سكت حسن هنيهة، نظر صوب سور المدينة القديمة جهة باب العامود وكأنه يريد جنين. - أهي بعيدة من هنا؟ لم أزرها من قبل. - أتقصد جنين ؟
هز رأسه، دون أن ينظر إليها. - نعم هي بعيدة؛ فعندما نزورها نخرج من الصباح الباكر بسيارة نقل خاصة إلى رام الله، ثم إلى نابلس ثم طولكرم ثم من هناك إلى جنين ومنها إلى القرية. الطريق متعب جدا ومرهق، أبقى بقية اليوم كله نائمة بعد وصولنا من شدة التعب.
ساد صمت بينهما، كانا يجلسان في مكان مرتفع يتأملان المدينة والبيوت القديمة، الداخلين والخارجين منها وإليها، عربات محملة بالأكياس تجرها البغال، رجال ونساء وأطفال وأصوات الباعة تتعالى من هنا وهناك، مدينة تعج بالحياة، فيها اجتمعت الأعراق والأديان والملل والطوائف واللغات والألوان، وكأنها فسيفساء، كل قطعة فيها من بقعة مختلفة، فيها ترى الأرض وأنت جالس في مكانك، نظر إليها حسن وهي تتأمل الناس وقال: أتعلمين يا أنوشكا؟
التفتت إليه والخجل قد اعتلى وجهها الملائكي. - ماذا؟ - عيناك تشبه القدس، فيها من كل شيء شيء.
زاد خجلها خجلا واحمرت وجنتاها أكثر فأكثر، اقترب حسن منها وهو يرتجف، أمسكها من يديها الناعمتين، أغمض عينيه، انحنى نحو أذنها اليسرى، همس فيها بكلمة «أحبك»، ثم طبع في خدها قبلة رقيقة، أخرجت أنوشكا شهقة، وكأن الكلمة حبست أنفاسها والقبلة طرحتها. لم تستطع تحمل كل تلك المشاعر الهائجة، حملت نفسها وقالت: لقد تأخرت عن البيت، يجب أن أذهب. - متى نلتقي مجددا؟
لم ترد بشيء، شعر حسن أنه تجرأ كثيرا، وأن القبلة كانت غير موفقة، فأراد أن يستدرك الموقف: أنا آسف. - لماذا تتأسف؟ - ربما تجاوزت حدي واستعجلت ما يجيء بالتأني.
اغرورقت عيناها بالدموع، جثت على ركبتيها، وبدأت تبكي وتجهش بالبكاء وتشهق من شدة التأثر. - حسن، أرجوك لا تفض علي بكل تلك المشاعر مرة واحدة، أنا لا أتحمل كل هذا، ولا أعلم شعوري تجاهك حتى الآن، عندما سمعت من سكينة عن جولاتها معك ورأيت سعادتها الكبيرة وهي تتكلم، تمنيت أن يكون لي أخ يفعل ما تفعله معها، وعندما تتحدث الفتيات عن الحب وتقص إحداهن عن الهدايا التي تأتيها ممن تحب وعن الاهتمام الشديد بها، أتمنى أن يكون لي حبيب كالذي عندها، أنا أريد أخا وسندا وأمنا واهتماما وحتى حبا، كل هذه المشاعر حاضرة في ولا أعرف كيف أتصرف وكيف أكون حبيبة أحد.
مد يده حسن ليمسح الدموع من على خدها، ولم يعلق شيئا على قولها، أعطاها ابتسامة طمأنينة ثم أمسك يدها وقال: هيا بنا لنعود.
الفصل الرابع والعشرون
غيتو وارسو - بولندا 1941م
صفحة غير معروفة