جينوسايد: الأرض والعرق والتاريخ

فهمي سعيد الشيخو ت. 1450 هجري
95

جينوسايد: الأرض والعرق والتاريخ

تصانيف

بعدها خرجت السيدة تريسا ونادت ويلدا وفاندا بصوت عال على غير عادتها، كانت عادة ترسل الخادمة «ماتيلدا» لأخذهما حين يجهز الغداء أو حين تريد أن تحممهما، أو تبدل ملابسهما. جرت التوءمتان نحوها وهما تلوحان إلى مايكل بيديهما للعودة حالا.

مرت ساعة تقريبا، ثم خرجت السيدة تريسا ممسكة بيد ويلدا وفاندا وركبت السيارة في المقعد الخلفي، ثم وضعت الخادمة ماتيلدا حقيبتين كبيرتين في صندوق السيارة، ثم تحركت نحو الباب الخارجي للمنزل والسيد آرنست يلوح بيده مودعا زوجته وطفلتيه وهن يلوحن له. كان المشهد غريبا جدا، ازدادت التساؤلات في ذهن مايكل ما الذي حدث؟ إن أرسلهم السيد آرنست إلى زيارة بيت أهلها، فلماذا هذه العجلة والحركات المربكة كأنها تريد الهرب لا الخروج إلى الزيارة! غريب أمرهم اليوم! بعدها لوح بيده إلى مايكل فهرع إليه. - نعم سيدي. - مهمتك من اليوم فصاعدا هي مساعدة «ماتيلدا» في المنزل. - أمرك سيدي.

في الأيام التي تلت رحيل زوجة السيد آرنست وطفلتيه من المنزل، حضر ضباط آخرون إلى منزله وأصبحوا مقيمين دائمين فيه، كان مايكل يراهم يجتمعون ويخططون لشيء لم يستطع معرفته إلا أن حالهم كان لا يسر؛ لقد تغيرت تلك الوجوه الجبارة التي لم يدخلها الخوف من أي شيء مذ رآها قبل عدة سنوات، أما اليوم فبات الخوف العنصر الأبرز فيها والأكثر وضوحا. لم يكن يعلم مايكل أن النازية بدأت تخسر الحرب وتتراجع وتفقد البلدان التي احتلتها تباعا، حتى وصلت قوات الحلفاء مشارف بولندا.

كانت الإذاعات النازية تصدح بالأغاني الحماسية وتحاول قدر الإمكان التماسك، ورفع الروح الحماسية لدى مواطنيها، ولا تنقل الصورة الحقيقية لمجريات الحرب، لكنها لا تجد مبررات لتلك الطائرات التي تقصف وتدمر المدن وتقتل العشرات منهم في عمق الأراضي الألمانية. يومها دعا السيد آرنست الضباط إلى اجتماع عاجل في مكتبه الخاص بالطابق الثاني للمنزل، كانت ماتيلدا كالعادة تنظف الصالة وتمسح الغبار من أطراف الأرائك الخشبية والطاولات وزجاج النوافذ بقماش ودلو صغير فيه ماء، بعد إكمالها التنظيف أبقت النوافذ مفتوحة وذهبت إلى المطبخ لتحضر وجبة الغداء. كان مايكل جالسا على الأريكة في الصالة حين هبت ريح قوية ودخلت من النوافذ المفتوحة وأوقعت المرآة المعلقة على الحائط المقابل لها.

هرع إلى أبواب النوافذ وأغلقها جميعا، ثم أقبلت ماتيلدا لترى ما الذي انكسر .. وقبل أن تصل هي وصل صوتها وهي تنادي: ما الذي انكسر؟

أصاب مايكل الذهول لبرهة، هز رأسه واختلجت عيناه، إنه نفس المشهد يوم هبت ريح قوية وانكسرت المرآة في بيتهم بميونخ قبل سبع سنوات تقريبا، يوم نادت أمه من المطبخ «ما الذي انكسر»، أيعقل أن الأسطورة الرومانية تكون صحيحة؟! «إن المرآة تحوي وتعكس روح صاحبها، وكسرها دليل على فنائه وموته. وانكسارها يجلب سبع سنوات من الحظ السيئ؛ لأن الروح بعد موت صاحبها تحتاج إلى سبع سنوات حتى تتشكل من جديد». حصلت تلك الحادثة في نوفمبر من سنة 1938 وهم الآن في يناير 1945، سبع سنوات تقريبا!

هل كان ذلك دليلا أن السنة السابعة هي الخلاص النهائي من القتل والتعذيب وأعمال السخرة وحرق الجثث، والتجارب الطبية الشنيعة، أم إنها أسطورة لا تحصل إلا على الضعفاء من البشر؟!

الفصل الرابع والثلاثون

قرية أنجرلك - تركيا 1914م

على سفح الجبل المطل على القرية تحت ظل شجرة الجوز كان أرتين يتأمل المنظر أمامه، البيوت المبنية من الحجر والطين ومداخنها المرتفعة التي يتصاعد منها دخان رمادي باهت، الطريق المتعرج المؤدي إلى الجبل، حيث تجلس مجموعة من النساء يخبزن بتنور ملاصق لبيت المختار تلمكيان، وأخريات ينظفن الحظائر ويجهزنها ويملأن السواقي بالماء قبل قدوم الرعاة مع المواشي. كانت القرية تعيش شيئا من الهدوء الذي لم تعهده منذ انتهاء الحرب الروسية العثمانية قبل أكثر من ثلاثة عقود، التفت يمنة على صوت أنوشكا، كان بانوس يلاعبها، يقذفها في السماء ثم يلتقطها وهي تطلق ضحكة تملأ المكان. - انتبه!

صفحة غير معروفة