إنها حرب باردة يا أبا خالد، اليهود يحاولون شراء الأراضي بشتى الطرق، واليوم لا يمتلكون القوة الكافية ليجبروا الفلاحين على بيع أراضيهم ومزارعهم، ولا ندري غدا ما سيحصل إن امتلكوا القوة والهيمنة، وها هي ألمانيا تجبر اليهود على الهجرة من أراضيها، وهؤلاء فيهم من الأغنياء أصحاب الثروات الكبيرة، وفيهم الفنيون والصانعون وغيرهم الكثير، وجميعهم تحاول الحركة الصهيونية جلبهم إلى فلسطين أرض الميعاد كما يسمونها، وبذلك يزداد خطرهم أكثر فأكثر، وها هم يسيطرون شيئا فشيئا على القطاع المصرفي والاستثمارات الصناعية في البلاد، حتى أصبحت لهم أياد طويلة في السوق. إنهم ينتشرون بيننا كالورم الخبيث، ونحن لا نفعل شيئا لنستأصلها .. هز رأسه متحسفا.
ظل أبو خالد ينصت جيدا إلى كلام أبي هشام الذي كان يسرد تفاصيل دقيقة للأوضاع المتأزمة في البلاد، ودب في قلبه خوف شديد، ومع ذلك كان يشعر بالطمأنينة لأنه سيبيع أرضه إلى رجل يحمل هم البلد ويقف سدا منيعا أمام الأطماع اليهودية على قدر استطاعته. - أبو هشام: إن كلامك هذا على خطورته الكبيرة يبعث في نفس من يبيعك أرضه الطمأنينة، وما حميتك هذه إلا دليل حرص منك، وقد سمعنا تجارا يشترون ممن يرفضون البيع لليهود بأسعار زهيدة مستغلين حاجتهم الماسة، ثم يبيعون تلك الأراضي لليهود بأضعاف ذلك، أنت ومن مثلك امتلكتم ثقة الناس، وهذا والله لشرف كبير لأي رجل وطني يحب أهله وأرضه. - هذا واجب يتحتم علينا يا أبا خالد، ولا منة لنا به على أحد، لكن أخبرني لماذا تريد بيع أرضك؟ إن كنت في حاجة قضيتها لك. - بارك الله لك في مالك، هي أرض متروكة منذ زمن انشغلنا عنها في تجارة الأحجار الكلسية علها تستر الحال، لكن المال في يد الناس قليل، والديون تراكمت على زبائني، وأنا أخجل من أن أطالب أحدا في هذه الظروف الصعبة التي نمر بها.
تنحنح أبو هشام وصب فنجان قهوة ثانية لأبي خالد، وقال: رحم الله جدي سالم، كان يقول إن الأراضي كانت تدار على نظام المشاع في القرى، ولم يكن هناك بيع وشراء، إنما تقسم بين الأهالي بالتراضي حتى أصدر الباب العالي للحكومة العثمانية فرمانا بتمليكها وتسجيلها عند الحكومة بغية معرفة كمية الأراضي المزروعة وتنظيم خراجها، واحتساب كفاية الدولة لمحاصيلها، ومنذ ذلك اليوم بدأت مشاكل الأراضي الزراعية؛ وبسبب جهل الفلاحين بالنظام الجديد حينها تم تسجيل آلاف الدونمات الزراعية بأسماء الموظفين المتنفذين في الدولة، عندها تحول الفلاح من مزارع يملك أرضه بنظام المشاع ويجني المحصود لنفسه إلى عامل في أرضه لا يكاد يجد قوت يومه! وتسببت تبعات ذلك الفرمان بعد عقود من الزمن في ازدياد هجرة الفلاحين للمدن.
هز أبو خالد رأسه مؤيدا وقال: رحم الله أجدادنا، كانت أيامهم أيام خير وبركة. •••
كانت أصوات زغاريد النساء تصدح عاليا في ذلك المساء الربيعي الهادئ، إنها ليلة الحناء لابنة خالة حسن، كانت أم هشام وأم أحمد زوجة حلاق الحارة ومعهما أخريات من أهل العريس يحملن الحناء ويرقصن حول العروس، ثم يقمن بلطخه على يد العروس ورجليها وجبينها، ومن ثم يوزعن ما تبقى منه على النساء .. وليلة الحناء كانت بمثابة حفل زفاف العروس بحضور صديقاتها، ورسم الحناء على اليدين والجبين هو بمثابة إعلان أن الفتاة انتقلت إلى بيت عريسها.
كان يقع على عاتق حسن وأخيه خالد توفير جميع متطلبات النساء من خارج البيت من كاسات وملاعق وأطباق وصوان إضافية من بيتهم أو بيت الجيران، وتحضير المعجنات من فرن الحي وإحضار كل ما يحتاجونه عند باب بيت خالته، فتخرج أم خالد أو سكينة لتأخذها إلى الداخل، كانت ليلة شاقة لحسن الذي جلس عند الباب يتذمر ويقول: هم يفرحون ويمرحون في الداخل، ونحن نركض لخدمتهم، فليقم بذلك أقرباء العريس، ما لي ولهم؛ لقد أنهكتني طلباتهم الكثيرة. - كفاك تتمتم وتتذمر، غدا ستتزوج أنت أيضا، وسيفعل لك يومها ما تفعله الآن وأكثر، ومن ثم هل تريد أن يقوم بهذا شخص غريب فتخرج إليه أختك وهي قد تزينت وتعطرت!
احمر وجه حسن وقال بصوت منخفض بالكاد سمعه خالد: لم أقصد هذا، لكنني تعبت ليس إلا.
أدار حسن وجهه عن أخيه ونظر نحو الجهة الأخرى من الحارة الضيقة المتعرجة وانتبه إلى ظل امرأة وفتاة سافرتين كانتا مقبلتين تجاههما من أقصى الحارة، كانت الإضاءة الخارجية للأزقة لا تظهر ملامحهما جيدا، وعند اقترابهما تسمر حسن واقفا وكأنه صعق مما رأى .. سألت المرأة حسن: العرس هنا؟ - نعم.
طرقت الباب، وكانت الفتاة تنظر إليه بأطراف عينيها خلسة عن أمها حتى خرجت سكينة واستقبلتهما وتبادلت القبلات مع الفتاة ثم أدخلتهما.
ابتهج حسن فرحا وهو يقول لنفسه إنها هي، والذي آمنت به بنو إسرائيل هي، لم يصدق الذي حصل، إنها صديقة أخته سكينة، أية هبة من السماء هذه، وأية فرحة سرت فيه وهو يسمع النساء يرددن الأهازيج على وقع الطبلة، ويغنين:
صفحة غير معروفة