاقية وتبنت قيما أخلاقية متنوعة للغاية، كما أنها نجحت إلى حد ما في تطبيق هذه القيم، من خلال الإلزام المباشر، ومن خلال الضغوط غير المباشرة لعاملي الاستحسان أو الاستنكار المتبادل، فيما يعرف باسم «قانون السمعة». ليس الوعي الأخلاقي بالأمر المتأصل في البشر بالفطرة؛ وفي الواقع، فإنه يتخذ أشكالا شتى في البلدان المختلفة، لكن من وجهة نظر لوك، ثمة شكل واحد ينبغي أن يتخذه دائما أينما كان؛ وهو: الشكل المبين في الوحي المسيحي الذي يقتضيه قانون الطبيعة؛ ذلك القانون الذي يستطيع الإنسان فهمه على نحو شامل ودقيق بنفس قدر فهمه للحقائق الرياضية. وليس ثمة ما يدعو إلى الاعتقاد بأن لوك تخلى عن وجهة النظر هذه أبدا، لكن ما تخلى عنه بوضوح حقا، بعد سلسلة من المحاولات الفاشلة لبناء نهج إثباتي من هذا النوع، هو الأمل في أن تمثل هذه المحاولات أية فرصة للتأثير في السلوك الذي يختار معظم الأفراد انتهاجه، والطريقة التي يسلكونها فعليا.
من منطلق ما نعرفه عن تأليف «مقال في الفهم البشري»، يبدو جليا أن التخلي عن هذا النهج كان يمثل تغييرا رئيسيا في الرأي الفكري. وفي الحقيقة، ثمة ما يدعو للاعتقاد بأن هذا التخلي قد عكس عزوف لوك عن أحد أكبر طموحين لديه أثناء كتابة هذا العمل، بل تبدد أيضا الأمل والغرض الأولان اللذان دفعاه في الأساس إلى كتابته منذ البداية (مقال في الفهم البشري). لكن، على الرغم من الاستهجان الذي لاقته نتيجة كهذه، فإنها لم تكن بالاستنتاج المفاجئ الذي يمكن أن نستخلصه من الحجج والنقاشات المطروحة في المقال ككل؛ فكل من المعرفة والاعتقاد العقلاني - بحسب تفسير لوك - إلزاميان في النهاية. وفي ضوء العلاقة المدركة بوضوح بين الأفكار، أو الدليل المباشر للحواس، أو التوازن الجلي بين الاحتمالات، لا يسع المرء إلا أن يعرف أو يشعر أو يحكم كما تملي عليه تلك الأمور، ولكان علم الأخلاق البرهاني سيتألف من تسلسل من العلاقات القائمة بين الأفكار التي إذا محصت بعناية وحكمة، فلا يسع المرء إلا أن يراها كما هي؛ ومن ثم لا يستطيع إنكارها. وبالمثل، فإن المرء لا يسعه في النهاية إلا أن يفعل ما هو أنسب له ولرغباته، وإن كان يستطيع قطعا - بل كثيرا أيضا ما ينبغي عليه - أن يتحقق من دوافعه، ويلزم نفسه بالتفكير مليا وعن وعي فيما إذا كان الأمر الذي يشعر أنه منجذبا إلى فعله فورا سيكون بالفعل التصرف الأفضل من وجهات النظر كافة. (المهم تحديدا أن يفعل الإنسان هذا، بما أن النعم الغائبة لا تسترعي الانتباه بنفس إلحاح المتاعب الحاضرة؛ ومن ثم تكون أقل تأثيرا في رغبات الإنسان (مقال في الفهم البشري).) فآلية الفهم البشري في حد ذاته وفي معظم النواحي الأكثر أهمية - «تلك النواحي التي تخص سلوكنا» - تسير كما ينبغي، لكن لا يمكن لتلك الآلية أن تسير على هذا النحو إلا في حال استخدم الإنسان هذا الفهم بهمة وعناية وحكمة. وإساءة استخدام العقل البشري في المعرفة العملية للطبيعة، لا تكون على الأرجح متعمدة؛ لذا من المتوقع أن الاهتمام الجيد بالوسائل التي ينتهجها العقل وتؤدي إلى نجاحه في أداء عمله سيساعد الإنسان مستقبلا في استخدام عقله على نحو أكثر فاعلية، وذلك من خلال البحث العلمي والعملي في ماهية العالم الطبيعي، وفي السعي وراء نعم الحياة وخيراتها؛ لكن عندما يتعلق الأمر بتحديد الإنسان للأسلوب الذي يعيش به، فإن كل البشر لديهم دوافع قوية وملحة لعدم الاكتراث كثيرا بهذا الموضوع، والتعامل معه على نحو أكثر مراوغة، وهم لا يملكون تلك الدوافع فحسب، لكن معظم الأفراد - حسبما كان لوك يحاول جاهدا أن يؤكد - كانوا في الحقيقة ينصاعون وراءها، ولا يبدون إلا قدرا ضئيلا للغاية من المقاومة. وبدلا من أن يحيوا حياتهم في ضوء الوعيد الإلهي بالألم المطلق والأبدي، فإن كثيرين حتى في البلدان المتحضرة يحيون كما لو كانوا ملحدين؛ فجميع البشر «عرضة للخطأ، ومعظمهم واقع - لأسباب عديدة سواء أكان بدافع العاطفة أم الرغبة - تحت غواية الخطيئة» (مقال في الفهم البشري). ومن ثم، فإن المطلب الأكثر إلحاحا لتحسين السلوك الأخلاقي لدى الفرد ليس وجود قدر أكبر من الوضوح الفكري، وإنما وجود قدر أكبر من المؤازرة التصورية الفعالة في مقاومة الغواية (ومن هنا جاء قرار لوك في غضون بضع سنوات من نشر «مقال في الفهم البشري» للمرة الأولى بإكمال هذا العمل بعمل آخر هو «معقولية المسيحية»، الذي يستعرض لوك فيه ما اعتبر أنه نسخة من العقيدة المسيحية على قدر بارز من الوضوح والبساطة والتوجيه).
صفحة غير معروفة