التفت إليه مدهوشا ولم يحرك ساكنا، اختلجت عيناه وهز رأسه: أوه مايكل، صديقي العزيز!
تعانقا عناق الأحبة بعد غياب طويل. - كم أنا مشتاق إليك، هكذا تركتنا ورحلت فجأة حتى لم تودعنا .. يومها كنت أتمنى رؤيتك لكن في غير هذا الجحيم يا عزيزي.
أجلس مايكل بقربه وسأله: هل تم نقلكم هنا من معسكر داخاو يوم أبقوكم في الثكنة؟ - ما بك يا روبرت، حينها لم تكن بولندا محتلة من قبل الألمان، كيف يتم نقلنا إلى هنا؟ - ومن أين أعلم بذلك، أنا معتقل منذ سنوات، ولا أدري ماذا يجري خارج المعتقلات.
قص له مايكل ما جرى له يومها، وأخبره عن حماقته بعدم مغادرة البلاد خلال تلك الأشهر الثلاثة من التعهد، إلى أن نشبت الحرب وتغيرت كل الموازين، ومن ثم تم سوقهم إلى بولندا بقطار خاص لنقل المواشي. - يااه يا مايكل! كيف فعلت ذلك؟ من يجازف بالبقاء هناك بعد ما رأى كل ذلك العذاب؟! لو أتتني فرصتك لكنت الآن في أبعد مكان عن هذه البلاد الملعونة. - دعك من ذلك وأخبرني، أين بيتر؟ ما الذي حل به؟
صمت هنيهة وأطرق يقول بحسرة: إيه يا بيتر، ما الذي فعلته بنفسك؟ - أخبرني ماذا حصل له؟ - ما لبث يذكر يهوا ويتنقل بين المعتقلين يبشرهم إلى معتقده ويقول الموت قادم لا محال، موتوا على الطريق الصحيح، لا تخسروا يهوا، إنه ينتظركم بعد الموت، سيكافئكم بما تحملتم من عذاب وصبرتم في الدنيا، ويصدون عنه ويصر عليهم ويذكرهم بيهوا هكذا حتى وصل خبره إلى النازية، تخيل يا مايكل هو معتقل لأنه كان يبشر الناس بعقيدته ويتنقل بين بيوتات الألمان يبشرهم ثم يجازف هنا أيضا ويبشر المعتقلين الذين لا طاقة لهم لسماع أي شيء من التعب والمشقة. - ماذا فعلوا به؟ - أعدم. - أحقا ما تقول؟! - نعم، أعدم أمام الجميع في الساحة وهو يصيح: آمنوا بيهوا، آمنوا به، إنه المنقذ سأنتظركم هناك، مصيري اليوم هو مصير جميعكم غدا ... ولم يكمل كلماته الأخيرة حتى حالوا بينه وبينها، فانهمر الرصاص من فوهات البنادق على جسده فسقط جثة هامدة. - أووه يا بيتر! لروحه السلام، لقد كان يحمل إيمانا كبيرا بيهوا، عله هناك في السماء الآن في نعيم عنده. - ربما .. أنا لا أومن بهذا كله. - دعك من ذلك، وأخبرني أنت لماذا نقلت إلى هنا؟ - لم يتم نقلي أنا فقط، بل قاموا بنقل جميع من في الثكنة، وتم توزيعنا على المعسكرات المتفرقة بكل أنحاء سيطرة ألمانيا، وكان نصيبي هنا في هذا الجحيم الأكثر قسوة من داخاو. - في أي معسكر نحن؟ - في أوشفيتز، أكبر معسكر اعتقال في بولندا، حسب قول السجناء هنا، مساحته أكثر من 40 كيلومترا مربعا، وقد بني فوق قاعدة عسكرية سابقة جنوب بولندا قرب مدينة كراكوف، وخلال إنشاء المعسكر أغلقت جميع المعامل فيها، وتم إجبار سكان المناطق المجاورة على إخلاء منازلهم لغرض هدمها. الأمر المضحك أنه مكتوب في أعلى بوابة الدخول للمعسكر: «العمل يجعلكم أحرارا!» والعمل هنا جعلنا عبيدا!
ساد الصمت بينهما، ثم سأله مايكل: كيف تحملت هذه السنين في المعتقلات يا روبرت؟ فالذي يلاقيه السجناء في المعتقلات من نقص الغذاء والعمل المنهك للجسد لساعات طويلة دون توقف لا يمكن تحمله لمدة طويلة، لكل شيء حد وللقدرة البدنية حد أيضا. - أليست معجزة أنني حي إلى يومنا هذا؟
قالها مبتهجا وكأنه هزم النازية بعزيمته. - إنها كذلك وأكثر. - أتعلم أن ثلث عمري قضيته في السجون؟ - هل سجنت من ذي قبل؟ - نعم، حكم علي عشر سنوات مع الأعمال الشاقة، قبل وصول هتلر للحكم بعشر سنوات. - ماذا فعلت؟ - كان في قريتنا رجل غني جدا يمتلك ثلثي أراضي القرية، يبتز الفقراء ويستغلهم، يتفق معهم على أجور للعمل في أراضيه ورعي مواشيه وتنظيف الحظائر والاسطبلات، ثم لا يدفع أجورهم أو يأكل نصفها ويؤخر دفعها، متكئا على السلطة في القرية، ولا أحد يستطيع تقديم شكوى ضده، أو حتى إن قدمت شكوى ضده لا تحرك السلطة ساكنا؛ فهو الآمر الناهي والمتسلط على رقاب أولئك المساكين. لا أدري لسوء حظه أم لسوء حظي أنا، كنت بحاجة إلى المال حتى أسدد بعض الديون المترتبة علي، فاضطررت للعمل عنده، كنت شابا حينها في مطلع العشرين من عمري، مفتول العضلات شديد البأس لا أهاب أحدا في الدنيا، ولا أحسب لأي إنسان حسابا وأفعل ما أريد حتى ولو كان جنونيا. - كفاك تمدح بنفسك، أخبرني الآن لماذا حكم عليك عشر سنوات؟ - آتيك بالكلام، عملت عنده مدة ثلاثة أشهر في الأرض أحرثها وأزرعها وأسقيها، وبعد كل ذلك التعب والإرهاق اليومي، لم يدفع لي سوى أجرة نصف شهر، وكلما ذهبت لأطلب منه الباقي زجرني وقال إنك لا تستحق أكثر مما أعطيتك، الأرض لم تحرث جيدا، والزرع قد جف، إن شئت ابق وسأعطيك أجور الأشهر المقبلة إن صلح الزرع، وإلا فاذهب في سبيلك، هنالك العشرات من يقبلون شسع نعلي حتى أشغلهم عندي، قالها بتكبر رافعا رأسه إلى السماء، وقبل أن يدير ظهره لي لم أتمالك أعصابي إلا وأخرجت الخنجر من خصري وطعنته في بطنه عدة طعنات ثم وليت هاربا، لم أستطع الخلاص من رجاله الذين هبوا أمامي من كل حدب وصوب، أمسكوا بي وأشبعوني ضربا، وتم تسليمي إلى مركز الشرطة في القرية. - وهل مات؟ - ليته! - وكنت تتمنى موته؟ أنت مجنون حقا. - ولماذا طعنته إذا؟! هل كنت ألاعبه مثلا؟ موت مثل أولئك الكلاب خير للإنسانية جمعاء . - ماذا حصل بعد ذلك؟ أكمل! - نقلوني إلى المدينة وتمت محاكمتي خمس عشرة سنة مع الأعمال الشاقة، ثم تم تخفيف الحكم إلى عشر سنين بعد الطعن، وتقديم أدلة أنه لم يعطني أجور عملي عنده منذ أكثر من شهرين. وقد شهد بعض أهل القرية بذلك وأخبروا القاضي باستغلاله لهم وإهانته لكرامتهم. - قضيت عشر سنوات مع الأعمال الشاقة؟ - قضيتها نعم، وتعود جسدي على التعب وتحمل المشقة، لعل تلك السنين كانت مقدمة بسيطة لهذه الأيام التي سأقضيها هنا إلى نهاية العمر. •••
في فجر اليوم التالي تم سوق المعتقلين حفاة إلى الساحة على شكل طابور طويل، المسافة بين معتقل وآخر شبر واحد، الجميع مطأطئ الرأس وقد وضع كفيه على كتفي الذي أمامه، إلا الذي في المقدمة منسدل الذراعين ينظر إلى الأمام ويقود السير والحراس الألمان يحيطون بهم من كل جانب وفوهات بنادقهم مصوبة تجاههم، الطريق قد صار معبدا من وطأة أقدام المعتقلين عليه يوميا، كان العمل مقسما إلى مجموعات، فالمعتقل الجديد يوكل إليه مهمة تنظيف المراحيض، وإذا حدث أن بعضا من البراز قد تناثر إلى وجهه أو ثيابه وتقزز منها أثناء نقله عبر طريق وعر وأظهر انزعاجه من ذلك فكان يلقى العقاب مباشرة بالسوط من أحد الحراس. أما بقية المعتقلين فيتم توزيعهم بين حفر نفق لممر مائي تحت طريق من الطرق، أو قطع الأشجار ونقلها إلى مكان العمل في البناء وترميم البيوت. في اليوم الواحد كان يسقط العديد من المعتقلين ويغشى عليهم من التعب، فيتم حملهم وتكويمهم فوق بعضهم البعض على العربات التي تجرها الدواب في الأماكن الوعرة، وأحيانا في عربات عسكرية حسب موقع العمل، ويتم نقلهم للكشف عن حالتهم، والويل لمن يقع مغشيا عليه كذبا لغرض الاستراحة، على الفور يتم نقله إلى قسم التجارب الطبية وتكون أعضاء جسده أمام مشرحة الأطباء كجرذان المختبرات.
كان مايكل يحمل دلوا مليئا بالقذارة، ويتحاشى الأحجار أمامه لكيلا يتعثر بها ويسقط أرضا، فيكون من نصيبه سوط يرسم خطا مستقيما محمرا على ظهره، عند موضع جمع القذارة، انتبه من بعيد إلى أعمدة دخان أسود يتصاعد من أربع مداخن عالية تحيطها عدة ثكنات، قال في نفسه لربما مصنع للبلاستيك أو حرق للفحم بغية صهر المعادن وإعادة تشكيلها. عاد أدراجه نحو المراحيض اللعينة وهو يفكر في حال من يعملون هناك وتذكر تلك الحادثة التي حصلت في معسكر داخاو يوم حمل ذلك المسكين قطعة حديدية ساخنة بالخطأ واحترق باطن كفه ولم يتم إسعافه فبقي يتلوى على الأرض من شدة الألم.
الفصل الثامن والعشرون
صفحة غير معروفة